قضايا وآراء

مظفر النواب... وحالة (ما بعد الحب) (3-3)/ حسين سرمك حسن

إنها تصبح مسطحة . إن روابطنا الوجدانية وشدة حزننا غير المحتملة تجعلنا لا نميل إلى جلب الخطر لأنفسنا ولأولئك الذين ينتمون إلينا .إننا لا نجرؤ على أن نفكر في القيام بأشياء كثيرة للغاية تكون خطرة ولكنها مما لا غنى عنه . ويشلنا التفكير في من سيحل محل الابن لدى الأم والزوج لدى الزوجة والأب لدى الأبناء إذا ما وقعت الكارثة . ويجر استبعادنا الموت من حساباتنا في أعقابه عددا من الاستنكارات والاستثناءات . ونتيجة حتمية لهذا كله يتعين علينا أن نبحث في عالم الرواية (والشعر)، في عالم الأدب بشكل عام، وعالم المسرح عن تعويض لإفقار الحياة وتسطحها، فهناك لا نزال نجد أناسا يعرفون كيف يموتون، بل هم في الحقيقة قادرون على قتل آخر . وهناك فقط يمكننا أن نستمتع بالظرف الذي يجعل في إمكاننا أن نروض أنفسنا على الموت – أي أننا، خلف كل تقلبات الحياة نحتفظ بوجودنا دون أن يمحقه شيء . ذلك أنه من المحزن للغاية أن يكون الأمر في الحياة كما في لعبة الشطرنج، حيث يمكن أن تؤدي حركة خاطئة واحدة إلى خسارتنا المباراة، ولكن مع اختلاف هو أننا لا يمكننا أن ندخل مباراة ثانية في الحياة، فلا مباراة إعادة ولا تعادل، أما في مجال الأسطورة والرواية (والشعر) فإننا نكتشف ذلك التعدد في الحياة الذي نتوق إليه . إننا نموت في شخص بطل معين، ومع ذلك فإننا نعيش بعده، ونحن مستعدون لأن نموت مرة أخرى مع البطل التاريخي بالقدر نفسه من الأمان) . وهذا ما يوفره النواب لنفسه ولأنفسنا من بعده عبر مناوراته الشعرية الخلودية . لقد قُتل حچام بإطلاقة (لقيطة) : (وزخّت بصدره

 لگيطه من التفگ

 - ويلاه

 - يا ويلاه يابن أمي عداك الموت ........) ولو دققنا في مفردة (لگيطة)، هذا الوصف الذي ألصقه الشاعر بالرصاصة القاتلة فإننا سنعود إلى الفعل (لگطها) الذي وصف به الشاعر الكيفية المباغتة التي لقف بها حچام بندقيته لمواجهة الشرطة والحوشية الذين حاصروه فجأة : (فزّت گبله البرنو لگطها ابساع : يلوحدچ شريفه وبيّت الضيم بزمرها)

إن النزوع الحركي (الدينامي) في شعر النواب جعل لغة النواب حركية (دينامية) أيضا . وفي هذه القصيدة تحديدا التي تنتهي بفعل " نموت " مثلما بدأت بفعل وبدخول مباشر وفوري : أواكح، ويخلو من المقدمات التمهيدية يهيمن (الفعل) بصورة شديدة عدديا وصوريا . وكلها أفعال حركة وصراع وإقدام وتوتر واحتدام . حتى الصفة والكثير من الأسماء انتقاها الشاعر لتعزّز السمة الحركية الصراعية في القصيدة . ولهذا السبب ولأن المطلوب استجابة في غاية السرعة من قبل حچام ليواجه الموت، فإن الفعل (لگطها) يجب أن تتلوه أفعال أشد منه دلالة في تصوير الانطلاقة العزوم ليضمن تصاعد التوتر الدرامي وبخلافه فإن المنحنى الاستثاري يهبط ويضمحل . لكن هناك عاملا لا يقل أهمية ويتمثل في تطابق الرسم الشكلي الحروفي لهيكل الكلمة مع صورة الفعل المقصود . ورد في القرآن الكريم (باسم الله مجراها- مجريها ومرساها – مرسيها) مرسومة بالياء بدلا من الألف حيث يتطابق رسم الفعل مع انسيابية الحركة الكاملة في الفعل الأول والانسيابية الموقعية المعطلة، إذا جاز القول، في الفعل الثاني . تتصعد في الذهن وأمام التصور البصري " أفقية " الفعل . ومثل ذلك يمكننا قوله عن الفعل "لگطها" الذي يتسق مع الزخم الاندفاعي المباغت من ناحية ومع "عمودية " الحركة من ناحية أخرى، في حين أن مفردة " لگيطة " المعبرة عن الرصاصة التي " زخت " موتها على صدر حچام تنطبق في إيحاءات صورتها الشكلية المتخيلة وجرس حروفها – حركة الكسرة تحت حرفي اللام والگاف التي يضعف وقعها وهي تنسرب مع حركة الياء مع " أفقية " فعل " غيمة " تزخ الموت في صدر الشهيد . أشعر وكأن مظفرا استخدم هذا الفعل " زخ " دون غيره من الأفعال الكثيرة : " مزّگت صدره " أو " شگگت صدره " الأكثر حدة في التعبير عن التمزيق والتحطيم والتقتيل والتقطيع الذي يميت حچام ويهشم أوصاله هو " رؤياه " الفلسفية " الإنبعاثية المقاومة للموت والعصية عن الفناء والتي حكمت وشكّلت رؤيته الفنية . والرؤية تتبع الرؤيا . لذلك اختار الشاعر فعلا " مائيا " هو زخ منقولا عن فعل المطر بعد أن قام بتأنيثه و" تصغيره " من خلال إلحاقه بالفاعل المؤنث " لگيطة " . وقد منح الصورة الكلية دلالات " باطنية " عن طريق كون الفاعلة قد زخّت موتها في صدره .. وكأن المفعول به هو الذي يحتوي فعل الفاعل ويحنو عليه ؛ الفاعل الذي هو بندقية لقيطة من بين البنادق المهاجمة، وبهذا الوصف مسخها الشاعر أخلاقيا بصورة تامة فهي نتاج سفاح غير معروفة الأب ومغيبة الأصل في حين وصف بندقيته التي " التقطها " قبل قليل بأنها وحدها الشريفة : (يالوحدچ شريفة) وبذلك تكون مؤصلة يعتد بأصلها الكريم . كما أن الشاعر مدفوعا برؤياه الإنبعاثية قد " تآمر " على ضربة الفناء النهائية وغطّاها باحتدامات النزوع الحياتي المقاوم للبطل التي جاءت متصاعدة واعدة ومتوعدة : (- لا يرتاع گلبچ

 ... آنه عد عيناچ

 يا اخت الحزب والثوار

 والطيبين

 ساعة والتفگ والليل والحوبات، متغاوين

 - يا حچام ..

 إخذ حوبتنه يا حمرين – لاحظ تقابل أو استيلاد حوبتنه من الحوبات -

 ساعة والمراجل إلها ساعة ..) صعّد الشاعر توقعاتنا مع احتدام الوعد والتوعد والوعيد من جانب حچام وشقيقته اسعيده حتى صرنا متوفزين معنويا ومستعدين لانطلاقة الهجوم التي أجهضها فعل عرضي . وضع مظفر الإنكسار في صيغة عرضية هادئة لا تعبر أبدا عن أن هذا الفعل هو فعل موت، فقد جاء هذا الفعل بعد أن اقتربنا من ذروة التحفز الهجومي " ساعة والمراجل إلها ساعة " ومرتبطا به بواو العطف وكأن الفعل " وزخت " والصورة " وزخّت بصدره " هي حلقة الانطلاق المرتبطة بسلسلة الاستعداد اللاهث للبطل . وحين يظهر أن الحركة الإجهاضية " لگيطة من التفگ " التي تعقبها صيحة التفجّع التي تطلقها اسعيده المثكولة يكون شعورنا بها بأقل قدر من الانفعال حيث يضيّعها السياق الكلي أو الصورة الكلية التي ينثني زخمها المتأجج قليلا، لكنه لا يركد ولا ينطفي فتتحول " ويلاه " التفجع : " يا ويلاه يابن أمي عداك الموت " إلى مديح صارخ : " يا واگف وكح طرگ الجلد والطين " ثم إلى تساؤلات مديح مستنكرة : " شگولن للتفگ لو ناشدن عنك ؟ .. شگلهن ؟.. شاعتذر ؟ .." تليها وقفة وعد وعزيمة يطلبها البطل وتكون ضمانتها أن تقسم شقيقته بزمر البنادق : " – سعده .. وغمض عينه اعله صبر سنين .. احلفيلي بزمرهن .. عگبي - جدام العدو – تشيلين راسچ بيه وتحلفين " ولاحظ المقابلة بين : "احلفيلي بزمرهن" و".. بيه وتحلفين" .. يعقب وقفة القسم المقدس على الثبات استنكار الشقيقة لاحتمالية موت شقيقها البطل الذي ستبقى عيناه مفتّحتين - وليستا مفتوحتين لتوظيف سعة وغرضية الفارق بين مفعّل ومفعول – حتى بعد موته، إلى أن تختتم المواجهة الكاملة بنهوض حچام الشهيد وانبعاثه، وبذلك تكون الصورة الكلّية – gestalt على الشكل التسلسلي الآتي : (- لا يرتاع گلبچ .. آنه عد عيناچ .. يا اخت الحزب والثوار والطيبين .. ساعة والتفگ والليل والحوبات، متغاوين ... – يا حچام اخذ حوبتنه يا حمرين ... ساعه والمراجل إلها ساعه .. وزخّت بصدره .. لگيطة من التفگ .. - ويلاه .. – يا ويلاه يابن امّي .. عداك الموت ... يا واگف وكح طرگ الجلد والطين .. شگولن للتفگ لو ناشدن عنك ؟ شگلهن ؟ .. شاعتذر ؟ .. – سعده .. وغمض عينه اعله صبر سنين .. احلفيلي بزمرهن .. عگبي – جدام العدو – تشيلين راسچ بيّه وتحلفين .. – انت تموت ؟؟ .. يا ابن امي تظل عيونك مفتحات حته لو خذاك الموت .. خزرها وگام گومة حزب للكلفات .. يخسه اللي يگلك عن شعبنه يموت .. ساعة وتضحك الرايات ..) وعند مراجعة تفصيلات هذا المشهد المحتدم بتمعن تأملي عميق وتحليلي سنجد أن الشاعر قد "حشك " – دسّ ضربة الموت التي جاءت أشبه بوخزة وسط تلاحق الحركات المعبرة عن صلابة إرادة الحياة (هذا لا ينفي اعتمال قلق الموت والسيطرة عليه من خلال آلية التكوين الضدي – reaction formation)، كما أنه لم يُبق لتلك الوخزة دورا يذكر بعد أن أعاد بطله - ميّته إلى ساحة العمل الإرادي ؛ يخزر مؤنبا ويقف بشموخ حزب وثباته . ووفق هذا التصميم استخدم الشاعر الفعل (نبگ) الذي تتخلف عنه حتى الأفعال انبثق، انطلق، وغيرها في الفصحى في تجسيد سرعة الحركة وطبيعتها المفاجئة كتعبير عن شدة الحركة الحية الدفاعية . لكن السمة المهمة التي يتصف بها الإبداع النوابي في هذا المجال – مجال مواجهة الموت، هو أنه الشاعر العراقي العامّي الوحيد الذي احتفظ بنبرته التفاؤلية في تعامله مع الحياة وهو يواجه الموت ليس كشعور بأنه المآل النهائي المرسوم بتعسف حسب، بل في مواجهته اليومية في السجون والمعتقلات وفي تجربة النضال المسلح والتي جسدها شعرا في قصائد تسلّحت بها قطاعات واسعة من الشعب العراقي – جماهير ومناضلين وقادة، والغريب أناس سياسيين من غير الشيوعيين، والأكثر إثارة للغرابة والعجب أن بعضهم من تنظيمات سياسية مناهضة للتيار الشيوعي بل معادية له، وأشار الناقد المبدع " فوزي كريم " إلى أنه حتى المسؤولين الأمنيين يقرأون قصائد النواب في معرض : " تفكيكه " لحداثة ثياب الامبراطور في إشارة إلى أن الحداثة أفقدت الأدب دوره المربك للسلطات القامعة، لكني أجد ذلك مصدر قوة للمنجز النوابي الذي جاء كما قلت حداثويا وشعبيا - . إن تجربة " ما بعد الموت " التي مرّ بها الشاعر في أثناء إقامته في " عدن " كمنفي سياسي، وهي من التجارب النادرة جدا في الطب عالميا والتي تصنّف عادة ضمن الظواهر الخارقة " الباراسيكولوجية " أو " الخارقية " حسب المصطلح الموفق الذي اجترحه الراحل الدكتور " علي الوردي " - وهي تجربة مستحيلة ضمن معطيات الادراك البشري المحدودة التي لا تستطيع تفسيرها في الوقت الراهن - يمكن النظر إليها كتجربة حلمية امتدت في احشائها بقايا التجربة النهارية المدمّرة التي عاشها بعد موت صديقه في بيته، بيت مظفر، وتحميل الشاعر نفسه مسؤولية هذا الموت، والشعور بالذنب الرهيب الذي تأسس على ذلك والذي تجسد في حالة الإكتئاب الحادة والحزن الشديد المتواصل - هي في الجوهر المشترك لكل الاحتمالات (عملية شعرية نفسية دفاعية) ضد الموت انفقدت حيثياتها التفسيرية الفيزيولوجية .لم يحزن النواب مثل هذا الحزن من قبل أبدا . كانت لحظة انبثق فيها كل حزنه المقموع .. منذ طفولته . منذ شبابه المقاوم .. منذ انكسارات مشروعه السياسي .. والأهم منذ فجر تاريخ شعبه .. في هذه الحالة يبدو أن موت هذا الإنسان العزيز مثّل خلعا في أناه الشخصي بعد أن استدخل الشاعر - introjection الشخص الذي رحل ضمن تركيب ذاته اللاشعوري، وهي الحالة نفسها التي هزت أركان وجود جلجامش عندما توفي خله وصاحبه " أنكيدو " وهو الذي لم يفكر في الموت يوما ما ويمارس القتل في الحروب ببساطة، أي أنه يرى الموت والجثث يوميا، فما الذي أرعبه في موت أنكيدو ؟ . عند موت محبوب استدخلناه في ذواتنا ؛ في هذه الحالة فقط تهتز قواعد اللاشعور الذي " يشعر" دائما أنه عصي على الفناء فنحس بأن كياننا هش وبأننا قابلين للإنجراح بمخالب المثكل . قال معلم فيينا في كتابه السابق نفسه " أفكار لأزمنة الحرب والموت " : " أن الإنسان منذ القدم اتخذ موقفا متميزا للغاية إزاء الموت . فهو من ناحية كان يأخذ الموت مأخذ الجد ويدركه باعتباره ختام للحياة وكان يستخدمه لهذه الغاية ومن ناحية أخرى فإنه كان ينكر الموت ويرده إلى العدم . وقد نشأ هذا التناقض عن أن الظرف الذي جعله يتخذ موقفا تجاه موت إنسان آخر، أي موت إنسان غريب، يختلف اختلافا جذريا عن موقفه إزاء موته هو نفسه . لم يكن لديه اعتراض على موت الإنسان الآخر : فقد كان يعني فناء مخلوق مكروه، ولم يكن لديه أي تردد في إحداث هذا الموت . فقد كان - في الحقيقة - كائنا بالغ العنف، أشد قسوة وأكثر إيذاء من الحيوانات الأخرى . كان يجب أن يقتل، وقد كان يقتل بطبيعة الحال ولا حاجة بنا لأن ننسب إليه تلك الغريزة التي يقال أنها تكبح جماح الحيوانات الأخرى عن قتل وافتراس الحيوانات من نوعها . لقد كان موت الإنسان القديم بالنسبة إليه أمر لا يمكن تخيله وغير حقيقي تماما كما هو بالنسبة لأي منا اليوم " . نحن هنا في قلب موضوعة إنكار الموت – DENIAL التي هي آلية دفاعية نفسية معروفة . " ولكن - والحديث لمعلم فيينا - كانت هناك بالنسبة إليه - أي إلى الإنسان - حالة يتصارع فيها الموقفان المتعارضان تجاه الموت، وكانت هذه الحالة بالغة الخطورة وتسفر عن نتائج بعيدة الأثر، وكانت تحدث حينما يرى الإنسان البدائي شخصا يمت إليه بصلة - زوجته، إبنه، صديقه - وهم الذين كان يحبهم بالتأكيد كما نحب نحن ذوينا . ذلك أن الحب لا يمكن أن يكون أصغر كثيرا من الشهوة إلى القتل . عندئذ فإنه - في لحظات ألمه - كان يتعين عليه أن يتعلم أن المرء نفسه يمكن أن يموت، وهو اعتراف كان كيانه كله يتمرد عليه، ذلك أن كل واحد من أولئك الأحباء إليه كان - بكل صدق - جزءا من (أناه) المحبوب . ولكن حتى رغم هذا فإن حوادث الموت هذه - من ناحية أخرى - كانت لها مصداقية بالنسبة إليه، حيث أن شيئا ما من الغريب المعادي كان يقيم داخل كل من هؤلاء الأشخاص الأحياء . ومن المؤكد أنه كانت لقانون التناقض الوجداني - AMBIVALENCE" للشعور الذي يحكم إلى يومنا هذا علاقاتنا العاطفية مع أولئك الذين نكن لهم أشد الحب - مشروعية أوسع نطاقا بكثير في الحقب القديمة . هكذا فإن أولئك الموتى الأحباء كانوا أيضا أعداء وغرباء يثيرون في الإنسان القديم قدرا من الإحساس العدواني " . هنا يأتي الالتفاف الخلودي الإبداعي لمظفر النواب الذي سنستوعبه بصورة أكبر بعد مداخلة معلم فيينا هذه التي اقتطعناها . لكن من النادر أن تجد نصا للنواب تنكسر فيه إرادته أمام هجمة الموت بصورة نهائية، قد يتراجع أمام هذه الهجمة الماحقة لكنه لا يندحر على طريقة همنغواي (أن الإنسان قد يتحطم، لكنه لا يُهزم) - وستكون لنا وقفة تفصيلية في هذا المجال - لكننا نراجعها هنا ضمن إطار السمات العامة للثورة النوابية . عندما يتراجع النواب أمام المثكل وقتيا فإنه يتراجع كأسد جريح . كان الهاجس الطاغي لدى السياب في شعره هو الموت الوشيك والهشاشة الوجودية أمام الفناء . والأشد من ذلك هو ما أثبتناه في كتابنا : "التحليل النفسي لرسائل بدر شاكر السياب " من سيطرة الخوف من شبح الموت على السياب منذ مراهقته المبكرة . تجلى هذا الخوف في أحلامه وقصائده المبكرة ورسائله إلى صديقه " خالد الشواف " وهو في مرحلة الدراسة الإعدادية . ولهذا يعتبر بعض النقاد وهم محقون أن السياب "انتحر" ولم يمت في الواقع . لقد اندحر وتحطمت إرادته المقاومة فركب الموت على ظهر وجوده وساقه مستسلما إلى ظلمات العالم الأسفل . لكن النواب وهو في أشد حالات المرض التي شاهدتها بعيني كان باسلا في الحفاظ على كبريائه العزيزة . كان حين يُسأل عن وضعه الصحي وعليه أعراض متعبة من مرضه المزمن، يرد : زين .. وفي أسوأ الأحوال يقول : زين .. ومو زين !! . حتى في الأوضاع التي يتسيّد فيها تأثير المرض كحقيقة ساحقة ويكون فيها المصير أشبه بصفعة على خد وجود الفرد الرقيق المهادن والمستعلي احترازا من المهانة، يحاول إنصاف ذاته الجسور فيحتفظ بنصف من كفة الصراع . النواب هو الشاعر الذي لم يندحر أبدا أمام مخالب المثكل الباشطة . كل من سبقوا مظفر أو عاصروه في الشعر العامي أو الفصيح بشقيه (العمودي والحديث - شعر التفعيلة) مرّوا بحالات مراوحة بين الإقدام والإحجام تكللت بالإقرار، المستخذي أحيانا، بحقيقة الموت ؛ الحي الذي لا يموت كما وصفناه بحق . إلّا مظفر النواب : فهو الإنسان الذي يطوّع معادلات الفناء رغم علمه بحتميتها وقدريتها التي لا تُرد ولا تتزحزح . ولا يمكن الحصول على صورة كاملة تعبر عن هذا الحال العجيب إذا لم نمض وبصورة متسلسلة من عيش حچام واسعيده في أتون تجربة المواجهة مع رموز القمع ؛ الشرطة - المسخ التي لا هي كلاب ولا هي رجال . تلك التجربة التي تنغزل فيها خيوط الشروط الحركية والصوتية والضوئية واللونية - وهذا التظافر التعددي هو جوهر الفعل السينمائي - والتي تتصاعد حسب الحركة الموجية المتناوبة بين صعود وهبوط جزئي لا يصل القعر الانفعالي أبدا -لأن عتبة - threshold انفعال روح الشاعر متوترة دائما وعالية المستوى حتى في حالة المناجاة الحلمية الشعرية، ومختلفة عن عتبة انفعال البشر العاديين. تابع مشهد الاستنجاد بنخوة حچام ومحاولة استنفاره لخوض المواجهة المسلحة وإثارة غيرة الحديد واستثارة روح البنادق والأهم بذور تجربة ما بعد الموت في المقطع الذي سنشير إليه في أثناء السياق : (- يا ابن الحرة هذا عراگ

 وفز غرنوگ

واتعايطن بالليل البرانو .. حده حادي النوگ

- آنه اختك

- ولچ سعده ! يسعده اشجابچ لموتي ؟

 وشبگها وعاتباها

 وريح التفگ اعله صدره

 ولنّه صاح الموت

 بگرينوف

- لا يرتاع گلبچ آنه عد عيناچ

........................... ........................... ............................ .............................. حتى لو خذاك الموت

خزرها .. وگام گومة حزب للكلفات

يخسه اللي يگلك عن شعبنه يموت

 ساعة

 وتضحك الرايات

كل خيمه وراها اثبات

كل شيلة علم لا بد وراها رجال

كل ميت مثل حچام يشيل جبال) . وفي ثلاث مواضع تتكرّر مفردة (التفگ – البنادق) وهي :

أ‌-    (وريح التفگ اعله صدره .. ولنّه صاح الموت)

ب – (ساعه والتفگ والليل والحوبات، متغاوين)

ج- (شگولن للتفگ لو ناشدن عنك) .

ولو أمعنا النظر في الاستخدام الأول سنجد أن الشاعر استخدم صيغة للمفردة (بسكون التاء والگاف وسكون الثانية أشد وقعا) تجعل جرسها عنيفا يتناسب مع حركة الريح السابقة - كأنها نفخة قوية - ومع صيحة الموت المخيفة اللاحقة .أما في الاستخدامين الثاني والثالث فإن الحالة أقل عنفا واحتداما - في الأولى نوع من التغزل بالأمل المقبل وفي الثانية حالة من الرثاء الهاديء ضمن سياق أسى شفيف ولذلك استخدم المفردة نفسها بضم التاء وبفتحة أكثر امتدادا إذا أمكن القول واجتماع الضمة والفتحة رفع من رخاوة النطق . وفي استخدام الأبيات الأخيرة مسبوقة بالحرف "كل " سترتبط إحالاتنا الذاكراتية تلقائيا أو بفعل قوة الحرف القرين المحايث لحركة الذاكرة بـ (كل روح ومراضعها..كل إيد وأصابعها.. إلخ). لكن الأهم - في اللعب المناور مع سلطة الموت هو أن حچام لا يموت بعد الموت - وهنا يتجسد الدور" العلاجي " للإبداع -، فحسب نداء اسعيده تبقى عيناه مفتوحتين حتى لو كان ميتا كما أسلفنا .. ونحن نعلم أن العلامة الأولى للموت هو جمود البصر وانفتاح العينين وعدم استجابة القرنية للحركة المفاجئة - لهذا تهز الأكف أمام عيني الميت المشكوك في موته أو تلمس قرنيته حيث تنغلق الأجفان في حركة انعكاسية لاإرادية - وكأن اسعيده تعالج الداء بالداء كما يقول طيب الذكر " أبو نواس" ..إنها تقلب علامة الموت إلى علامة للحياة تتصالح فيها وبهذا تلغي عملية الفناء من أساسها حين تحول مظاهر فعل الموت إلى خصائص لنقيضها . والشاعر الصانع - ولنقل بكل رهاوة " الصانع الأمهر " وهو الوصف الذي أطلقه ت . س . إليوت على " عزرا باوند " في إهدائه قصيدته الشهيرة " الأرض اليباب " إلى الأخير - يواصل - تذكّر أيها القاريء عصا لعبة عدو البريد الشعرية التي ابتكرها مظفر - الشاعر استثمار انفتاح عيني حچام بعد الموت حين يجعله (يخزر) أخته، وفي الخزر أقصى حدة للغة البصر الزاجرة : (خزرها .. وگام ..) وتتصاعد لعبة تكثير أفعال حچام (الميت) نوعيا لتصل أقصى صورها الدفاعية الخلودية في جعل حچام الشخص الميت الذي انتهى فعله إلى الأبد قادرا على حمل الجبال - البيت الأخير من المقطع السابق - . وإذا التفتنا إلى صورة " فز غرنوگ " فإننا سنشخص سمة أسلوبية مهمة في شعر النواب . فقبل القصيدة النوابية كانت القصيدة ممركزة الاستجابة ضمن دائرة الشاعر الفرد أو دائرة وجود موضوعه المحدّد ..كان الانفعال آليا يحصل في أعماق " الماكنة " البشرية على أساس قاعدة السبب والنتيجة ..حيث تلقمها الحياة بالخطوب والآلام لتنتج المعاناة وصور الانكسار النفسي .. يتحدث الشاعر عن هموم حبيبه وابتلائه بهجرانه وغوايته .. يصف أرضه وآلامها كما يصف ما يجري في صورة ذات إطار صارم عليه أن لا يتجاوز حدوده إلى المكونات القريبة منه لأنه يعتقد أن لا علاقة لهذه المكونات بما يجري في داخله .. وباختصار لم يكن احتدام الانفعال الداخلي" معديا - infective " . في قصيدة مظفر أصبح الانفعال الذاتي " معديا "، وهي عدوى مباركة تشمل بتأثيراتها الموجودات التي تحيط به، حية أو جامدة .والأهم من هذا هو " القصدية – intentionality " في هذا الابتكار الأدائي، حيث أصبح الشاعر " يتعمّد " توسيع دائرة انفعالاته لتصيب بعدواها مكونات البيئة المحيطة بالشاعر أو بالموضوع الذي يتناوله .. مع مظفر بدأ ما يمكن أن نسميه " تأثيث المكان " الانفعالي ؛ حيث تتسع دائرة حساسية الاستجابة العاطفية العارمة (الإسقاط – projection) لتحرّك رد فعل مماثل - قد يكون أكثر عنفا من ردة الفعل الأصلية - في أوصال الحيوان، وحتى المواد الجامدة . لم يكن الشعراء، قبل النواب، يدركون أن المشاعر يمكن أن (تُسقط) وأن الشاعر بإمكانه أن يقوم، من خلال العملية الشعرية، بخطوة " إحيائية " يبث فيها روح الحياة في أوصال الحجر أو الخشب مثلا، أو " يشخصن " ما هو غير مشخصن : (رد الهور : يا حچام، يا حچام .. يا ح.. چ .. ا…… م ... طارت غاگه مكسورة جنح بالزور ... فزت گبله البرنو .. لگطها ابساع ) .. وكأن نداء الهور الذي دوّى استجابة لنداء اسعيده قد أيقظ الطائر الذي تلبس انفعال الحالة الإنسانية الآىسية ؛ حالة اسعيده التي حاصرت شقيقها فلول الشرطة، الحالة العامة المنكسرة التي تجسدت في جنح الطائر المكسور .. أو : (هذا عراگ .. وفز غرنوگ .. واتعايطن بالليل البرانو ..حده حادي النوگ) حيث تعود حركة استيقاظ مفاجئة لكائن لا بشري مشبع برائحة الماء والاسترخاء اللذيذ ليكون الشارة المنذرة بعمل بشري مسلّح يمزق وحدة البشر والأشياء ويهشم أواصرها . وعند هذا الحد تنتهي الحركة الثالثة الكبيرة والتي - وفق أحكام النظام الموسيقي الذي يعرفه الشاعر - يجب أن تصل أدنى مستوى في الصمت كي تبدأ الحركة الكبيرة الرابعة،لكن الحركة الأخيرة وهي في طريقها إلى أن تهوي إلى مستقرها تتلقفها أنامل السارد الثانوي ويرتفع بها قليلا ممهدا لحركة أخيرة، لحركة ختامية لا نعرف مضمونها ولا شكلها لأن من المفترض أن تنتهي القصيدة بالإعلان الختامي المتفائل بعد أن قُتل حچام وانبعث : " كل ميت مثل حچام يشيل جبال " - والكثير من نصوص مظفر لا تستطيع توقع صيغتها النهائية مثل توقعك لنهاية القصيدة الكلاسيكية، هو الذي أدخل عنصر المفاجأة والنهاية غير المتوقعة في القصيدة العامية أو لنسمها " لحظة التنوير " كما هو مألوف في فن السرد، وعن طريق المفاجأة يتلاعب بأعصاب القاريء وتوقعاته التي كانت مسترخية في ظلال النهايات الكلاسيكية -، هكذا ينهض ذكاء الشاعر وتشفّيه المهاري فيتسلم صخرة السرد وهي تتهاوى نحو قعر الحكاية ليلتقطها قبل أن تستقر وتهدأ و " تبرد " الحركة، ويرتفع بها ممهدا لـ حركة "سيزيفية" مقبلة لأن جهده التوليدي الخلاقي لا يكل ولا يمل ولا يقر :

(وقصتنه بعدهي بأول القصة

وگع حچام ومات الصبح . والتمت علينه الشرطة

والحوشيّة

وسعيده خذوها اميسره

لسجن "الرفاعي "

 وخيّمت ليلة حزن

 سنتين !!)

هكذا نبدأ رحلة صعود جديدة لذيذة العناء . وهنا تتضح هوية جديدة للسارد - الأنا الجمعي المتكلم - من خلال : (قصتنه، و.. التمت علينه . إن تعبير (قصتنه بعدههي بأول القصة) .. هي الخطوة التمهيدية التي تستدرجنا بفعل ذكاء الشاعر نحو اللعب الخلودي الدفاعي .. وهو لعب - على أية حال - كي نعيش ومنذ نصف قرن - بل أكثر من ذلك زمنا – في الظلال الباردة المنعشة لشجرة مظفر الوارفة . لقد عاش شعب كامل - وهذه ميزة لم يتمتع بها أي شاعر "حداثوي " قبل مظفر ولا بعده - في ظل الفعل النفسي والجمالي الخلودي (الدفاعي)البهي لمنجزه . كل ما قدمه الشاعر من أبيات متراصة لم يكن أكثر من مداورة يائسة لأننا نستطيع تفسير استخدام وصف : " تبقى عيونك امفتحات "، من باب الربكة النفسية والوقوع في شباك المهدد المطارد نفسه، لكنها بالنسبة للشاعر خطوة حاسمة ، لتحصين الذات في وجه المثكل . يئس جلجامش وانخذل ولم ييئس مظفر من الظفر بعشبة الخلود، عشبة خلود مظفر هي شعب مظفر العظيم ؛ شعب العراق العظيم - هدية الله للبشرية - أرضه بترابها وحبها وبصلها وشمسها وطينها، وكلّها مشتقات من الحضور النفسي اللاشعوري المختزن والوجودي الكوني والفردي الفعلي لحضور الأنثى الأسطورية العظيمة : الأم . وعليه فإن عشبة الخلود النوابية هي ليست حچام البريس ولعيبي وسعود وجابر .. و .. و..من الأبطال الرجال على أهمية حضورهم وفعلهم النضالي المقاوم وكما يحاول مظفر أن يرسخ ذلك في أذهاننا بفعل دور حچام في الحكاية .. بل هي اسعيده وكل النماذج – الأصوات الأنثوية التي تصدت لتبليغ رسالة الشاعر – راجع قصائد حسن الشموس، مضايف هيل، عشاير سعود، مامش مايل، سفن غيلان ازيرج وغيرها الكثير الكثير حتى ليمكننا القول بلا تردد أن المنجز النوابي بأكمله قائم على حقيقة اكتشفها من خلال مقومات لاشعوره التي رسمت للصورة الامومية / العشتارية كإلهة منقذة بخلاف الأطروحات المتعسفة التي دامت آلاف السنين . هذا الاكتشاف شيء يتململ في أعماق المبدع، يعرفه حدسيا ويصوغه شعريا لكنه لا يستطيع وليس من مسؤوليته أن يوصفه " علميا " أو " نظريا " . وكان معلم فيينا يأخذ ضيفه ليريه محتويات مكتبته، ويشير إلى أوديب ملكا لسوفوكل وهملت لشكسبير والاخوة كرامازوف لدستويفسكي ويقول : هؤلاء أساتذتي . لقد اكتشف الأدباء الكثير من قوانين النفس البشرية بصورتها الأولية قبل علماء النفس الذين قاموا بوضعها بعد ذلك في صورة قوانين علمية ونظريات نفسية . ليس في مجال علم النفس فقط، بل حتى في المجالات العلمية الفيزيائية، وليس طرفة أن نقول أن الكثير من المخترعات العلمية الحديثة كانت نوى أفكارها موجودة في تخييلات ألف ليلة وليلة مثل المناطيد والغواصات والسينماتوغراف والتلفاز والمدفع الرشاش . قوة الخلق تأتي من أعماق اللاشعور وليس من الوحي الذي قد يضل طريقه وهو يهبط من السماء، والمبدعون يمتلكون هذا الشرط الحاسم للإبداع الذي يؤجج خيالاتهم . إن النواب يكتشف حقيقة نفسية لاشعورية غيبت طويلا من خلال الموروث الأسطوري عبر عشرات القرون من تاريخ البشرية الطويل وذلك عندما إلحقت سمة إله الخصب والإنقاذ بالآلهة الذكورية .فـ " اسعيده " الأنثى هي (إلهة الخصب) و(إلهة الإنقاذ) وليس حچام رغم وقفته المقاومة التي تكللت باستشهاده ، وفوق ذلك فهي (إلهة الإنتظار) : (من غبتو، التفگ ملهاش خطّابة ..

 واگلكم روحي عثها الليل ..

 واختنگت عليكم بيها عطابه ..

 مضغبره .

 وأچول من الچول ..

 وگامت بيها وحشة ليل وترابه ..

 يبريس .. روحي معيوبه عگب موتك ..) وفوق ذلك فهي (إلهة التحمل) الخارق .. هي التي تتحمل عذابات كل العصور بكافة أشكالها . تتحملها نيابة عن الجماعة كلها .. وهي نتيجة طبيعية مادامت هي الأم التي (خلقت) الجماعة وتكبدت المشاق الجسيمة من أجل استيعابها ضمن جنّات رحمها وقاست أهوال آلام المخاض في إنجابها – وليس عبثا أن أول إله عبد في التاريخ كان أنثى - ولذلك نجدها تعبر عن قسوة معاناتهم بضمير الجماعة المتكلمين : (وأگولن عيب أخت بريس ..

 جرحنه، يواكح صوابه ..

جرحنه من وگع (شعلان) ..

 ما يوگف عليه رماد ...

 جرحنه چبير ما لمته ديرة ناس ...

 ولا نامت عليه الگاع) ..

وهي (إلهة الانتظار) .. الانتظار المديد المتطاول الذي يجعل عيني روحها تبيضان لكنها تبقى محتفظة بإرادتها المتفائلة المسننة .. فهي (إلهة الأمل)، الأمل الذي يزهر مع الربيع حيث الانبعاث والتجدّد :

(يبريس، روحي خلصانه ثلثترباع ..

 وما چلت ..

 وأمل بيها، بكثر ما خضّر البردي ..

 وتظل الگاع ..

 أمل بيها ..

 وأواكح بيها جوع ضباع

 جرح البينه لو بالله

 .. كفر ..

 واحنه بعدنه اوساع)...

وهاهو الشاعر يعود إلى استخدام الفعل الافتتاحي الأول في القصيدة " أواكح " لكن ليس لليد بل للروح التي يقاوم بها جوع الضباع .. وهي تتفق في قصورها مع الصورة الاستهلالية التي تتحدث عن جسارة يد مقطوعة الأصابع إلى حد كبير، إذ الروح المستميتة هنا قد استهلك ثلاثة أرباعها ورغم ذلك ما زالت تقاوم بثبات منتظرة الغائب ورفاقه . وإذا كانت هذه هي العودة الثالثة إلى فعل مفرد لغرض تحقيق الوصل الذهني بين حبات المسبحة وتأكيد وحدة القصيدة وتقليب المفردة على وجوهها المختلفة فإن النواب يدخل سمة أسلوبية جديدة في بنية القصيدة الشعبية شاعت من بعده حتى يومنا هذا ولم تكن موجودة ومبررة فنيا قبله، وهي اللازمات التفسيرية !(جرح البينه .. وساعه .. ويكولولك احنه نموت ..) حيث يكرر الشاعر لازمة ثم يفسرها بصورة مختلفة في كل مرّة ليضاعف أثر معانيها الذهنية والنفسية والجمالية لدى المتلقي .هذا حصل في مواضع كثيرة من القصيدة تعرضنا لبعضها سابقا بصورة سريعة . هنا يستخدم مفردة (جرحنه) أربع مرات في الأولى أعلن فيها أن جرحه " يواكح " جرحه، وفي الثانية والثالثة يصعّد نقمة هذا الجرح الذي لا تسعه أرض ولاتستوعب مديات احتراقه فضاءات، لا يتصالح ولا تهدأ نيرانه ..هو إذن بسعة الكون ولو كان في جسد الآلهة التي هي أوسع من الكون وتحتويه بإرادتها الجبارة لكفرت ولم تستطع استيعابه وتحمله ..ورغم ذلك فما زلنا - والحديث لاسعيده، (إلهة الأهوار العظيمة)، وهي تتحدث بلسان شعبها - نتسع لجروح أخرى . هنا يستخدم مظفر أسلوبا مميزا في الوصول بالصورة الشعرية إلى أقصى مستويات تجسيد وتشخيص ضراوتها من خلال التقابلات المتضادة والمتناقضة أو المتجانسة بالضرب على وتر حدة التجاوز المعنوي.لاحظ تقابل الجرح مع "الصواب" الذي يقاومه الأول لأن الأخير أكثر مضاء وألما،والأهم أشد سعة منه، وتقابل : " وگع " و " يوگف " . ويستخدم - ولأول مرة - لازمة طويلة هي عبارة عن بيت كامل بعد أن كان كلمة هو " ويگولولك احنه نموت ! " التي تزين هامة الإيقاع التفاؤلي التصاعدي الذي يبدأ تناميه المطلق من تساؤل اسعيده " يصح ردّوا " التي جذب الشاعر تركيزنا بعيدا عنها حتى وصلنا ذروة التفاؤل عند ختام القصيدة " ويگلولولك العفنين احنه نموت " الذي يصف الشاعر فيه الأعداء بالعفونة التي هي أقسى درجات الموت المؤجل القذر المصحوب برائحة التفسخ المغثية الـ " تلعب النفس " التي تعيدنا إلى رائحة ذلك الكائن المسخ الذي لاهو بالكلب ولا هو بالإنسان، وحيث نقف مقتنعين تماما بأن الظفر قد تحقق،وأن الأرض الطيبة قد عانقت ربيعها وتطهرت من أدران الثعالب والذئاب،وجاء الفجر بالبشائر، والأخطر وغير المتوقع هو أن حچام الشهيد قد عاد معافى،مع الحصاد، إلى " ديرته " التي نمت واتسعت بيوتا ومعامل وحقولا – فماذا "سينقذ" حچام وق أزهر كل شيء وأينع ؟ - لكنه وكأن مظفر يلمح - بمكر - ولا يصرّح، ويدع الأمر لإدراكنا أن كل ما بني .. وكل ما نما من خير ورخاء وهناءة ظليلة.. كل بهاء الديرة وإشراقها والمحبة التي نحيا بسلام تحت خيمتها، هي من صنع أيدي اسعيده التي رغم أنها ثُكلت بأخيها " حچام " المقاوم إلا أنها استطاعت بإرادتها وإرادة أهل ديرتها الحديدية أن تحيل الديرة الخربة المستلبة إلى فردوس أخضر - هذا يحيلنا إلى مهمة الدور الاجتماعي للأدب الذي تمسك به النواب حتى اليوم رغم أنه تضاءل في ظل الفهم السيء لموجة الحداثة وما بعد الحداثة وهذا ما نبه عليه فوزي كريم -، اسعيده هي إلهة النماء والخصب، وقبله وضعها مظفر إلهة للشجاعة وأنموذجا للإرادة المقاومة التي تحث حچام على الفداء والتحلي بالروح التعرضية: (قصتنه اعله حچام الحذر بالهور يمشي الراگ .. صاحت أخته : لا يا خوي ... لا يا زين .. لا تمشيش راگ، الراگ .. يا ابن الحرّه .. لابد ... إلخ) .. ثم تبدأ تغرس في وجدانه، وقبلها في وجدان أهلها :، ضرورة العودة إلى دروب الكفاح والصمود حتى بالزجر : ولك ردّوا .. وهاهي تستقبل عودته الإنبعاثية وقد تحقق حلمه في ديرة متحررة ناهضة .. لكن الشاعر غيّب عن أذهاننا صيحة اسعيده : يصح ردّوا .. فيكون الأمر كلّه كحلم أمومي باذخ .. هذا الحلم هو الذي تقلبه تصورات الإبن الفنتازية - الأوديبية ليشكل صورة بطولته الذاتية في صورة إله قتيل " يغيب " فتصاب الارض - الديرة من بعده بالجدب والقحط، والأهم أن الأم، موضوع الحب الأثير العظيم، وحسب خيالاته، تُستلب من بعده، و" تنتظر " قدوم المنقذ و " انبعاثه " وعودته الظافرة لـ " انقاذها " . هذا السيناريو المتخيل هو مقلوب وقائع القصة الحقيقية التي خطّت مساراتها اسعيده – الأنثى ذات الفعل الأمومي . هذا ما " اكتشفه " النواب بحدسه العميق الكاشف الخلاق منذ الخمسينات، ولم تظهر النظريات التي تعيد تصحيح تسلسل أحداث واقعة الغياب والبعث والإنقاذ كفعل عشتاري – أنثوي أمومي أصيل . هذا الفعل الذي تختم اسعيده نهاياته الحلمية بصيحة مستخفة بكل قوى الغدر والموت والخراب لتؤكد المعادلة الصحيحة التي يراهن من خلالها مظفر الذي يعيش حالة " ما بعد الحب " لشعبه الجبار رغم كل قيود الإحباط والذل والمهانة : (ويگولولك احنه نموت ...

 هاي الدنيه ما يبنيها غير أهلك ...

 وميّتنه أرد أگلك ...

 من تشيله الناس ..

 يدير العين للديره ...

 ابمحبه ....

 وهوه بالتابوت ...

 ويگولولك العفنين، احنه نموت) .

فكيف يتحرك الميت ويدير رأسه نحو ديرته المحبوبة وهو في جوف التابوت المظلم ؟ تبقى أنظار النواب شاخصة نحو بغداد، الديرة - الأم حتى بعد الموت . هذا يذكرنا بختام قصيدة أخرى لمظفر هي (يجي يوم نرد لهلنه) حيث ينهيها بقوله : (يجي يوم اركض بالدرابين ..

 أتعلگ بالشناشيل ..

 أبوس البوب ..

 أگولن ييزي يا بغداد ...

 يجي ذاك اليوم ..

 وان ما جاش ...

 ادفنوني عله حيلي .. وگصتي لبغداد) وهذه هي حالة " ما بعد الحب " . وكل ذلك الإبداع المهيب والبهي من نتائج حالة " ما بعد الحب " . لكن لا يستطيع الشاعر إنهاء قصيدته دون أن تبرز روحه التحرشية، التحرّش بالوجه الحمايوي للعملة الأبوية الخاصية، لذلك تكون رجفة الانبهار عبارة عن مزيج من رعدتي انتشاء وتشف وعودة إلى سحر اللغة المفقود الكامن في التجديف . يحصل هذا في موضعين أخيرين : أ - (يصح ردّوا ..

 وأزامط بيهم الله

 وشرطة الزرگة ؟)

ب – (جرح البينه، لو بالله

 كفر ....

 واحنه بعدنه وساع)

وفي الموضع الأول تتضح بقوة حالة "ما بعد الصبر" التي لا يخفف من آلام جراحها الباهضة التصور المتخيل المعبر عنه بـالتساؤل " يصح ردّوا ؟ " الذي يضع وقائع القصيدة - في حركتها الرابعة والأخيرة - كلها موضع التشكيك . ولكنه تشكيك ينتفض ويقفز بشراسة إلى مرتبة التحرّش الأعلى والأكثر إغواء بالانزلاق على منحدر درب " التأليه " الذي هو آخر وأعلى مراحل الدفاع الخلودية الدفاعية، وذلك من خلال تعبير اسعيده اليائس والمبهر في أن جرحهم - وهي تتكلم الآن بلسان جماعتها المسحوقة - وهذا جانب من لعب مظفر بالضمائر الشعرية الذي لم يجرؤ شاعر قبله على الانغماس فيه بهذا الشكل الخلاق . لكنه يحقق الانتقالة من حجم جرح نسبي ويمكن تحمله نسبيا إلى جرح لا تتحمله حتى الآلهة من خلال شعرية المضمون ومخادعة الشكل وتمويهه، فيها - وبصورة غير مسبوقة لكن الشاعر استخدم الوصف نفسه في قصيدته اللاحقة "جرس عطلة " التي سندرسها لاحقا - من الإيهام " التكثيري " المربك : (يبريس ! روحي خلصانه ثلثترباع

 وما چلّت

 وأمل بيها، بكثر ما خضّر البردي

 وتظل الگاع

 أمل بيها

 وأواكح بيها جوع ضباع)

إن تلاشي ثلاثة أرباع الروح وبقاء ربعها المقاوم الذي يضخم الشاعر دوره بصورة كبيرة من خلال أنه يستطيع – هذا الربع – تحدي الآلهة ونشر هذه " الخدعة " بحيث أن الشاعر لا يتردّد في الإعلان أن :

 (كل ميّت مثل حچام)

... هو الذي يمنحنا سمة الدخول إلى عالم الإله المنقذ المتعب الذي نعتقد خطأ انه الإله تموز – الذكر، في حين أن الكثيرين من الباحثين يرون أن الإله المنقذ الحقيقي هي الإلهة عشتار – أنانا . فقد هرب دموزي مرتعدا من شياطين العالم الأسفل التي جاءت كي تقبض عليه وتهبط به إلى غياهب عالم الموت، لكن عشتار الأم – الحبيبة هي التي اختارت القيام بالحركة التعرضية التي أغاضت الآلهة – آلهة العالم السفلي- الموت – والعالم العلوي – الحياة – على حدّ سواء من أجل إنقاذ حبيبها – ابنها – زوجها . تنوح إنانا قائلة : (راح ولدي الحبيب .. راح زوجي الحبيب). في أغلب قصائد مظفر يكون (الإله المنقذ) - بطل القصيدة المخلّص - إما أنثى ذات هوية صارخة وواضحة، وإما أن تكون مموهة جزئيا، وبمهارة عجيبة بحيث نقع في فخ الالتباس الملغز الذي يعطل فك أسرار الهوية لكنه لا يجعل هذا الأمر مستعصيا حد الاستحالة . وهذا هو من أسرار حداثة النواب المدهشة التي حسمت أشد معضلات الحداثة العربية اشتباكا وتشنجا، إنها البساطة المركبة، وأعتقد أن هذا هو روح ما نسمّيه بـ " الشعرية - poetic " الذي نمتلك للأسف أكثر من ثمانية عشر تعريفا لها في النقد العربي،الأمر الذي يفضح الأمية المشوشة المتغطية بغطاء اللعب الاصطلاحي . وهنا تكمن واحدة من أشد السمات الأسلوبية دلالة .

 وتبقى ملاحظة أخيرة شديدة الأهمية وهي أن النواب هو الذي أدخل مفهوم القصيدة الطويلة ذات الروح الملحمية والوحدة الموضوعية (مبنى ومعنى) في فضاءات الأدب العامي العراقي والعربي وفق صيغة ابتكرها هو بخلاقيته العالية ومعرفيته الموسوعية و" العامل الآخر " كما أحب أن أسميه . دائما هناك عامل متخف لا نستطيع الوصول إلى أماكنه المظلمة . الإبداع يختمر وينضج دائما في زاوية عميقة معتمة اسمها اللاشعور . في هذه الزاوية تتم حركة فواعل العملية التي نسميها خطأ إلهات الإلهام أو شياطين عبقر أو ملائكة الوحي . النواب يعمل كحدّاد منظّم لكنه ليس شرطا أن يكون عارفا بكل تلك الشروط . هنا تتجلّى عظمة اللاشعور ودوره في الحياة الإنسانية من اتخاذ القرارات السياسية التي تدمر حياة البشر في الحرب وتحصد أرواحهم بلا هوادة إلى انتقاء الناقد مفردة معينة من قصيدة مظفر والإمعان في " تحليلها " الذي قد يكون تحليلا ذاتيا مناورا ومسقطا لا يعيه الناقد نفسه الذي لم يخضع للتحليل، لأنه يُنجز عبر مداورة شديدة التعقيد والإيهام بـ "لا قصدية " اختيار المفردة وتلقائيتها، مثلما قد لا يدرك النواب نفسه الكيفية لتي اختار وفقها هذه المفردة دون غيرها شاعرا أنه يركّبها وفق أحكام شعوره المنطقية . لقد نظمت قبل النواب قصائد طويلة، على سبيل المثال نظم الشاعر " عبود غفلة النجفي " قصيدة سياسية طويلة في ذكرى ولادة الرسول الأعظم (ص) سنة 1930 استعرض فيها الأحداث السياسية منذ الثورة العراقية الكبرى عام 1920، ودعا فيها إلى ظهور زعيم من العراق يحكمه وكان عدد أبياتها أكثر من (180) بيتا يبدأها بالقول :

(يا ربيع امتاز فصلك بالكرام اعه الفصول

مثل تمييز الكواكب، عل جنادل والرمول .)

لكن ناهيك عن اللغة اليومية اللّاشعرية التي تكتسب ميزة الشعر من خلال " الترتيب " الموسيقي والقافية الموحدة فإن الإطالة كانت مقطعية بل " بيتية " كل بيت فيها يستقل بوجوده ليلحقه البيت التالي .. وهكذا .. لم يكن هناك، وهذا الشيء الأهم، بؤرة صراع مركزية تتفرع منها بؤر صراع ثانوية .. لم تكن هناك شخصية مركزية تكون محورا أساسيا للأحداث وترتبط بها شخصيات أخرى وتشتبك معها في الصراع المركزي والصراعات الثانوية الانعكاسية التي تتفرع من الثيمة الأساسية وتبتعد عنها لتعود إليها في المآل الأخير . في قصيدة مظفر هذه (حچام البريس) - وكذلك قصيدته (حسن الشموس) - لا نجد شرط الطول في القصيدة (أكثر من 100 بيت) حسب، بل تنصهر القصيدة في وحدة شديدة الالتحام بؤرتها فعل البطلين حچام واسعيده رغم أن الشخصية – البطل المسيطرة كفعل وكحضور وكتحكم في الإمساك بخيوط مسارات القصيدة حتى نهايته هي اسعيده . وفي القصيدة نجد البؤر المكانية والحدثية المتفرعة عن البؤرة الرئيسة والتي ترتبط بها وتنفصل عنها في الظاهر لتقويها في الباطن وترتد لتجتمع وتتكثف في البؤرة الابتدائية . ثم هناك حكاية القصيدة و حبكتها كي تكون ذات طابع ملحمي . فالملحمة " حكاية " يقصها السارد الذي قد يكون معلنا أو متخفيا، حكاية تتمظهر أمامنا بلباس الشعر، لكن لها أيضا حبكة . إذا قلنا حسب الناقد الانكليزي " ريتشارد واغن " : " مات الملك ثم ماتت الملكة " فهذه " قصة " أو" حكاية "، لكن إذا قلنا : " مات الملك، ثم لا نعرف لماذا ماتت الملكة بعده بوقت قصير " فهذه قصة ذات حبكة . إنه، هذا التوتر الدفين الاستدراجي الذي يشير إلينا بسبابته المغوية كي نتبعه إلى آخر مسار الوقائع حيث مفاجأة الفخ السردي الذي هو ليس من مسؤولية الشعر أصلا، بل من مسؤولية الحكاية . لكن النواب كتب ملحمتـه ؛ بمعنى أنه ابتكر شكل ملحمته الخاص، شكلا غير مسبوق قبله ولم يعرف بعده حتى اليوم . في الملحمة التقليدية يقف السارد منفصلا ومراقبا مستقلا يصف لنا ما يدور من وقائع الحكاية، هنا موّه الشاعر حركة الضمائر بحيث لم يعد الحكّاء " الملحمي " ضميرا مراقبا ذا موقع علوي مهيمن، بل انسرب بين الضمائر حتى وصلنا إلى حد أننا صرنا نبحث عن موقع " صوته " أو أننا، مع " تمادي " المبدع في فعله الشعري المغيب والساحر تعايشنا مع وجود صوت سارد مركّب ومتناوب الحركات لا نعرف نقطة انطلاقه لكننا نتناغم مع إيقاعه ونتسق مع وقعه المحايث لكل الأصوات الداخلية في القصيدة – الحكاية . هذا ما حصل في مقدمة القصيدة من " أواكح، چني إيد .. " حتى بداية " سالوفتنه عن فلاح ... " حيث التبس علينا موقع الصوت السارد وهويته . ثم تكرر الأمر طوال مسار القصيدة في مواضع عدة لم نستطع من خلالها فك خيوط أصواتها لأنها امتزجت بصورة خلاقة وتناوبت في أدوارها بحيث أنها ابتعدت عن الأداء " الخطي " الذي يكشف هويتها . ولهذا نجد صعوبة في " شخصنة " صاحب الصوت الأساسي في الخطابات الموجهة إلى حچام بين لحظات فعله الجزئية القصيرة ومديات حضور اسعيده الشاسعة حركة وكلاما .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1570 الأثنين 08 /11 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم