قضايا وآراء

مظفر النواب... وحالة (ما بعد الحب) (1-3)/ حسين سرمك حسن

 ولكنها بلادي

 لا أبكي من القلب

 ولا أضحك من القلب

 ولا أموت من القلب

 إلا فيها .........)

(مظفر النواب)

من ديوان (للريل وحمد)

 

(العراق مثل ثمرة البصل .. كلما قشرتها أكثر، سالت دموعك أكثر)

 (............)

(العراق مثل المسك ... إذا أردت الحصول على رائحته، عليك أن تطحنه)

 (...........)

 

المنجز الشعري العامي للمبدع الكبير " مظفر النواب " ليس بحاجة إلى قاريء بل إلى " قرّاء "، ويمكننا القول أيضا أنه ليس بحاجة إلى ناقد بل إلى " نقّاد " وشتان بين " فاعل " و" فعّال " . هذا ما نحتاجه لكي " نقرأ " هذا المنجز بصورة صحيحة ودقيقة من الناحية الأسلوبية، مبنى ومعنى، خصوصا من وجهة النظر اللغوية النفسية التحليلية ، حيث لم تكتشف خفاياه اللاشعورية الهائلة والتي في حالة الإمساك بها فإنها لن تغني ثراء البحث النقدي لمشروع النواب وهو مشروع حياة كاملة حسب، بل تمسك بالعوامل الحاكمة المستترة التي شكلت منجزه الإبداعي وتفتح مغاليق نصوصه التي لم يغص النقاد في طبقاتها العميقة . ولا أتذكر من هو الناقد العراقي الذي كتب مقالة يصف فيها قصة حب (كاثرين إرينشو) لـ (جون هيثكليف)عند عرض فيلم (مرتفعات وذرنج) لأول مرّة ببغداد في بداية السبعينات بأنها حالة (ما بعد الحب) .وهذا الوصف الباهر (ما بعد الحب) هو الوصف الأكثر دقّة الذي يمكن أن يعبّر عن قصة حب مظفر للعراق وأرضه وشعبه، وتشرّب روحه بأريج التراب العراقي الطهور وانحيازه المطلق للمسحوقين المعذّبين من أبناء شعبه. في قصيدة (حچام البريس) يأتي العنوان كالعادة بسيطا مستلا من القصيدة .و(حچام) هو اسم (بطل) القصيدة ..بطل انتقاه الشاعر من صفوف الفلاحين المتعبين المضطهدين، يتصدى لقوى الطغيان والإقطاع،حاله حال أبطال آخرين جسد الشاعر نضالهم في قصائده مثل صويحب (قصيدة مامش مايل) أو سعود (قصيدة عشاير سعود) أو لعيبي (قصيدة جد ازيرج) أو غيلان (قصيدة سفن غيلان ازيرج) وغيرها . وفي كل هذه النصوص يأتي اسم البطل المنتقى شعبيا شائعا في أرياف العراق وأهواره لتعزيز مصداقية (الحكاية)وحرارتها .وفي لقاء شخصي مع المبدع النواب أشار إلى أن كل هذه الأسماء هي لأشخاص حقيقيين عايش معاناتهم وجهودهم النضالية ومواقفهم البطولية أيام كفاحه ضد السلطات الاستبدادية الحاكمة في مناطق الأهوار. ووجدت أن النواب يحمل عشقا عجيبا لهؤلاء الأشخاص البسطاء أرى من المناسب تماما وصفه بحالة (ما بعد الحب) . وقد ذكّرت النواب بـ (جابر البيلسان) وهو فلّاح بسيط مقاتل آخر عاش معه في الأهوار فقال : كان جابر مصابا بالسل الرئوي ومن النوع المتقدم جدا ..وكانت هناك (25) ألف إصابة بالسل في الأهوار .. وعلميا يجب أن تنتقل العدوى من جابر إلى كل الأشخاص الذين يعيشون معه، لكن جابر لم يتسبب في عدوى أي أحد .. إنها أيضا من حالات ما بعد الحب التي تعطل إرادتها حتى القوانين الفيزيائية والباثولوجية . وفي استهلال قصيدة (حچام) يقول الشاعر بلسان المتكلم :

(أواكح...

 چنّي (كأني) إيد تفوج

 مگطوعة أصابعها

 أشوغ ويه الشمس ليفوك

أعاتب گاع مدفون بنباعيها

 مكتوب ابلاويها

 اتحفر بيّه مساحيها )

وإذا كان في مفردة العنوان (حچام) نوع من الصرامة الحروفية التي يثيرها حرفا الحاء والجيم المعطّشة،وهما حرفان أثيران لدى الشاعر(راجع دراستنا:الخيميائي)، فإن هذه الصرامة الابتدائية تتسارع إيقاعيا ونفسيا ولغويا من الاستهلال العنيف بالفعل (أواكح) ثم بالفعل (أشوغ) ..والاستهلالات العنيفة الصادمة هي سمة حاسمة في جميع قصائد مظفر التي تتناول الهم الوطني ومعاناة الشعب :

# (ميلن ..لا تنگطن كحل فوك الدم

ميلن ..وردة الخزّامة تنگط سم) – قصيدة (مضايف هيل)-

# (هذوله احنه .. سرجنه الدم

 عله اصهيل الشگر .. يا سعود

 خلّينه زهر النجوم ..

 من جدح الحوافر سود) – قصيدة (عشاير سعود)-

# (تنذل انجومچ يالدنيه

 وعيناي بليلچ مشتعله

 وانشابچلچ ميّة منجل

 تنضح دم وانشلح الدوله)- قصيدة (مامش مايل)-

# (من دمّچ ..

 خذينه العرسه خزّامه

 خذينه برگع لحزنه ..

 رسمنه خنجر .. بسجنه

 وكتبنه حروف بحزامه)-قصيدة (جد إزيرج)-

.... وغيرها (ولاحظ تكرار مفردة الدم في هذه الأمثلة الاستهلالية ولكن لهذا وقفة خاصة) في حين نجد أن استهلالات القصائد العاطفية تكون هادئة الإيقاع وبمفردات مسالمة إذا جاز التعبير .وإذا عدنا إلى فعل الاستهلال (أواكح) وسرنا مع أفعال القصيدة حتى النهاية فسنجد مفارقة مهمة في استخدام الضمائر يمكن أن نعدّها سمة من سمات الإبداع النوّابي..ففي الغالبية المطلقة من قصائد مظفر الوطنية التي تتعامل مع عذابات شعبه يوجد ضمير واحد متسيّد تماما تقريبا وهو ضمير الجماعة المتكلّمة أمّا ضمير المتكلّم الفرد فهو استثناء (وبذلك تكون قصيدة- حچام - ومعها(حسن الشموس) أيضا استثناء نادرا ضمن هذا الإطار).أمّا في قصائده الوجدانية فالمعادلة معكوسة حيث تكون السيادة المطلقة فيها لضمير المتكلم الفرد،أمّا ضمير الجماعة المتكلمين فهو الاستثناء؛ بل يمكنني القول أن مظفر لم يكتب أي قصيدة عاطفية بضمير الجماعة . يبدو أن الحب والعشق شأن (الأنا) في حين أن العذاب الجمعي شأن (الأنا العليا) ممثلة الـ (نحن) في الجهاز النفسي الفردي . وبطبيعة الحال فإن الشاعر لا يقوم بهذا الأمر بعد أن يخطّط له على الورق .هذا أمر تلقائي تفرضه احتدامات اللّاشعور . اللاشعور الذي لا يكتفي بالفعل المعاند والتعرّضي :أواكح،لكنه يمعن في تفسيره من خلال صورة بالغة الضراوة يشبّه الشاعر فيها حاله كيد تفج أمواج الظلمات العاتية وهي مقطوعة الأصابع . وعند مراجعة نصوص الشاعر نجد ظاهرة أخرى ملفتة للنظر هي دقة وصرامة التشبيهات المرتبطة بالبيئة المائية . فهو كائن مائي ترعرع في أحضان أمومة الماء طفولة (عاش النواب طفولته في بيت على ضفة دجلة) ورشدا (أمضى الشاعر أقسى سنوات كفاحه في بحيرات الأهوار الجنوبية) . وليس غير اختصاصي في الحياة المائية بقادر على فهم مرارة معاناة فرد يسبح بيد مقطوعة الأصابع . وإذا لاحظنا الحالة الإعرابية لهذا الفعل وأفعال القصيدة الأخرى : أشوغ، أعاتب،أشمّس، أبوس، أمد ..فسنجد أن حركة السكون النهائية تمنح الفعل تأثيرا صادما وهو في حالته المضارعة حيث يبدو فعلا متحققا بخلاف حركة الضمّة في حالته أو مرادفه في الفصحى التي تضعف عزمه النفسي مستعيرين مفهوم العزم من الفيزياء .ويبدو أن مزاج الناس العامة (الشعبيين) في حركتهم اليومية المضنية هو غير مزاج اللغويين والنحويين الفصيحين المسترخين .عندما كنا صغارا كنا عندما نريد أن نضرب أحدا بالحجارة نقول له ونحن نحكم قبضتنا على الحجر : إجيتك أي (جئتك)- أي أن الفعل قد انتهى نفسيا في حين أنه مستمر عمليا .وهذه الصياغة ضد تحديدات الشعور الحازمة ولكنها من منتجات عبقرية اللاشعور. والفعل أواكح وصيغته الزمنية المضارعة مستمرة لكن الوقفة السكونية توحي لك وكأنه قد أُنجز عمليا . ومثل ذلك يقال عن باقي الأفعال .ومن عادة النواب أنه يشكل الصورة الشعرية (فعليا) . الصورة الشعرية النوابية تقوم على الفعل لا الاسم .. صوره حركية .. بل ضاجة بالحركة التي يشعل التضاد فعلها النفسي . مع شعر النواب دخلت السمة الدينامية الصراعية ساحة الشعر العامي . فالراوي (يواكح) بشراسة تصعّدها حقيقة أن أصابع يده مبتورة،وهو(يشوغ) ناقما إلى أقاصي السماوات ليعاتب أرضا خذلته(مقابلة أقصى الأعلى بالأسفل).وهذا التناقض الحاد يمثل انفصالا نفسيا في ذروة النقمة بين الأنا الشعري المراقب وبين الأنا - الموضوع المقطع الأوصال الذي ابتلعته الأرض الأم، التي يستولد مظفر عادة الأفعال من مسميات مكوناتها وليس العكس فيشتق الفعل (أشمّس) من مفردة الشمس :

(وأشمّس روحي بالسنبل

 يجي بروجة شمس..

 يسگي السفن والناس

 يسگيها )

ولأن مظفر كما وصفناه سابقا (فلّاح شعري) فإن البناء الشكلي لقصيدته يتأسس على مفردات اللغة الزراعية إذا جاز التعبير ؛مفردات الخصب والنماء التي يشيد منها معمار قصيدته حيث تزدحم ساحة هذه القصيدة بمفردات : الماء، الگاع، السنابل، الشمس، الشريعة، الهور،القصب، السقي، التمر، الطين،العنب ....إلخ . أمّا تركيبتها المضمونية فهي ساحة صراع في رحم الطبيعة الأم، فيه يتماهى الشاعر مع الأنموذج الجمعي كـ (شاعر قتيل) تقطّع أوصاله المساحي الباشطة ..وتنسرب روحه العنيدة في عروق السنابل،كخطوة تمهيدية على طريق انتظار المنقذ، الذي تتهاوى روح الشاعر المازوخية إلى أشد حالات الإنذلال ؛ تقبيل اليد .. لكنها تضحية مرجأة رغم أنها مستمرة كمشروع وكأمنية معطلة بسبب الإحباط والخيبة:

(أبوس إيد اللي يسگي الناس

 ويحمّل تمر، وسلاح، ورصاص

 بشرايعها

أبوس إيد اليشيل البرنو الزبنية

 بطرگ ثوبه،

 وأبايعها ...)

ومن هنا نكون قد دخلنا ساحة الاحتدام الحقيقية .وتكون الإشارة هو عدم تكرار حرف الروي – الياء، بعد هذا الموضع، أبدا .هنا تظهر احترافية مظفر " الحروفية " العالية . فحين يكون الانفعال صاخبا يستخدم الشاعر العين كحرف روي :

أواكح چني ...................... ومگطوعة أصابعها

أو :

أبوس ايد ......................... ورصاص بشرايعها

أو :

أبوس اليشيل البرنو....................... وابايعها

ولكن حين يكون الخطاب مظهرا لعملية تماه مع الأرض الأم نجده أكثر غنائية واسترخاء :

واشمّس روحي بالسنبل .................... يسگيها

أشوغ ويه الشمس ..........................ابنباعيها

 مكتوب ابلاويها

 اتحفر بيه مساحيها

ولا تضفي مفردات مثل (البلاوي) و(المساحي) أي لمسة صارمة على الصورة الشعرية .. فهي أشبه بهمسة عتاب ممتدة تفرضها العلاقة المازوخية الحيية للشاعر بأرضه .أما حين يُستفز وجدان الشاعر وتضج النقمة الممزوجة بالحيرة في أعماقه فإن وقفة القافية الأخيرة تأتي وكأنها تهديد ممزوج بنفاد صبر صارخ . يتضح هذا عند تحوله من بيتي التمني المعطل للمنقذ البطل الذي يحمل التمر والرصاص والبرنو (البندقية)الأصيلة إلى بيتي الأسف الممض على أرضه المستلبة التي يمهد لحالة استلابها بالحالة النقيض التي تؤججها أكثر- وهي من السمات الأسلوبية للنواب - حيث يهيئنا باستذكار جمال مرابعها .. وبتاريخها المقاوم العنيد . يفتتح البيتين بزفرة أسف حارقة تنبثق من أعماق روحه الآسية ممثلة بمفردة (أفه)المنطلقة مع الزفير المستنكر :

(أفه يا گاعنه ! الوكحة

 حلاة الليل، واهل الليل

 والنار ..

 ابمرابعها

 أفه يا گاعنه !

 السحگتها

 وانسحگت عليها

 جيوش يا بو جيوش

 وما بدلت طبايعها ..)

وتستمر زفرة الأسى الحارقة والشاعر يقارن بالواقع النقيض الذي يهز بهاء الذكرى ويمزقها.فالمرابع الساحرة العامرة بالرخاء والدفء والجمال استبيحت من قبل أكثر الكائنات جبنا، أما الإرادة الحديدية التي دوّخت التاريخ ؛ إرادة الأرض التي ابتلعت الغزاة بألوانهم وأشكالهم كافة ومهما كانت درجات جبروتهم، ابتلعتهم وظلت محافظة على أصالتها، لكنها الآن تواجه أحقر المصائر، عروس تُهتك أستار عرضها من قبل أكثر الوحوش انحطاطا ..وفي الذاكرة الشعبية فإن أبشع مصير ينتظر العروس هو أن يكون عريسها معروفا بغدره المسبق وانعدام وفائه :

(أفه يا گاع !

ينبت بيچ للواوي عنب

 يا طيبة

 ويعرّس عليچ الذيب !)

وهو يسرّب نداء طيبة أرضه بين صورتين مذلتين مريرتين وكأنه يوفر عذرا منكسرا لذاته من أوصاف الامتهان المؤذي التي لحقت بمحبوبته . وحرقة روح مظفر اللائبة مركبة تنبع من ازدواج حاله كشاعر وكمناضل .هذا الازدواج الذي يمعن البعض في إيهامنا من خلاله بخدعة أن المناضل شاعر على طريقته الخاصة .على العكس من هذه الأطروحة الخادعة فإن حسابات الشاعر تقف بالضد من حسابات المناضل، أبدا ولا تكملها .إن أخطر السمات التي تشكل مصيدة مهلكة للمناضل أن يتمتع بحسابات شاعر(هكذا انتحر جيفارا) . ولهذا تتحطم مشروعات الثوار الشرقيين رغم كل عظمتها،في حين تنجح مشروعات رجال الدولة بمختلف ألوانهم رغم أنها ذات طبيعة أرضية ماكرة ومدمرة وذلك لأنهم يفصلون الحس الشعري عن الدهاء السياسي . مظفر نفسه ورفاقه خسروا حلمهم كمناضلين لأنهم قاموا في الواقع بثورة شيوعية شعرية مسلحة ..هذا يؤكد لنا أن مظفر قد ولد للشعر، إنه منذور لمذبح الشعر، سالت دماؤه عليه حتى عندما كان ينشط في السياسة .وهاهو يوظّف مهاراته النضالية - نشاطات الـ (underground) السرّية ومصطلحاتها الحركية في تصوير محنته الدامية وانهمامه في سبيل إنقاذ أرضه المقدسة ؛ السراديب - وقد حفر مع رفاقه النفق الوحيد في تاريخ الهروب السياسي العراقي - والشطر الأحمر والحزب والخائن والخيانة وأسماء الأبطال البسطاء والشرطة والحوشية ..و .. و ... من أجل خدمة الحياة شعريا لا سياسيا.وهنا يفترق الشعر عن السياسة ؛ السياسي وأشرف صوره هو المناضل الثوري لا يؤمن بالمجاز ويجب عليه ذلك من أجل سلامة حساباته التي ينبغي أن تكون دقيقة ومضبوطة النتائج .أي حماسة مجازية تكلف خسائر جسيمة في الأعمار والآمال والأحلام والدماء .في التعبيرات المجازية مقتل المناضلين، لكن المناضلين العراقيين – لأنهم يتسلحون برؤى وأرواح العشاق أولا ولأنهم من سلالات شعرية منذ فجر التاريخ ثانيا – نجدهم يحيون في المجاز، ولهذا تتكسر أحلامهم الهشة على صخرة السياسة المسننة .يتضح هذا الفارق الشاسع في الأوصاف السيئة، في الشتائم التي يستخدمها الشاعر لتأجيج النقمة المعاكسة :

(أمد صبري اعله صبرچ، واحفر سراديب

 لو صرتي زبل، من زود المزبلين

 لو داروا عليچ سيان طينتهم،

 يا حلوه

 سنين)

ومن المؤسف أن شتائم مظفر والأوصاف البذيئة والأفعال التحرّشية لم تحض بوقفات نقدية متأنية .وقد عجبت ذات مرّة حين قرأت إدانات بعض النقاد والسياسيين لشتائم الشاعر التي ترد في نصوصه .يقولون : لا يجوز للشاعر أن يستخدم التعبيرات البذيئة في المجتمع العربي الذي تشكل ثقافته وسلوكه قيم دينية معروفة .لكنني أسأل : هل هناك شيء غير بذيء في الحياة العربية ؟ هل يوجد عهر داعر يفوق عهر السياسة العربية ؟ يصفون السياسيين بأنهم مثل العاهرات، وهذا ظلم فادح نوقعه على العاهرات . المومس تقدّم لك لذة محسوبة مقابل المال .وأحيانا تمنحك فوق ما كنت تنتظر من نشوة ورعاية .وقد تتعاطف مع همومك في استجابة أمومية تصل أعظم تجلياتها في ما اصطلح عليه بوصف " المومس الفاضلة " المأخوذ عن "سارتر " . لكن ما هي اللذة التي يقدمها لنا السياسي الداعر؟. إنه يحطم مستقبلك ومستقبل أطفالك ويسحق مقدرات وطنك وينهب ثروات شعبك دون أن يقدم شيئا مقابل ذلك،وبذلك فهو أحط من المومسات ! .ولكن لشتائم مظفر جذرا آخر نفسيا غائرا غفل عنه الكثيرون من النقاد ويتعلق باللعب المصلحي-النفسي- المتبادل بين الشاعر والمتلقي . فللشاعر فوق الضرورات الفكرية والنضالية لهذا السلوك الشعري هناك ضرورة إبداعية .إنها نتاج عجز اللغة الشعرية التقليدية عن تجسيد حالة ما بعد النقمة .إنه العي الذي ينتابنا حين تجتاحنا حالات أقصى الغضب..فنصمت . إن هذه الشتائم هي في الواقع أقصى الصمت، وهي الوجه الآخر لبلاغته . وهناك ناحية أخرى، فمن خلال متابعة النمو النفسي للطفل نجده يحصل على لذة كبرى حين يحوز على اللغة .إنها الأداة الأعظم التي تعزز شعوره بالقدرة الكلية -omnipotence، يقول للشيء كن فيكون،وبدل الصراخ المضني الذي قد لا يتبعه حضور موضوع الرغبة- الأم ،أصبح هذا الموضوع (تخلقه) الكلمة البسيطة وتتسبب في حضوره بلا عناء .هنا تتجلى أول تمظهرات سحر اللغة الآسر.لكن بعد أن نكبر وننضج وندرك الطبيعة القامعة للحياة الاجتماعية وكيف أنها لا تخضع للرغبة ولا لفعل اللغة، تفقد اللغة سحرها ولا يبقى منه سوى المفردات والصياغات التي ترتبط بالمجازات الشعرية وعبارات التجديف والشتائم والكلمات البذيئة .هذه فقط تعيد للغة دهشتها الطفلية الأولى. ولعل هذا هو القاسم المشترك الذي يجعل طرفي العملية الإبداعية ؛ الشاعر والمتلقي يجدان لذة كبرى في الشتائم الشعرية ويتصافقان عليها في اتفاق غير معلن . لكن الأوصاف السوقية في ذينك البيتين لهما ميزة إجرائية مضافة، فهما يعبران عن الولاء،بل عن ما بعد الولاء.فالتعلق بالمحبوب يتصاعد كلما ازداد بهاء المحبوب وألقه .هذا ديدن العاشقين عبر العصور وهي القاعدة الحاكمة الأثيرة ولا استثناء خادع لها في الولاء للمحبوب بعد انهياره أو مرضه أو هلاكه، لأن هذا مسبوق بالصورة الباذخة له والإشباع المتحصل قبل الحالة السلبية،هذه هي حالة الحب التقليدية .لكن مظفر يعيش وضعا متفردا ومختلفا،إنه متلبس بحالة "ما بعد الحب" العجيبة. هنا ينمو الولاء بدرجة أشد في حالة انكسار المحبوب ليس لأن صورة العودة الصحية المختزنة هي الأساس المرجعي المشبع من قبل، فقد فتح مظفر عينيه على الحياة وأرضه ترزح مُذلّة تحت أكوام تاريخية من أزبال الطغاة المزبلين ومختنقة الأنفاس بفعل سيان طين الاضطهاد والحرمان والموت والخراب ، إن البهاء يستعر حين تتراكم على المحبوب الفضلات الخانقة،لأن الصورة مشتقة أساسا من صورة الرمز الأمومي المبارك المطبوع كوشم فرعوني على صفحات الوجدان . في أغنية للمطرب الريفي "ناصر حكيم" يقول:"بسيان أحط الروح ..وأسحگ عليها ".أين تجد توصيف مثل هذا الغضب الرهيب ؟ تجده في حالة ما بعد الغضب،حين ترتد النقمة ثأرا مسعورا، لكن من من؟،من الذات!! ..ومظفر في الواقع يعذب ذاته في تأكيد ولاءه لحبيبته- أرضه وهي تصبح نفاية من نفايات المتسلطين، ويغرقها "سيان" الغادرين المستذئبين .ومثلما مرّر مفردتي "الوكحة " و"يا طيبة " لكسر السياق المذل قبل قليل،سرّب الآن باتساق رخو ومهادن مفردة "يا حلوة " وسط "سيان طينتهم " الذي غطاها لقرون طويلة، ويبدو أن مظفر المتسلح برؤيا الشاعر، وكأنه يصدمنا بنبوءة،فكل التصورات المتحسبة التي طرحها،كقلق شعري يحايث عالمه المادي على الورق،تتحقق الآن، ورغم ذلك، ورغم مرور أكثر من خمسين عاما،فإن الرقية العجيبة التي طرحها النواب وهو يتعرف على ملامح حبيبته متحسسا إياها بغريزة أنامل العشق الأعمى "وسط زبل المزبلين " وقد شحبت تلك الملامح في الذاكرة،نشعر أننا في أمس الحاجة إليها الآن أكثر من أي وقت مضى، في هذه المرحلة التاريخية المصيرية من حياة شعبنا حيث يباع العراق في أسواق النخاسة . ومشكلة العراق هو أنه مثل ثمرة البصل كلما قشرتها أكثر سالت دموعك أكثر، ومظفر مصر باستماتة على المضي فيهذه العملية المازوخية إلى النهاية (هي حالة ما بعد الحب) . قلت كثيرا أن المبدع الجبار هو من يمسك بإحكام بالإجابة الشافية على سؤالين حاسمين : الأول هو الرؤية (بالتاء المربوطة)، أما الثاني فهو الرؤيا(بالألف الممدودة) .الرؤية تتعلق بسؤال مركزي هو : كيف أكتب ؟ أي (التقنية)، أما الرؤيا فتتعلق بالسؤال المركزي الآخر وهو : لماذا أكتب ؟ (الفلسفة أو الموقف الوجودي من الابداع أو ببساطة الجدوى من كتابة الشعر)،ووسط الأزبال التي كتمت أنفاس الحبيب يقف مظفر فوق أطروحات الرؤية والرؤيا على حد سواء،يجمعهما في تعبير بسيط ومركب وشديد الأذى :

(أگولن گاعي وأعرفها

 أگولن گاعي،

 يتنفس بريتي ترابها .......

 وحبها ... وبصلها ....والشمس ... والطين..

 باعوني عليها

 وخضّرت عيني بدمعها

 وماني بايعها)

وسنلاحظ ظاهرة أخرى تتمثل في أن النواب صانع ماهر بوعي متقد .إنه يصنع القصيدة ؛ بمعنى أنها تستنزفه وتتطلب منه تركيزا هائلا وانتباهة شديدة لكل كلمة .. بل لكل حرف.وهذا يذكرنا بما قاله شاعر ألمانيا العظيم " هاينه " :"يتحدثون عن الإلهام وأنا أعمل كالحداد".هناك أسرار في الصنعة النوابية إذا فككت رموزها ستتأكد أن مظفر ينطبق عليه قول "إليوت" : (الكتابة هي تحويل الدم إلى حبر).قبل النواب لم يكن هناك حساب لحرف ولم يكن هناك فهم للدلالات الموسيقية والنفسية للحرف وليس للكلمة حسب . النواب لم يعد الاعتبار للمفردة فقط بل للحرف أيضا . الكثير من الشعراء ينسون دلالات المفردات الحاكمة التي شيدوا عليها بنية القصيدة .والأشد هو عدم انهمامهم بالحرف ؛ خصوصا رسم شكله وجرسه الموسيقي .على مستوى الكلمة يوظف الشاعر المفردة المركزية وهي هنا مفردة " الگاع" ليس ككلمة هي الأكثر تكرارا في القصيدة حسب بل إن المناخ اللغوي في القصيدة يسيطر عليه الحرفان الرئيسيان منها ؛ العين والكاف الفارسية "گـ" حيث تطغى بصورة كاسحة المفردات التي تضم هذين الحرفين وهي بالعشرات .إنك تشعر كأن النسيج اللغوي للقصيدة قد تم غزله من خيطي الحرفين الأساسيين اللذين تتعشق معهما على أرضية القصيدة ألوان حروفية أخرى ثانوية .إن هذه المهارة- السر-الدرس النوابي تحفظ للقصيدة وحدتها العضوية الصوتية إذا جاز التعبير وهو الأمر الذي لم يكن موضع أي درجة من اهتمام الشعراء السابقين الذين كانت اللغة تسوق إرادتهم الشعرية الفجة لا العكس .مظفر يتلاعب بأطروحة "هيدجر" في أن العقل سجين اللغة والتي تطرّف في تشكيلها البنيويون- ميشيل فوكو تحديدا-بدرجة أشد فجعلوا العقل سجين الكلمة / المفردة وليس اللغة الواسعة . أثبت مظفر أن اللغة مطيّة اللاشعور الخلّاق يتلاعب بها كيف يشاء وخصوصا في مجال الوحدة العضوية الصوتية واللغوية . في مجال الأخيرة تحدث الشاعر في البيتين السابقين عن الحيف الذي لحق بمحبوبته / أرضه من فضلات طينهم " السيان"،ولهذا يعلن الولاء المميت المضاد- ولاء ما بعد الحب،من خلال النقمة نفسها التي أذلت المحبوب ؛ الطين الملوث، الذي يحتضنه الشاعر الآن نقيا ليس بيديه أو في أحضانه ؛ ولكن في رئتيه مع شمسها وحبها والأغرب مع "بصلها" وكلها حوّلها مظفر إلى عناصر هوائية شمّية تكمن في رئتيه كتعبير عن الارتباط المصيري كحياة أو موت لأن انقطاع الهواء لأي سبب مثلا يعني موت الأثنين ؛ الشاعر وأرضه .. أي أن الشاعر لم ينس "ثيمة" الطين .ولو راجعنا القصيدة بدقة وتمعن ثاقب متأن لوجدنا سرّا اسلوبيا آخر يرتبط بالوحدة الموضوعية اللغوية وهو ما يمكن أن نسمّيه بـ"التسليم" الذي يشبه تسليم العصا بين عدّائي لعبة جري البريد الرياضية التي تنتقل من بيت إلى آخر ليجعل أبيات القصيدة وكأنها حبات مسبحة مختلفة الألوان تبزغ بين كل مجموعة وأخرى "حبة" لغوية تذكّر بالوحدة اللغوية والدلالية والصوتية وتسخّر كل المفردات السابقة لخدمة الهدف المضموني أو الرمزي الذي صممه الشاعر . كان الشاعر التقليدي - قبل مظفر- يكتب البيت و"يتركه" وكأنه جزيرة نائية منفصلة لا تمت بصلة بجزيرة البيت السابق .كانت عملية تنضيد ميكانيكية لبيت فوق بيت ..هذا حال القصيدة قبل النواب، بعده ظهرت معضلة الحفاظ على الوحدة الموضوعية للقصيدة التي أسسها هو.وهي معضلة لأنها مهمة صعبة وشائكة . ابتكر النواب طرقا كثيرة خلاقة للحفاظ على وحدة القصيدة . منها أنه ينتقل من بيت إلى آخر محتفظا بالمفردة المركزية التي تتحرك في أدوارها من مفردة قافية إلى مفردة استهلالية لبيت،أو مفردة حاكمة ضمن سياق البيت الشعري.تنتقل مفردة "الطين" بين ثلاثة أبيات تشد لحمتها اللفظة المجردة ولكن التعزيز الوثيق هو الالتحام المضموني المتغير الذي يفرضه السياق - context والذي لا يخرج من دائرة المعاني الرمزية الجمعية التي تختمر في أعماق الشاعر .وحتى وقفات التغزل الإيجابية (يا حلوة،يا طيبة) أو السلبية المحببة (يا وكحة)هي "حبّات" تتسلل بخفة بين سلسلة الأبيات الملتهبة لـ"توحّدها" بانسجام متقن . وبعد أن أشبعت القصيدة بمفردات حرف العين بصورة مقصودة والمشتقة من لفظة "الگاع" المركزية وحرف العين بتكراره يصبح"عينا" عضوية فعلية نفسيا إذا جاز الوصف .ولهذا نغرق باللعب الطافح المنضبط لمفردات حرف العين التي أوصلتنا إلى معادلة مبهرة عن اخضرار عين المحب وسط دموع الحبيب المغدور " وخضّرت عيني بدمعها " . لكن ليس المهم ثيمة المركز التي كانت تضيع وسط استطالات الوصف الجاف المكرّر اللغوي المفرغ من روحه، المهم هي "الحبة" المركزية .. القائدة .. المتسيدة .. التي يوظفها مظفر لإحكام الصلة الراهنية المستترة التي لا نحس بها إلا عندما ننتبه إلى البيت التالي الذي تسري في عروقه دماء "عين" البيت السابق .."خضرت عيني بدمعها " إلى :

" وحگ الشطر الأحمر

 والليالي الغبرة

 يگويعة

 أموتن وانتي حدر العين

 تتونسين) القصيدة كلها تدور حول العين .. عين الخيبة .. عين الوجود ؛ الفردي والعام، المحاط بالتهديدات الموغلة في الأذى .. العين التي سيخفي فيها مظفر وتحت طياتها خيبته العظيمة المؤذية،قاسما بـ "الشطر الأحمر"و "حوبته" المدمرة وهو قسم لو تعلمون عظيم . وفي ثلاثة أبيات تتكرر مفردات حرف العين تسع مرات وكلها حرقة حلقية بعيدة قريبة من أقصى انطلاقة الزفير الرئوي الفاجع ..في اشتعالها المجازي الحارق . وفي الاحتضان البارع للأرض "الگويعة" تحت العين يعيدك النواب- الذي لا ينسى ولا تفلت من أنامله الماهرة حبات المسبحة السردية – يعيدك الشاعر إلى العين التي نبتت وأينعت في حضن دموع الأرض المعشوقة(لاحظ لاحقا وصف : بيها يخضر من عيونه البربين). فما دامت عينه قد عاشت من دمع عين الأرض الأم فإن الموضع الطبيعي للحفاظ على هذه الحبيبة الصغيرة " الگويعة" هي العين ..وقد جعل الاستعداد النفسي الشاعر يصغّر الگاع إلى "گويعة " لتعزيز مصداقية المهمة من خلال التناسب " الحجمي " والشكلي .وفي سياق البيت يعيدك الشاعر إلى المقابلة بين الإمساك القدري بالأرض التي: "باعوني عليها"وبين الإصرار الحازم على عدم التخلي أو " البراءة " منها : "ماني بايعها" . وكثيرا ما تزدحم قصيدة النواب بهذه " الجناسات " اللفظية التي تعزز وحدتها الموسيقية : باعوني ...... بايعها أشمّس ....... شمس السحگتها ...... وانسحگت جرحها ........ الجرح غرنوگ......... نوگ أهلّي ........... هلّيت يتغاوة ........... مغاوة ومثلها فعل "الطباقات " التي تشعل بتضادها اللفظي والمعنوي لهيب الصورة الشعرية : أموتن ........... تتونسين الشوف .......... العمى الضيّق ........ الوسيع نعيش .......... نموت العدل ........... الميت الصوت ........ بسكوت ودائما تشعر أن في سرد مظفر الشعري روحا " أنثوية " مباركة هي الأصل في كل ما تأسس في تاريخ البشرية من حضارات وعطاءات مهيبة ومن بين أبهى تلك العطاءات هو الشعر الذي هو منجز أمومي نشأت جذوره في روح الأم وهي راكعة تغني وتهدهد قرب مهد رضيعها المدلل . يتجلى هذا كثيرا في لعبة "التصغير" الأمومية أصلا، اللعبة التي أدخلها النواب إلى الشعر العامي العراقي فصارت لازمة في القصيدة العامية العراقية التي تلت منجزه،ولم يستخدمها الشعراء العاميون بعده حسب بل أفرطوا في استخدامها ناسين درس النواب الأساسي المتمثل في الموقع المناسب لحبة المسبحة . قبل النواب كان الطابع الطاغي المفرط في أداء القصيدة العامية هو طابع "التضخيم" و" التكبير " الرجولي الذي هو تمظهر رمزي لاشعوري للانتفاخ القضيبي الذكوري المتنفج، في حين أن الرحم الأمومي يصغّر كي يستوعب ويحتضن .النواب هو أول من أعاد للقصيدة روحها الأنثوية- الأمومية - روح الخصب والنماء والرحم الفردوسي الكريم . ولو لاحقنا روحية خطابه في كل قصائده - وفي هذه القصيدة تحديدا - سنجد أن هذه الروحية هي روحية أنثوية حانية .. والنداء ذو مسحة أنثوية رغم أن الشاعر قد موّه بمهارة هوية الراوي ولم يفصح عن طبيعته :

(أفه يا رجال طين عراگنه الطيبين

 تنسون المراجل ؟

 والمراجل بيكم اتسمت مراجل

 كلفه يا معودين)

هنا وحسب طبيعة الخطاب في هذا البيت والأبيات التي تليه : (أگل للروح ..) ..(يا معودين أهلنه ...) ..(ولك ردّوا ..حنيني)، نتحسس أسى أنثويا تنطلق فيه صيحات النخوة من موقع أمومي ينتخي وبستثير همم الأهل – الأبناء من خلال نداء "باطني" يتفجع على الروح والحليب والمراضع .. ويذكّر بالذات المتعبة والتي تتطلب العون السافر .لا ينطلق نداء النخوة من رجل لرجل بهذه الصورة التي يكون فيها المنادي محتضنا ومستبطنا لعذابات روحه، هذا يخالف الطبائع القيمية للشعب العراقي .لا ينتخي الذكر الفرد بذكر فرد وفق هذا المنطق .. تأتي الدعوة الذكورية حادّة مباشرة و" خارجية " - على طريقة صيحة : " ها خوتي هاه " هذه الصيحة التي تستخدمها اسعيده قبيل النهاية التي يحكم سياقها الخطاب الانثوي -،إن النخوة الذكورية لا تصور نفسها للطرف الآخر المجافي في صورة عتاب مع النفس يقترب من النعي ويضعها في هيئة الهدف الأنثوي الذي يتطلب الانقاذ، ولا تنعت الطرف المنتخى به بنقص المراجل وانخذال الإرادة .. هذا التحشيم المحصّن الذي تكون فيه للمهجور موقفا دالا على الآخر الذي يطلب العون منه لا يصدر إلا من أم تستثير همة الأبناء المجافين للعودة إلى حضن الأم الأصل – الأرض . وهذا ما حصل فعلا – وإن بصورة شعرية مواربة – لأننا لن نجد دعوة صارخة لمصلحة ذاتية مكشوفة .. هذه عادات الأمومة المستغيثة التي تنطلق نداءاتها نحو الأبناء ومن أجل الأبناء .. من أجل (حچام) : (يمعودين أهلنه الگاع ضيجه من عگبكم ما تسع حچام)

ورغم أن الاستهلال كان ذكوريا فيه قوة وجسارة :" أواكح " وعلى الرغم من ظهور الضمير المتكلم المذكر في البيت الثاني من خلال الصفات الذكورية : "مدفون" و"مكتوب" .. والتي تشير إلى أن الراوي رجل .. لكن تبقى سمة الخطاب الأساسية أنثوية .. ولو أمعنت النظر في البناء اللغويّ لهذا البيت المركب الذي تتأسس من جديد على الطين "يا رجال طين عراگنه الطيبين " ستلتقط تكرار مفردة العين - ووفق الأساس الرؤيؤي "الرؤية" - التقنية – نفسه ستجد ظاهرة أسلوبية مضافة وهي أن الشاعر يوقّع موسيقاه اللفظية في الأشطر الداخلية نفسها من خلال المعاودة إلى موسيقية الحرف . خذ هنا حرف الجيم " أفه يا رجال تنسون المراجل ؟ والمراجل بيكم تسمّت مراجل، مثلما وللتذكير- يحصل رد الفعل الإيقاعي المماثل في "أفه يا گاعنه السحگتها وانسحگت عليها جيوش يا بو جيوش " حيث تقابل حرف السين والشين " أو التوالي المُلذ لحرف السين القريب من الهمس حين يقول : (وأشمس روحي بالسنبل.... يجي بروجة شمس ..يسگي السفن والناس... يسگيها).

ويبدأ الإفصاح الأنثوي الحيي من خلال ازدحام الخطاب بالمفردات الأمومية وبالعتاب المحب الأخاذ .. الذي يتسع كموجات صادمة-وبالمناسبة فإن قصائد مظفر ككائن مائي مفعمة برشاقة اتساع الموجات المائية حين نرمي حجرا في ماء النهر، لكن ليس في مركزه بل قريبا من شاطئه . وتتكرّر هذه الظاهرة حين يتكرر حرف الحاء بحرقته المؤصلة الساخنة التي تلهب حنجرة الروح في عمقها الذي يسخن نياط النفس التي لا تستطيع نسيان جرعة الحليب الوجودية المنعمة .. ولكن الأهم هو أن حرف العين كحرف روي يقف من جديد وهنا تبدو زفرة النقمة مستكملة من خلال نفثة الآه الحارقة كأنها تبغي تحقيق الخلاص . وهذه الحرفة تتأكد من خلال التناوب الخلاق الذي تشهده الأبيات الأخرى بين حرفين يجمعهما التوليد النغمي الموسيقي لكن لم يحصل على يدي أحد من شعراء العامية أن يوظف هذا التناوب لتجسيد المضمون المحتدم "حرفيا "، تجد هذا في تناوب حرف الحاء والجيم في كلمات متعاقبة مثل جرحها والجرح والحليب والحچي :

(أگل للروح تنسيهم ؟

 تدنج راسها

 وتسكت

 حليب البيها مانعها

 كل روح ومراضعها

 كل إيد وأصابعها

كل روح وجرحها، الجرح ما ينلام

 يا معودين أهلنه

 يلحچيكم

 يالنشامه

 حزام)

أو : (نبگ حچام

 والحاجب نسر فارش جناحينه

 بوكاحه يطير)

أو توالي مفردات فيها حرف الطاء والضاد والصاد والظاء : (لگطها ابساع

 يالوحدچ شريفة

 وبيّت الضيم بزمرها

 وخطّن العينين سچة غيظ

 فوگ الماي)

و :

(... يا گلبي رص ظهري

 الوحيد العارچ بطوله

 ايتحده وما يعرف الموت

 ولا ينضام

 تگلّط مني يا گلبي ؟)

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1566 الخميس 04 /11 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم