قضايا وآراء

مظفر النواب... وحالة (ما بعد الحب) (2-3)/ حسين سرمك حسن

المتلقي فيستعيد ربط "حبات" المسبحة اللغوية السابقة ..النواب صاح ومتيقظ ومتحفز وهو في ذروة نشوة الخلق .. هذا ما يميز المبدع المحترف عن المبدع الهاوي إذا جاز مثل هذا التقسيم ..لا تغيّب نشوة الخلق البصيرة " البنائية " لدى الشاعر .في البيت الأول قال :"أواكح ..چني إيد تفوج .. مگطوعة أصابعها " ..وفي هذا البيت يعود ليقول بعد أن قطعنا شوطا مع أبيات القصيدة : كل روح ومراضعها .. وكل إيد وأصابعها " .. صحيح أن البعد الدلالي قد تغير نسبيا الآن في البيت الأخير عنه في البيت الأول، إلا أن التنبيه وتحفيزة الإيقاظ بالنسبة للقاريء سوف تتحقق من خلال التداعي المقارن من حالة التوظيف الثانية إلى الأولى .في القصيدة كانت المفردة الإستهلالية في البيت الأول هو الفعل "أواكح" : (أواكح،چني إيد تفوج)، الذي أعاد استخدام الصفة المؤنثة المشتقة منه " وكحة " التي وصف بها الأرض (أفه يا گاعنه الوكحة) ثم الصفة الذكورية " وكح " التي وصفت اسعيدة شقيقها حچام : (يا واگف وكح طرگ الجلد والطين)، ليعود إلى الفعل في صيغة مضارعة للغائب : (جرحنه يواكح صوابه) ثم ليعيد استعمال الصيغة المتكلمة – الأنا " أواكح " التي افتتح بها قصيدته . ميزة النواب هو أنه يقلّب المفردة على وجوهها .. يعتصرها دلاليا .. يمتص روحها الدلالية ويلقي قشرتها الحروفية :(وأواكح بيها جوع ضباع) . ليس هذا حسب،بل أن المهارة النوابية في التكرار لا تصحي الانتباهة فقط بل تغيبها أحيانا من خلال الإيقاعية اللاهثة الضاجة ..فمن القواعد التقليدية في بناء القصيدة أن لا يكرر الشاعر الكلمة نفسها في ختام البيت كمفردة قافية ؛ لكن النواب يعيد استخدام اللفظة ذاتها في أكثر من بيت من دون أن يشعر المتلقي بحالة التكرار أو ابتذال الاستخدام المعاد .كرّر استخدام مفردة "حزام" مرتين :

أ - يمعودين .. أهلنه، يلحچيكم .. يالنشامه.. حزام

ب - يا حچام اسمع گصبه ..گصبه

 وبالك تعوف الگصب ..ليل الغموگة حزام

وأعاد استخدام كلمة "تنام" مرّتين أيضا :

أ - تنام العين چي تعبانه مني .. ومن نفسها ..تنام

ب – عين الماتشوف احبابها الحلوين ..

 ماهي عين .. ولا هي تشوف .. ولا هي بعمه .. ولا هي تنام .

كما كرّر مفردات قافية أخرى في أبيات كثيرة مثل كلمة : گاع، حچام، الطين،بسكوت وغيرها .إن الحركة الإيقاعية في القصيدة لاهثة وتتجنب الوصف المسترخي والتداعيات الهادئة .فمنذ المفردة الأولى في القصيدة والتوتر يتصاعد تعززه الروح الناقمة المتمظهرة من خلال التعبيرات الحادة خصوصا في نداءات المخاطبة التي تطلقها الراوية والتي تعبر عن حرقة دفينة ونفاد صبر لائب :

(يا معودين أهلنه ..

 الگاع ضيجه من عگبكم

 ما تسع حچام

 تنام العين، چي تعبانه مني

 ومن نفسها .... تنام

 ولك ردّوا ....

 حنيني ايگعد الميت

 وحشتي اتطلّع بليل الشته

 شمس الربيع

 أيام) يصل نفاد الصبر الناقم هذا أقصى مستوياته في البيت اللاحق الذي نعود فيه إلى الموضوعة المركزية وهي "العين" والدعاء المتشفي ذي الطبيعة المعذبة للذات عليها :

(عين الما تشوف أحبابها الطيبين

 ما هي عين

 ولا هي تشوف

 ولا هي بعمه

 ولا هي تنام) ومن هذا الخطاب – النداء تتضح طبيعة المنادي الأنثوية وتستكمل ملامحها الجنسية كصوت امرأة تنامى الإفصاح عن هويتها من خلال السمة "الباطنية" لمحاورة الروح والمستنجدة بأهلها ثم الدعاء " النسوي " على العين وهو من السلوكيات المعاتبة اللازمة للمرأة الريفية العراقية . ونفض اليد من تراب الصبر وتحمّل انفضاض الأهل عن قضيتهم يبدأ بنداء التعجب المستنكر :" يا معودين أهلنه " مرّتين ويتأجج في الصيحة الناهرة الزاجرة : " ولك ردّوا " . ومن ناحية التاريخ الشعري فإن النواب هو أول شاعر قام بإدخال مفردة " ولك – ويل لك " في الخطاب الشعري العامي العراقي . قبل النواب لم يكن الشاعر العامي قادرا على توظيف مفردة يعتقدها ذات مسحة مهينة للمخاطب وهي المسحة الواضحة في الاستخدام اليومي التعاملي بين الناس في العراق حين تقول لأحدهم :"ولك"،لكن النواب بجرائته الابداعية وبوعيه الحداثوي التفجيري للغة، أقحم هذه المفردة وغيرها بجسارة في نسيج القصيدة الشعبية اللغوي، بدءا من لازمته "هودر هواهم ولك" التي يختم بها مقاطع قصيدة "للريل وحمد" التي صدمت الذائقة العراقية العامية التقليدية بقوة آنذاك من خلال التوظيف التعرضي لمفردات كثيرة استثنيت من الاستخدام الشعري لعقود واعتبرت أدوات للاتصال اللغوي السوقي . ليس هذا حسب بل إن النواب قد فرك الصدأ عن الكثير من المفردات العامية المتروكة احتقارا والمستهجنة ترفعا وجلا لها وجهها ووضعها على عرشها الدلالي الشعري المناسب في مملكة القصيدة . من كان يجرؤ على المراهنة على وجود موضع شعري لمفردات موغلة في يوميتها الرثة مثل : "نبگ" في البيت : (ونبگ حچام والحاجب نسر فارش جناحينه .. بوكاحه يطير) ..و"خرخشت" في : (لو خرخشت گصبة ليل .. أفزن، يا چبير البيت) وهذه المفردة المستقاة من الاسم " خرخاشة " وهي أداة لتلهية الطفل الرضيع تصدر صوتا " مزعجا " وموقظا هو بالنسبة لفلاح محاصر في هور " الغموگة"مصدر انذار وتهديد،أو كلمة "نشيش" المنسية حد اللعنة : (واليندفن بارض أهله، عدل، حي .....يسمع الحنطة .. ويحس عروگها بصدره .. ونشيش الماي) ..و "عثها" مأخوذة من فعل حشرة العثة الكريه ولخطير حيث تنخر أشد الجدران بناء وتماسكا حتى تقوضها بلا هوادة : (وأگلكم روحي عثها الليل .. واختنگت عگبكم بيها عطابه)..أو (امضغبره) في : (امضغبره .. وأچول من الچول .. وگامت بيها وحشة ليل وترابه) . وحين نراجع منجز السياب الشعري - رائد الحداثة الشعرية العربية في مجال شعر التفعيلة - لن نجد لديه توظيفا لمفردات فصيحة "قاسية" و"لا شعرية" إلا في أضيق الحدود، ولم يكن لديه استعداد لإقحام المفردة العامية في بنية القصيدة دون أن "يلطفها" من خلال إضفاء الصياغة الفصحى عليها . وإن العنف النوابي الذي تحدثنا عنه سابقا،والذي سميناه بـ (العنف المحبب أو الآسر)والذي يختلف كثيرا عن عنف الجواهري وجيل الحداثة الذي أعقبه والذي سميناه (العنف الدموي أوالوحشي) يسيطر على أجواء هذه القصيدة بشكل خاص فهي قصيدة مقاومة،شاغلها الاقتصاص من الطغاة من إقطاعيين وشرطة و"حوشية" في نداء و"تحشيم" هائل الوقع ينطلق من روح "اسعيدة" لاستثارة نخوة أخيها البطل "حچام" وهو رفيق النواب ؛ فلاح بسيط ؛ وإنسان مقاوم ؛ وبتلاشي الحدة الصوتية الصادمة لاستغاثة اسعيدة تنتهي " الحركة " الأولى من "ملحمة" مظفر هذه .وهنا لابد أن نذكّر المتلقي بثقافة النواب الموسيقية فهو متذوق لروائع الموسيقى العالمية وهاضم لها . انعكس هذا التمثل المعرفي في تصميم البناء الفني لقصيدته في صورة "حركات" تشبه حركات السمفونية الكلاسيكية الأربع . تبدأ الحركة الثانية مع دخول المبدع بشخصه وصوته الذاتي ليشرح لنا مضمون "سالوفتنه" وهي الكلمة المرادفة لـ " حكايتنه " من أجل أن يوصّف لنا معنى التمهيد الملتهب المضني الذي استغرق تسع صفحات من القصيدة - الملحمة ؛ فلم نعرف ما الذي سنواجهه بعد هذا التمهيد الملتبس الذي لم تتضح هوية الراوي الحقيقي فيه إلا قبل لحظات - أبيات أخيرة ختم بها الحركة "الافتتاحية" للقصيدة، لساحة الحركة الثانية - صحيح أنك تقرأ مفردة لغوية متسقة في انسجام لافت ومظهري على اللوحة النصية البيانية، لكنها- هذه القراءة - تغرس في روحك المستكينة انطباعا شديد العمق حول "الحركة "، أول من أدخل موضوع " الحركة " في القصيدة الشعبية هو هذا المبدع الذي كانت قبله القصيدة "سكونية " و"راكدة" في طبيعتها العميقة وفي شكلها وفي تجاذبات قوى شخوصها وصراعات إراداتها . فمنحها عمقها الدينامي وشكلها الحركي الصراعي . يقول الشاعر الذي دخل راويا الآن :

(سالوفتنه عن فلاح مثل كل الفلح

 إخته اسمها اسعيده

 من هور الغموگة

 بعد سنه اتعرّس

 والمفارز طوگت بالليل أخوها

 وچانوا الحوشية والشرطة 1000

والحرّة ما خافت

 عمرها 17سنبلة

 صاحت : يا چبير الهور .... ياابن الشلب ... يا حچام)

ومن جديد سنلاحظ ريادة أسلوبية مضافة تفرّد بها النواب . فهو أول من أدخل الرسم العددي في القصيدة . لم تكن هناك انتباهة فنية لمثل هذا التعبير المبتكر . قبل هذه القصيدة صدم النواب متلقي القصيدة العامية بمثل هذا الابتكار في ديوانه " للريل وحمد " وذلك في قصيدة " جد ازيرج " المكتوبة عام 1962والتي يقول فيها :

(صريفتنه رقم 6

 صريفه 13 دم

 صريفه 14 سل وخنازير

 صريفه 15 نار ومزامير

 صريفه 17

 مذبح عرض بنته)

وقد لا تكون مرامي الشاعر الفنية والجمالية والنفسية واضحة تماما في هذه المحاولة الابتدائية من خلال أن قراءة الرقم مطابقة لرسمه الشكلي،إلا أن رسم الرقم 1000 يضاعف التأثير البصري للرقم و يشدّد وقعه النفسي، في الوقت الذي يمنح رسم الرقم 17 الذي يسبق لفظة سنبلة شعورا بالتصغير يتسق مع تصغير اسم الحرّة المراهقة " اسعيده "،وهناك أيضا المقابلة بين الألف شرطي وحوشي الذين حُددت ماهية هويتهم و طوّقوا أخا الحرة التي لم تخف رغم أن عمرها 17سنبلة .ولأن كل حركة في قصيدة مظفر مدروسة ومخطط لها فإنه لم يستخدم مفردة سنة أو عام لوصف عمر الفتاة ؛استخدم لفظة "سنبلة" الرخية الهشة القابلة للكسر مقابل الألف المسلحين الذين لم تخف منهم من ناحية وبالتضاد مع أخيها حچام التي، هي السنبلة المراهقة، تقوم بالهاب مهماز نخوته وتعزيز معنوياته من ناحية أخرى . وبإعلان الراوي عن شخوص سالوفته - حكايته نقف أمام مقابلة بين الاسم الأنثوي الناعم " اسعيدة " الذي أمعن مظفر في تأنيثه من خلال تصغيره واختيار حرف السين الهامس والاسم الذكوري الخشن "حچام" الذي أمعن الشاعر في تذكيره من خلال الحرفين الأثيرين والصاخبين لديه ؛ الحاء والجيم المعطشة، التي تمنح الاسم تأثيرا مدوّيا عند الهتاف به . هكذا نادته اسعيدة : (صاحت يا چبير الهور .. يا ابن الشلب .. يا حچام) فردد الهور بكل جنباته نداءها بنداء خلاق جديد : (ردّ الهور :

 إسمع يا چبير الشلب، يا حچام

 يا حچام .. يا حچام .. يا ح...چ .. ا ... م)

ونداء الهور الجديد هو : يا چبير الشلب، صفة ركّبها من الصفتين اللتين أعلنتهما اسعيدة في صيحتها :چبير الهور و ابن الشلب .فالهور بالنسبة لمظفر يقرأ وينفعل ويسمع ويستجيب ويحلّل . الهور كائن حي بكامل صفات الكائن الحي .هو شقيق روح مظفر بل حضنه الأمومي الذي احتواه في أشد مراحل حياته خطرا .والهور الذي يخاطب حچام الذي هو من نتاجه، مثله مثل الشلب لا يمكن أن يقر له بأنه كبير الهور .. هو- أي الشاعر، الابن - نتاجه وهو - أي الهور - الرحم المنتج والمفعم برمزية الحضن المائي الغنية الواسعة . حچام هو ابن الشلب الذي هو مظهر بسيط وسط عطايا الهور التي لا تعد .. وعليه يمكن أن يكون كبيرا على الشلب لا على الهور الذي استجاب حچام لندائه الهائل الذي عبر عنه الشاعر بالتشكيل الحروفي المقطع ليجسد الصدى الصوتي المدوّي : يا ..ح ..چ ..ا..م .ومن يفكر قبل النواب بتقطيع أوصال الكلمة . هذه الحادثة التقطيعية الأولى في تاريخ الشعر العامي العراقي - وقد نقول العربي - .وقد جاءت استجابة حچام فورية وعارمة جسدها الشاعر من خلال يقظة البندقية الجامدة التي استفزها النداء المستنهض : (فزّت گبله البرنو لگطها بساع : يالوحدچ شريفة

 وبيّت الضيم بزمرها

 وخطّن العينين سچة غيظ

 فوگ الماي)

وهنا تتجلى المهارة التصويرية العالية التي كان الشاعر رياديا أيضا ومتفردا فيها .النواب كما قلت هو الذي استبدل العين السينمائية الحركية للشاعر بالعين الفوتوغرافية الناسخة التي سادت قبله . لا يمكن تصور الكيفية التي تخط فيها عينا حچام " سكة " للغيظ مماثلة لخطي السكة الحديدية على وجه الماء من دون هذه العين السينمائية .ميزة اللقطة السينمائية عن اللقطة الفوتوغرافية هي السمة الحركية .في السينما يتحول الموضوع من الموت الجمودي المنهي إلى الحياة الفاعلة . في الفوتغراف نشاهد ظلالنا الشبحية المعادية التي تستفزنا وفي السينما نشاهد أنفسنا القرينة التي تصالحنا وتنعش آمالنا في الديمومة .هذه الخاصية هي الوحيدة التي تعبر عن التوتر الدرامي الذي لم يكن موجودا في القصيدة العامية قبل النواب .هذا التوتر الذي يصعّده الشاعر الآن إلى حدّ كتم الأنفاس عبر التوجس والترقب الممتد في الحوار الداخلي – المونولوج :

(دوب الصوت ما ينسمع

 واتكوفر غضب حچام :

 - منهو الجاي .. ويه الماي .. ويه الشرجي .. عد حچام ؟

 يمكن عدو يا حچام

 يمكن شرطة وتلعب النفس

 والشرطة لا هي چلاب

 ولا هي زلام

 يمكن خاين ايعرف المچامن

 يعرف العربيد

 وين ينام)

وفي هذه الأبيات نجد ملاحظتين أخريين : الأولى ابتكار الشاعر لمفردات جديدة لم تكن متداولة في اللغة العامية .هذا موجود في الكثير من قصائده التي سوف نحللها . في العامية كان الفعل " كفر " موجودا وشائعا لكن لم يتداول العامة صيغة تصريفية مثل هذه (اتكوفر) على صيغة (اتفوعل) إذا جاز القول، والتي توحي بصخب انفعالي هوسي من الناحيتين : العاطفية والحركية، ولم يتأت ذلك بسائق من اللعب اللغوي الشعري الباهر حسب بل من أجل الوصول إلى الحالة التجسيدية القصوى لانفعالات الشخوص وبلوغ ذروة التوصيل الحركي والانفعالي للفعل . وبالمناسبة من النادر أن تجد قبل الثورة النوابية ظاهرة اسمها شخوص في النص العامي . كان هناك شخص واحد وصوت واحد فقط يسيطر على القصيدة هو صوت الشاعر . وحين يكون هناك أكثر من شخص فيها والقاعدة المطلقة هنا هو وجود شخصين فإن هناك صوت متسيد يضع الحوار على لسانيهما أو يقوم بوصفهما هو صوت الشاعر المستتر بطبيعة الحال، أي أننا لم نجد مطلقا "دراما " صوتية إذا جاز التعبير . لم نجد تعددية في الأصوات، ولا دور فاعلا لصاحب الصوت على مسرح القصيدة - في هذه القصيدة - وغيرها أيضا - هناك شخص وصوت اسعيدة الذي يعكس دورها ويجسد حركتها، يقابله شخص حچام وصوته الذي يعكس دوره المتصاعد من تطويقه فمواجهته المسلحة ثم موته (استشهاده) .ويرتبط بالشخوص وأدوارهم وتعددية أصواتهم الحوار الذي كان محدود الوظيفة لا الوجود . هناك كانت الوظيفية جدالية - كلامية - شخص أو شيء يجادل شخصا أو شيئا آخر- لكنها غير مثقلة بمحمولات نفسية ترتبط بالواقع النفسي الصراعي الداخلي للشخوص ولا برموز وتحولات البيئة المحيطة بالشخص . النواب هو الذي جاء بالحوار الوظيفي المثقل بالمعاني النفسية والتعبيرات الرمزية . تقول اسعيده : (لا يا خوي .. لا يا زين لا تمشيش راگ الراگ يا ابن الحرة ما يستوحش التفّاگ يا ابن الحرة لابد ما تفرخ الگاع) عند هذا الحد ينتهي الخطاب المباشر الذي جاء ردا على ملاحظة السارد : (قصتنه اعله حچام الحذر بالهور يمشي الراگ) والمتمثل بطلب اسعيده من أخيها أن لا يفرط في حذره، هذا الإفراط الذي سيضعه على حدود الخوف والتحسب الفائض الذي يشل الإرادة .لكنها تواصل تفسير قولها الأخير لشقيقها المحارب بأن لا يشعر بأنه وحيد لأن هذه الأرض ولود - ولم يقل النواب " تجيب - بمعنى تلد " بل استخدم الفعل " تفرّخ "،فالتفريخ أشد وقعا نفسيا من الناحية الكمية - فتقول : (هذا عراگ .. هذا عراگنا الموصوف للعميان .. والميتين وادوه لكل حزن وفراگ يا ابن الحرة حط عينك ولا تغفل غفل گبلك حزب .... وانباگ ...) هنا أصبحنا أمام وظيفة جديدة للحوار لا ترتبط بالدور الجدالي الذي كان سائدا .. هنا دخلت تأملات وتفسيرات عميقة لها صلة بدائرة أبعد من حدود دائرة الحوار المباشر .. تأملات عن الوطن – العراق – بلسم جراحات الأرواح المثكولة..الرقية المحيية للموتى والتي تعيد البصر للعميان (لاحظ أننا دائما نعود لـ (نستقر) في مركز موضوعة العين) . وهناك تداعيات إلى عدم الغفلة المدمرة ؛ تلك الغفلة التي ضيعت حزبا كاملا (الآن وفي هذه المرحلة التي يباع فيها العراق فإن لسان حال العراقيين يقول:غفل گبلگ " شعب " وانباگ). وفي الحوار أيضا هناك سمة جديدة أدخلتها الثورة النوابية وتتعلق بالمونولوج - الحوار الداخلي الذي يصوغه الشاعر في صورة غير مسبوقة فهي عند النظر المباشر توحي بتدخل السارد – الراوي وهو يصف ردّة فعل حچام على الصوت المنخفض جدا الذي نمّ عن حركة ما مهددة ومحذرة ؛ لكنها عندما تؤخذ ضمن سياق القصيدة والتساؤلات التي أطلقها حچام (- منهو الجاي .. ويه الماي .. ويه الشرجي .. عد حچام ؟؟) تخلق لدى المتلقي انطباعا قويا بأنه عبارة عن حوار داخلي تحذيري يحدث به حچام نفسه :

(يمكن عدو يا حچام

 يمكن شرطة وتلعب النفس

 والشرطة لا هي چلاب لا هي زلام

 يمكن خاين يعرف المچامن

 يعرف العربيد ........ وين ينام

 ريحة خاين بـ (عرگ) الحزب

 مدفون

 من سنين

 ريحة خاين معودين ......)

ولو توقفنا قليلا لنستعيد موضوعة (الگاع – الأرض) والطين والتراب وكيف سار بها مظفر ليوصلنا إلى رائحة الخائن المدفونة في (عرگ – عرق) الحزب وجذوره و قابلنا الأخير بوصف (العرج) الذي خص به الغريب الذي سيدفن لوحده في أرض الغير بلا دمع ولا ناس ولا تابوت (لا أدري هل ينطبق هذا الحال علينا ومن المؤكد أننا سنموت بعد سنين في أراضي المنافي بعيدا عن بغداد المحروسة بالله !!)، فسنكتشف جانبا من عبقرية العامية التي مزق النواب عنها الأستار الخانقة . فلأن الحزب موضوع حب - موضوع ولاء، استخدم الشاعر لفظة العرق بالكاف الفارسية وفي صورة (عرگ) لأنها أكثر تلطيفا وأقل أستفزازا من ناحية الجرس الموسيقي لحرف الگاف – الكاف الفارسية الذي يُحدثه في المفردة التالية : الحزب، الذي هو كيان أثير على نفس الشاعر . لكنه استخدم المفردة نفسها مستبدلا حرف الجيم الأشد وقعا في الأذن البشرية والأكثر حاجة للجهد اللفظي النطقي بحرف الگاف حين قام بالتنفيس عن نقمته على ميتة الوحيد المنبوذ المتغرب عن وطنه : (والميّت بگاع الغير، وحده يموت

 وحده، لا دمع، لا ناس، لا تابوت

 غريب ويندفن مثل (العرج) بسكوت) .. وحين أقول عبقرية العامية فلأنني أؤمن- وهذا أمر يتطلب جهدا كبيرا ومتنوعا من البحث - أن هناك ضرورات شعرية تحكم الناس في استخدام - وقبلها ابتكار - مفردات اللغة العامية، بالإضافة إلى الضرورات التواصلية والدلالية والانفعالية . ولا أقصد بالضرورات الشعرية هنا البلاغة الشعرية بل الروح التصالحية الشعرية التي تتلاعب بالمفردة - وحتى بالحرف - بلاغيا وموسيقيا من أجل التعبير المناسب عن الغرض النفسي التواصلي وهذا ليس من واجب التوصيل الأدائي اليومي بين الناس الذي يتم عادة (آلّيا) من دون الحاجة إلى مغويات تقربية تعبيرية . ذات مرّة قالت الشاعرة (لميعة عباس عمارة) في محاضرة لها ببغداد رأيا جديرا بالانتباه والبحث هو:(أن الفرد من العامة في العراق تحديدا حين يريد التعبير عن ألم في قلبه فإنه يستخدم كلمة القلب بالكاف الفارسية – الگاف - فيقول : (گلبي يوجعني)،ولكنه حين يريد وصف إصابته بنوبة في القلب يستخدم الكلمة بحرف القاف فيقول (عندي نوبة قلبية)، ولا يقول نوبة (گلبية) حتى لو كان في أشد مراحل الأمية التعليمية . ولم تستطع تحديد التفسير المناسب لهذه الظاهرة .وعندما يريد الفرد العامي أن يسند العرق-مفردا أو جمعا -إلى هاء التملك فمن النادر أن يقول : (عروجها) بل (عروگها). ولهذا استخدم مظفر هذه الصيغة حين تحدث بصورة إيجابية عن الحالة الإنبعاثية التي سيحظى بها من يموت على أرض وطنه ويدفن فيها .. فهو حي لا يموت .. إنه صورة من صور إله الخصب والنماء ..ومظفر هو نتاج هذه الأرض المباركة التي حكمت حركة الحياة فيها موضوعة الموت والانبعاث المتجددة – لعبة العالمين : الأعلى والأسفل .. في رحم هذه الأرض يلتحم جسد الميت بـ (عروگ) الحنطة ويتنعم بالماء المحيي . هكذا كان يوصف الإله القتيل بأنه الإله القمح .. إله الخبز :

 (واليندفن بارض أهله

 عدل .. حي

 يسمع الحنطة ..

 ويحس (عروگها) بصدره

 ونشيش الماي ..)

وستتأكد دقة مظفر الاحترافية – اللاشعورية العالية في خلق التجانس الحروفي المقصود الذي تشترطه الشحنة الانفعالية والأولويات المضمونية المرتبطة بموضوعات الحب والتي تفرض الصياغات الشكلية التي تتناسب مع الولاء الشخصي الموصل إلى العناية بتهذيب خطاب الحب، حين نلاحظ أن الشاعر كان قادرا على استخدام تعبير : " هذا عراقنه الموصوف للعميان " حيث يأتي باسم العراق منتهيا بحرف القاف وهو ما اعتدنا كعراقيين على لفظه في خطابنا اليومي من دون تأثير على التماسك العروضي من ناحية ولا على الوقع الموسيقي للحرف في أذن المتلقي إلا بدرجة بسيطة جدا من ناحية ثانية . لكن هذه الـ (إلّا بدرجة بسيطة جدا) هي التي ينشغل بها الشاعر بدرجة كبيرة وهي التي تكشف عمق عبقريته في الحركة نفسها . فاستبدال حرف القاف بالگاف وتحويل المفردة من " عراگنه " إلى " عراقنه " سوف يضفي " درجة بسيطة جدا من " الخشونة قد لا تكون محسوسة في الأذن بصورة واضحة لكنها " تخدش " أذن الروح .. فمظفر يسمع بأذن روحه الشعرية لا بأذن جسده العضوية . وهذا الحرص الموسيقي يتأسس عليه أيضا حرص تشكيلي في رسم الحرف ويتبعه حرص تشكيلي موسيقي إذا جاز الوصف على التسلسل النغمي للسياق ؛ حيث تسيطر المفردات التي تنتهي بالگاف على قوافي الأبيات ؛ بدءا من " راگ الراگ " ومرورا بـ " التفاگ " و " عراگ " التي تليها مباشرة لفظة " عراگنة " التي لو حوّلناها إلى عراقنا لارتددنا إلى الأصل الأكثر " خشونة " لأن الگاف هي في حقيقتها اشتقاق مخفف من القاف الأكثر ثقلا (الگاف تلفظ بمسافة أكثر ابتعادا عن آخر سقف الحلق الذي يجعلها أكثر خفة من القاف التي هي بدورها أكثر خفة من العين حيث يقل الضغط على اللهاة ومكونات الفم الأخرى كلما اقترب نطق الحرف من الاسنان في التاء والثاء، والشفتين في الباء أو عند انعدام الضغط عليها في السين) والتي ستربك المسار اللفظي بـ " درجة بسيطة جدا " عندما تبزغ وسط السياق فتربك قليلا أو " بدرجة بسيطة جدا " العودة إلى البيتين التاليين اللذين ينتهيان بالگاف في مفردتي : " فراگ " و " وانباگ " . وقد لا يلتقط القاريء، بخلاف " القرّاء، والناقد بخلاف " النقّاد " ظاهرة عسيرة في هذه القصيدة وهي أن الشاعر قد استبعد حرف " القاف " نهائيا من مفردات قصيدته فلن تجد أي بيت يضم كلمة يدخل حرف القاف في تكوينها . حرف القاف موجود فقط في مفردة واحدة هي " قصتنه " وهذه ليست ضمن الجسد اللغوي للقصيدة الأم بل ضمن الوقفات السردية التنبيهية التي يطرحها الحكّاء الثانوي والمحصورة بين قوسين : - (قصتنه بعدهي بأول القصة

 وراها گرون وشياطين) - (قصتنه اعله حچام الحذر بالهور ويمشي الراگ)

- (وقصتنه بعدهي بأول القصة ..

 وگع حچام ..

 ومات الصبح ..والتمت علينه الشرطة ..) وبخلاف هذه المواضع لن تجد أي كلمة فيها حرف القاف مهما كان موضعه .. في حين تجد أبياتا كثيرة يتناوب فيها حرفا الجيم والجيم المعطشة (چ) . أما الملاحظة الثانية فتتعلق بعودة جديدة إلى الشتائم، حين يصف الشاعر الشرطة بأنها (تلعب النفس) أي تدفع إلى الغثيان والتقيؤ، وبأنها ليست بالكلاب ولاهي بالرجال .. إذن من أي جنس ملعون تركب وجود هؤلاء الشرطة القمعيين المتسلطين ؟ وفوق ذلك (يوغل) الشاعر في تصعيد الأوصاف التي تمسخ هؤلاء المعتدين / أداة الباغي الإقطاعي المستغل :(ريحه زفره .. ريحة شرطة .. يا حچام) حيث تصبح رائحة الشرطة هي المرجعية التي تقاس على أساسها رداءة أي رائحة . ويجب أن نلاحظ أن الوصمتين السلبيتين اللتين ألحقهما الشاعر بالشرطة : " تلعب النفس " و " ريحة زفرة " ترتبطان في أنهما مغثيتان وتوصلان إلى نفس الإحساس الذي نشعر به تجاه كائن مسخ لا هو بالكلب ولا هو بالإنسان . وحين وضعت فعل الإيغال بين قوسين فليس قصدي من ذلك التنبيه على اندفاعة مفرطة قد تأخذ منحى سلبيا،بل لإظهار سمة أسلوبية شديدة العمق والاختلاف في المنجز النوابي، كنت قد أشرت إلى جانب منها قبل قليل حين تحدثت عن أن هذا المبدع يميل إلى التكرار والمعاودة الخلاقة في استخدام المفردة أو التعبير نفسه في صيغ متجددة أولا وأنه يعتصر المحتوى الدلالي للكلمة بقوة ويرميها قشرة ذات هيكل حروفي بائس ثانيا .هذه الخاصية غير المسبوقة تتمثل في(التوكيد) . أي عدم الاكتفاء بذكر الصفة المناسبة للموصوف، فردا أو حالة، سلبا أو إيجابا، لمرة واحدة أو لتثنية وصفية كما كان يحصل سابقا، ولكن بالطرق على أوجه التركيب الوصفي المختلفة . يمكننا الإحالة هنا إلى وصف خراب روح الراوي – الأنثى التي لا يعلن الشاعر عن هويتها كـ (اسعيده) ولكنه يخز قدرتنا الإدراكية عبر حركات محسوبة لتستنتج هوية الراوي الأخير الذي سيأتي مركّبا مثلما أثاره من التباس مقصود في صفحات القصيدة الأولى , ويمكننا أيضا الإحالة إلى ما قلناه عن الإمعان في تحطيم مهابة الشرطة كأنموذج للسلطة الغادرة، ويمكننا....ويمكننا ... ويمكننا ذكر عشرات الاستشهادات ليس من هذه القصيدة حسب بل من أغلب نصوص مظفر . إنه ما يمكن أن نطلق عليه (التوكيد الشعري التوليدي - اللغوي والدلالي والصوري)، بمعنى أن الشاعر لكي يوصل أكثر الصور الشعرية رهبة أو جمالا عن وضع معين فإنه لا يكتفي بتشكيل صورة محددة عن هذا الوضع ولا تقليبه على وجوهه المختلفة كما أشرنا في موضع سابق لكنه يوغل في استيلاد الصور- على طريقة " نعوم شومسكي " في نحوه التوليدي – GENERATIVE GRAMMER . لغويا، يمكننا أن نتوقف عند التلاعب بمعاني مفردة العين، و دلاليا نستطيع ملاحظة التعامل مع الموت كما سنرى قريبا، و صوريا يتجلى ذلك في هذا الموقف الذي جعل فيه اسعيده، على الأكثر، تتحدث عن حطام روحها بعد غياب حچام وأحبائها . هذا الخراب الذي كان الشاعر القديم يعبر عنه في القصيدة الواحدة بشكل محدد، يمضي النواب في فعله التهويلي لتضخيم أبعاده، هذا التهويل الذي يضعنا أمام صور متصاعدة لخراب لا يقف عند حد، لا ينتهي، يفتح أمام خيالاتنا مديات عذاب لا حدود لها . والغاية النهائية المقدسة جماليا تتمثل في التماهي النهائي - من شدة الالحاح والطرق والانوخاذ- الذي يصل درجة تبرير كل فعل مفرط وكأنه فعل نابع من ذات المتلقي . تبدأ اسعيده بتصوير حال روحها التي عثها الليل - وحشرة العث والليل يشتركان في الفعل الظلامي في ممرات وأحشاء المادة " الجامدة أو الحيوية، البعيدة عن النور، وكلاهما " يقرض " ؛ العثة تقرض مواد بيوتنا ومنشآتنا التي يقوم عليها وجودنا الحياتي اليومي، والليل يقرض سنوات عمرنا والتي لا " مادة " لدينا غيرها وبخلافها نصبح هدفا يبقيه " سواد " الموت - وهذا كامن في المغزى الفلسفي الغائر - مهانة أخيرة نستقصيها بخيالاتنا وبشعرنا ولا ملاذ غير ذلك : (وأگلگم روحي عثها الليل

 واختنگت عگبكم بيها عطابة) وإذا لاحظنا التواشج بين الفعل الظلامي للعثة وفعل الليل الحالك وتأثير العطّابة (أي مادة تحرق جزئيا فلا تصدر غير الدخان) المؤرثة التي تخنق الأنفاس فسنجد أنها كلها تتفق في - أو تتوهم أو تأمل أو تتعمد، لا فرق في الشعر - إنها تعبيرات رمزية جزئية عن سطوة المثكل - الموت، الموت الذي هو في الواقع "الحي الذي لا يموت" . لكن الشاعر يبدأ بالاستيلاد الصوري واللغوي والدلالي فيوغل عميقا في السواد .. يذهب بعيدا في القتامة والتراب : (امضغبرة ..

وأچول من الچول

 وگامت بيها وحشة ليل وترابة ..)

إن مفردة (امضغبرة) التي عبرناها سريعا سابقا هي مفردة تعبّر عن أقصى الاختلاط والغبرة المشوشة - لاحظ أن سمة الـ(امضغبرة) قد تعيدك جناسيا إلى سمة "الغبرة" التي خص بها الليالي التي أقسم بها مظفر في البداية بعد أن حلف بالشطر الأحمر ، كما أنه تصريف غير موجود في النحو العربي مطلقا، هي صفة حال الدنيا التي يجتمع فيها الاختناق والتراب وسوء الرؤية ووحشة القتامة ودوامات الغبار المدوخة، والأكثر من ذلك ضراوة المدى المدوّخ بقساوة انفتاحه الخاوي اللانهائي : الـ (أچول من الچول) . وللنواب طريقة أخرى في التوكيد على الفعل خصوصا قد لا يلتفت إليها المتلقي وتتمثل في استثمار القدرة التوكيدية لحرف النون وإلحاقه بالفعل كما في : أموتن، أگولن، أفزّن .. وغيرها . في بعض المواضع يستطيع الشاعر رفع النون من الفعل دون أن يتأثر تماسك البيت الموسيقي والمعنوي . لكن المبدع يدرك أهمية هذه النون التي تعبر بالفعل إلى ما بعد حدوده التقليدية لتضعه في حالة شديدة الوقع . كأن النون في الفعل " أموتن " تؤكد حصول الموت مع سبق الإصرار والترصد كما يقال في التوصيفات القانونية من ناحية النوايا من جانب وسعة الفعل وقوته من جانب آخر . لكن النواب (مخرج) شديد الاقتدار في تصوير الحدث الدرامي، وهذا أمر غير مستثمر سابقا وبدراية لمصلحة المناخ العام في القصيدة وخدمة حدثها المركزي .يرصد الشاعر موقفا سلوكيا لشخوصه فـ (يصوّره) في لقطات وتقوم على الحركة من جانب وعلى النظرة الكلية (المشهدية) للموقف، تلك النظرة التي تحيط بمكونات المكان بأدق تفاصيلها من جانب آخر : (والتاف

 وشبگ گلبه

 وزحف حدر الگصب والطين

 ما مش للرصاص أخبار مشتاگين) ثم يعود إلى ترديد الجانب الصوتي الذي يحذّر حچام من العدو الخائن - وهذا الصوت هو صوت أناه الأعلى، سلطته الرقابية - ويدعوه إلى أن يلتحم بالقصب ويجعله دليله في ظلمات الهور المدلهمة، ليواصل الحركة المتوترة حين ينادي حچام بأعلى صوته ويردد الهور نداءه فيحرّك الشاعر زاوية النظر ليقدم لقطة جديدة لمشهد علاقة حچام بقلبه وهو يهم بالمواجهة المميتة :

(صاح النوب، صاح الهور، كل الهور، صاح وياه

 يا هور الغموگة و گام

 - يا حچام .. يا حچام .. يا حچام

 والتاف اعله گلبه

 وشاوره بحسّه الخشن :

 يا گلبي رص ظهري ..)

وقبل النواب كانت مثل هذه "الشخصنة – personification" التي تجعل القلب شخصا يلتفت إليه حچام ويحتضنه أو يطلب منه أن يسند ظهره، تبدو عموما كنوع من الهذيان . لكن هكذا تتناوب لقطات حركة الانفعال الداخلي مع لقطات حركة الموجودات الخارجية متعاقبة مع حركة " المؤثرات الصوتية " إذا جاز التعبير النابعة من المونولوج الداخلي من ناحية أو من صوت السارد الذي يشبه صوت "المعلّق" على المشاهد السينمائية التي تجري بلا حوار : (الوحيد العارچ بطوله

 ايتحدّه، وما يعرف الموت

 ولا ينضام

 تگلّط مني يا گلبي !!..)

وصوت الراوي الذي يعود لتذكيرنا بما تبقّى من وقائع القصة – القصيدة، يمثل واحدا من أهم انجازات الثورة النوابية . فلأول مرّة يُدخل شاعر عامي صوت الحكّاء – السارد بتمظهراته المتنوعة في بنية القصيدة الشعبية .في قصيدة " حچام البريس" هذه و "حسن الشموس"وغيرهما الكثير يدشن النواب بدء مرحلة البناء القصصي في القصيدة العامية . قبل النواب كان الشعراء العاميون " يسولفون " في بعض قصائدهم لكنهم لم يكونوا يعرفون شيئا عن فن السرد الحكائي عندما تتحول الأحداث إلى شعر .ولم يكونوا مسلحين بالمعرفة التي تتيح لهم إمكانية رسم الأحداث وتصعيدها وتحديد نقاط الذروة ومسار التوتر الصراعي الموصل إليها واللحظات المدروسة التي يتدخل فيها الراوي بذاته على مسرح الأحداث والقدر الذي يتخفى به الشاعر- الحكّاء الأساسي خلف شخوصه . خذ مثلا أن الشاعر قد أعلن مضمون قصته عندما قال : (سالوفتنه عن فلّاح مثل كل الفلح .. واخته اسمها اسعيده ...الخ) ثم قطع شوطا طويلا في عرض مشاهد حركة وحوارات شخصيه الأساسيين في قصته- قصيدته :حچام واسعيده، وصلة انفعالاتهما بحركة مكونات البيئة واستجاباتها وتأملات الصوت الداخلي وغيرها حتى نكاد تفلت الثيمة المركزية من أيدي انتباهتنا ويضيع تركيزنا وسط الصور الشعرية المتلاحقة فيقطع الشاعر سلسلة مشاهده في وقفة محسوبة ليرتفع صوت السارد ليذكرنا بالقول : (قصتنه بعدهي بأول القصة

 وراها گرون وشياطين ..)

فيعود الشاعر إلى فسحة شعرية تأملية طويلة نسبيا عن الغربة والمنفى وعذاباتهما والفارق الهائل بين من يموت في أرض الغير غريبا وحيدا ويدفن هناك مثل (العرج) وبين من يلتحم بأرضه ويموت على ثراها فتحتضنه ويتجدد وجوده الحي مثل القمح الذي تمتد (عروگه – عروقه) إلى تربة صدره ويجدد الحياة في عروقه الماء المنعش . ويكون المدخل هنا - من جديد، ووفق صنعة – رؤية الشاعر المحكمة المتفردة – من أبواب عين الطين : (يا وحشة الوحده يظل عدل

 والطينته من الطين

 يا طينة بلدنه .. يا أصل كل طين

 بيها نعيش .. بيها نموت

 وبيها يخضر من عيونه البربين ..)

وهنا ستستدعي ذاكرة المتلقي صلة أخرى مركزية تدور حول بؤرة عين الطين مادام كل مظهر للنماء في هذا الكون نشأ وينشأ من الطين : " من التراب أتيت وإلى التراب تعود "،سنستدعي " باعوني عليها وخضرت عيوني بدمعها، و ماني بايعها " التي ستتمظهر في التعبير الرائع الجديد : " بيها يخضر من عيونه البربين " . كل حركة الطبيعة البهية .. حركة النماء والخصب .. حركة الأرض المعطاء .. تصل ذروتها في هذا الرسم التشكيلي حيث النمو والتفتح الذي يتم في "ماء" العين . إن البنية المائية هي المتسيدة في عالم القصيدة من البداية حتى النهاية . وحين أرى أن الروح الاحترافية العالية لدى النواب هي التي أثرت القصيدة العامية – ولأول مرة في تاريخها- بهذه التقنيات المدروسة والعجيبة، فذلك لأن من الغريب والعجيب - وهذا فارق مذهل يميز النواب حتى عن شعراء الحداثة السيابية - أن يشتغل الشاعر على مفردة ليس من أجل جانبها التعبيري والبلاغي في البيت الشعري أو الصورة الشعرية التي يرسمها ليتحول نحو بناء بيت تال أو رسم صورة جديدة كما كان يفعل الشاعر القديم - في العامية أو الفصحى على حد سواء – ولكن من أجل أن يؤسس ركائز تمسك حلقات القصيدة وتنشط تداعيات ذاكرة المتلقي جيئة وذهابا لتوثيق صلات وحدة غريبة لكنها مؤثرة تماما وركيزتها التوليد والتوكيد : اللغوي والدلالي والصوري، المؤسس على تفجير طاقات المفردة واللعب الماهر- والماكر- على إيحاءاتها الشعرية ورسمها الحروفي أحيانا والمراهنة على وجودها " المادي " حينا آخر . فحين نعود قليلا إلى الوراء ونركز على الاستعمال الأول لمفردة " چبير" التي تتواشج اشتقاقيا مع مفردة " چثير " سنجد أن اسعيده قد وصفت أخاها حچام بـ "چبير الهور" و"ابن الشلب" وقد ردد الهور صدى ندائها باعتداد ذاتي حسب امتيازاته الوجودية والنفسية فنادى حچام بصفة مركبة هي "چبير الشلب" ..لكن الشاعر لا يشبع من لعبة واحدة ..عين الشاعر نهمة وهي تترصد احتمالات وطاقات لم تستنفد بعد، فيعود - أو " يتقدم "، وهذا هو الوصف الدقيق، ليستثمرها - فنجده يقول : (يصح ردّوا

 وازامط بيهم الله

 وشرطة الزرگة !!

يصح رد الچبير النوگف ابابه ؟

چثير الهله، يا يابه

 چثير الهله

 من غبتو التفگ ملهاش خطّابه) و : (جرحنه چبير مالمته ديرة ناس

 ولا نامت عليه الگاع ..) و : (لو خرخشت گصبة ليل

 أفزّن يا چبير البيت)

و : (ويگولولك احنه نموت

 احنه نموت

 وابنك واگف محزم عله الدنية .. چبير التوت)

وحين نتأمل عميقا المواضع التي تكرّرت فيها مفردتا "چبير " و"چثير" ونضعها في موقعها الملائم ضمن الإطار الكلي للقصيدة فسنجد أنها جزء من بنية " تكثير " تسيطر على القصيدة من استهلالها حتى خاتمتها . وهذا التكثير لا يتم فقط من خلال المضاعفة الكمية ؛ العددية (چانوا الحوشية والشرطة 1000)، والحجمية (وابنك واگف محزم عله الدنيه .. چبير التوت)، والزمنية (وخيّمت ليلة حزن ؛ سنتين)، ولكن من خلال ضراوة الصورة الشعرية أيضا . تمتزج هذه المسارات في المقطع الأخير من القصيدة – الحركة الختامية حين تتوهم اسعيده عودة شقيقها بريس الشهيد ورفاقه الغائبين حيث تفتتح هذه الحركة بنداء تكثيري (أگلّچ چني أسمع ليل يام عشره ... وزمر زركه) : (ويگولولك احنه نموت

وابنك واگف محزم عله الدنيه، چبير التوت

 ويگولولك احنه نموت

 هاي بيوتنه وذولاك أهلنه

 والچواير گطه

 ودخان المعامل واصل التالي الشلب

 والشلب ناهبله گصيبه من الشمس

 گبل الصبح

 بسكوت)

إن تأمّل الصورة التشكيلية – والنواب رسّام تشكيلي مجيد كما يعرف عنه – لانتشار "الچواير" مثل أسراب القطا على وجه الأرض يضخم حالة التكثير بدرجة صادمة يزيد دقتها التماثل اللوني والكتلي للجانبين . ويتعزّز انفتاح الصورة الهائل في منظر الدخان المنطلق من مداخن المعامل والذي يصل إلى نهايات حقول الشلب المترامية الأطراف . هذا الشلب الذي نهب ظفيرة ذهبية مدهشة من شعر الشمس، فيحصل تضاد لوني لافت يبهر البصر بين سماء سوداء أو رصاصية وأرضية صفراء أو ذهبية . وهنا تتجلى أيضا الرؤية في حرية انتقاء الفعل المناسب الذي يطابق حالة التكثير ويثريها . كان بإمكان الشاعر أن يقول : (والشلب بايگله گصيبة من الشمس) . كان الخيار مفتوحا أمامه بين الفعلين : "نهب " و" باگ – سرق " .وفي الخيار الثاني " بايگله " لن يختل البيت عروضيا أولا وسيعطي المعنى المقصود نفسه ثانيا، لكن هذا الخيار لن يمنح الصورة ضراوتها المطلوبة حيث يفوق النهب حالة السرقة بمراحل من حيث شدة التعدّي العدواني من ناحية ومن حيث الرهبة النفسية التي يسببها حجم الغنيمة المتخيل من ناحية أخرى، لأن وقوع الفعل قبل الصباح وبصمت خلال إغفاءة الشمس المهيبة يعني الرهاوة في الكمية المستولى عليها . السرقة عمل عدواني لكن النهب عمل عدواني وعنيف ؛ لكن أي عنف ؛ إنه العنف النوّابي الآسر المحبب الذي وسم الثورة النوابية . وإذا توغلنا عميقا للإمساك بجذر دافع التكثير في الفن خاصة وفي الحياة الإنسانية عامة (حتى الكثرة في الإنجاب) فسنجد أنه ميل دفاعي لتوفير الشعور بالمنعة ضد الفناء وبعدم قابلية الذات على الإنجراح أمام الموت (ألهذا يكون عدد مواليد الشعوب المقهورة كبيرا رغم ضائقتها الاقتصادية ؟) ؛ يعبر عن ذلك التساؤل المستنكر والتعجبي : (ويگولولك احنه نموت !) . والشاعر صار شاعرا أصلا بفعل عوامل عديدة من أهمها محاولة السيطرة على قلق الموت - death anxiety وتطويعه . شيئان لا يستطيع الإنسان التحديق فيهما مباشرة : الشمس والموت كما يقول أحد الفلاسفة . والشعر محاولة في التحديق المباشر في عيني الموت الجاحظتين المخيفتين - عدنا إلى موضوعة العين - . والإنسان يعرف " من حيث لا يعرف " ومنذ الأزل أنه لكي يواجه محنة الفناء الماحق المستعصية عليه أن يخلق امتداداته الخلودية التي تشعره بالمنعة من خلال مجموعة منافذ :

- المنفذ الأخروي اللاهوتي ويتضمن الرموز الدينية وتصور العيش بعد الموت في حياة أخرى

- البايولوجي من خلال الإنجاب ووجود الأبناء والأحفاد

- التحصيني البدني (الإجرائي) من خلال الصحة التي كان يضمنها السحر سابقا وعلم الطب حاضرا

- والخلقي - الإبداعي من خلال الفن والأدب .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1568 السبت 06 /11 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم