قضايا وآراء

الشعر وهموم الغربة عند يحيى السماوي.. حين يشيخ الشاعر في طفولته ! / زيد الحلي

 

في يوم من عام 1975 ألتقيته في نادي الأعلام ببغداد، ايام عزه ... وتعارفنا .. كان شاباً يعمل محرراً في صحيفة الحزب الشيوعي العراقي " طريق الشعب " الى جانب وظيفته كمدرس ... تدفق بحديث جميل ورؤى أقرب الى حديث رجل "كهل" خبر الحياة وهو لم يمض على دخول غمارها سوى سنوات قليلة .. . كان " كهلا" في سياقات الثقافة المعرفية ..

 وكان الفراق، حيث هجر الوطن قسراً ..

وألتقينا من جديد، ورغم ان الشيب تربع على رؤوسنا .. غير ان انني لاحظت عليه سحنة شبابية وروحاً خضراء مزدانة بـ 19 أثراً ادبياً بين مجموعة شعرية وكتب السيرة ومئات المقالات الصحفية والدراسات ... انه " يحيى السماوي " شاعر الحنين والحس الوطني، الذي غاب عند الكثيرين ممن رعاهم الوطن بالجاه والمال فجازوه بالصمت، فيما تجذر عند السماوي بشكل أصبح مثالاً للوفاء..

في الشام، التقينا وفي الشام استعدنا أحلامنا وأعدنا حواراتنا وجدالنا ومناقشاتنا، القديمة الجديدة !!

 وفي الشام ضمنا بيت العراقيين الدافئ " المنتدى الثقافي العراقي " لتشرأب أعناقنا ومئات من العراقيين وعوائلهم، لسماع الصوت العراقي "يحيى السماوي " في قصائد تتغنى في الوطن والحنين اليه ..قصائد معجونة بتراب الوطن ... فالوطن والشعر شريان الحياة عند هذا الشاعر الإنسان ..

 ان الشاعر يحيى يعتمد على اصطياد اللفظة الشاعرة، وهو على رغم من نهجه الشعري، المعتمد على الوضوح حتى تصل فكرته بسرعة للمتلقي، لكني أحسه في بعض قصائده انه يسبح في اللا مستقر حاملا كلمات لها معان في اللفظ مثل عطر يكمن في برعم .. وصور تلك القصائد ليست مجرد جمل موحية لكنها تتفرع لتشكل لوحات ملآى بالخطوط الجميلة والرعشات الأجمل .. ان شاعرية السماوي اقوى من جناحيه .. انه يصوغ حروف قصائده لوطنه تماما كما يصوغها لنفسه بنفسه، وتلك أحلى مزايا هذا الشاعر الذي تمرد الوطن عليه لكنه لم يتمرد على الوطن !!

 ان صخور وطني أجدها وانا استمع للسماوي تخفق لصدى قصائده، لأنها تحمل كبرياء الروح والحنين ... وهو يقول في قصيدة أبكت سامعيها وحملت عنوان " لماذا تأخرت دهراً ؟ "

 

 تقول التي صَيّرتني أنيساً

 وكنتُ العَنيدَ..

 الغَضوبَ ..

 العَصيّا :

 أما ِمنْ إيابٍ

 الى حيثُ كان النخيلُ

 مآذِنكَ الباسقاتِ ..

 وكل الحَمامُ " ِبلالاّ "

 وكان الهَديلُ الأذانَ الشجيّا ؟

 

 وانتَ على السّطحِ :

 طفلٌ

 يُغازِلُ عند المساء النجومَ ..

 ويغفو

 يغطًيهِ ضوء الثُريّا ؟

 لقد عدت لوكان سعفُ النخيلِ

 كما الأمسِ ..

 لو أن لي سطحَ دارٍ ..

 وأن الحمام ُيجيدُ الهديلَ ..

 ولكنه القحط :

 لا الخبزُ في الصحنِ ..

 لا الُتمر في العذقِ ..

 والماء في النهر لما يَعُدْ

 يملأ الكأس ريّا

 

 ابي عاش سبعين عاماً ونيفاً

 على الخبِز والتمرِ

 ما زار يوما طبيباً..

 وأمي، إذا جعتُ، تشوي لي الماء

 او تنسجُ الصوف ثوباً

 فيغدو حريراً بهيًا ّ !

(وتستمر القصيدة الطويلة على هذا المنحى حتى يقول الشاعر)

 

 لماذا هرقتُ شبابي ..

 شريداً..

 غريباً..

 ذليلاً..

 شقّيا؟

 لماذا تأَخرتِ دهراً عليا ؟

 ××××

 ان شعر السماوي احد أوجه الدلالة على التعبيرية الجزلى في الشعر العراقي الحديث، والمستمع الى موسيقى شعره، يجدها موسيقى كتومة، كأنها حشرجة احتضار الوطن .. والوطن عنده الواحد الأحد بعد الله جل جلاله .. وشاعريته محمومة، عاتية تزدحم بالعواطف .. وشعره عميق الشبه بالحلم . بل هو الحلم بعينه وقد تعلم السماوي إن حرية الوطن تكتسب وجودها حينما يكون هناك حواجز.. وهل هناك حواجز اعتي من حواجز الاحتلال وجوّره انه يسأل في شعره : ماذا يفعل من يسقط على الارض ؟ فيجيب : عليه ان ينهض لينفض التراب الذي علق به .. والاحتلال هو التراب .. وهو يقول هنا ..

 

 العراق ــ عَجل الله فرجَهَ ــ متى يخرج من البئر

 فيعود الخبزُ الى المائدة..

 والخضرةُ الى الحقول ..

 والزورقُ الى نهر الضوء الصوفي ..

 والأمنُ الى البيوت ..

 والمشَردون الى الوطن ..

 والغزاة الى بلدانهم داخل توابيت

 او على ظهور الخيبة

 وخلفهم أتباعهم

 كخرافٍ خلف الراعي ؟

 

 العراق ــ عَجل الله فرجَهَ ــ متى يستفيق

 لتقومَ المواطنة العادلة

 فيتساوى الجميع

 مثل بستان نخيل واحد

 لا فرق بين " سين " و " شين "

 وعمامةِ وعقال..

 

 وشوارعنا ــ عجَل الله فرجهَا ــ

 متى تخرجُ من جبَ المارقين

 الآمرين بالقنبلة

 الناهين عن التين والبرتقال ..

 .....

 ...........

 العراقُ " الُمنتظَر "

 متى يقوم

 من تحت رماد الإنتظار ؟

 ××××

 وفي قصائده، نعرف ان تاريخ العراق طويل، يمتد الى " الوراء " امتداد الزمن التاريخي ويصعد معه الى مرافئ الإنسانية بكل نواميسها .. وهو يرى ان الشعر يتأثر بالمجتمع مثلما يؤثر المجتمع فيه .. فهما يتعاملان، فاعلية وتأثيراً..وان هذا الخلط والتداخل سوف ينضح مع الزمن ليشكل نجاحاً إنسانيا ملحوظاً .. وتحت عنوان (الوطن استحى .. فمتى يستحي الرجال؟) يقول الشاعر السماوي :

 وعدونا بالمصانع..

 فأقاموا السجون !

 بالمسرَة ..

 فغرسوا الفتنة !

 بالميلاد ..

 فأقاموا المآتم !

 بالمساواة كأسنان المشط ..

 فجعلونا كأسنان التماسيح ..

 وطني ليس زائدة دودية

 لماذا يريدون استِئصاله ؟

 يا لغضب الموتى الأحياء

 من الأحياء الموتى ..

 ××××

 

 مواجع الوطن

ناقشت اشعار السماوي مواجع الوطن ومواجع أهله من خلال قصائد امتازت بتسليط الضوء الخافت، لكنه المؤثر على كل ما يصادفنا في فكرنا الإنساني من تساؤلات عن الحب والحنين والوطن والحق والعدالة والموت والقدر والخلود والألم..

 غسلوا الوطن بدم أبنائه..

 مدّوا حبلاً من سُرُفات الدبابات

 من قمة " بيره مكرون"

 حتى اخر نخلة في " جيكور"

 نشروا عليه العراق ..

 وفي قصيدة اخرى يقول السماوي :

 لا طاعة لحاكمٍ محكوم ..

 لماذا يمشي الطاووسُ متبختراً ؟

 ألا يعرف أنه ودجاج حديقة الحيوانات

 يسكنون قفصاً واحداً ؟

 أحكومة تصريف أعمال ؟

 أم

 مواسير صرف صحي

 تٍلك التي ارتهنت غَدنا

 لدى صيارفة واشنطن ؟

 ××××

الأم عند السماوي ..

معروف ان لدى الأدباء والشعراء العديد من الألفاظ، لها قوة تعبيرية تتميز عن غيرها كلفظة " الام " لكن عند السماوي لها تفرد تعبيري عجيب في رمزها وفي موضوعها، ولها غنى وافراً في مسك الذات، مسكاً يصعب الفكاك منه .. وهنا يقول الشاعر عن امه التي افتقدها وهو في الغربة :

 أخر

 أمانيها :

 أنْ أكونَ..

 من يُغمضُ أجفانَ قبرها..

 أخرُ أمنياتي..

 أن تُغمض بيَديَها أجفاني..

 كلانا فشلَ ..

 في تحقيق ..

 أمنية ...

 متواضعة .

 ××××

 قبل فراقها :

 كنت حياً..

 محكوماّ بالموت..

 بعد فراقها:

 صرت ميتاً..

 محكوماً بالحياة !

 ××××

 ألأحياء ينامون فوق الأرض ...

 الموتى ينامون تحتها..

 الفرق بينهم :

 مكان السرير ..

 ونوع الوسائد..

 والأغطية !

 ××××

 الشعر احتفال بالحياة

ومع ان المسلمة تقول ان الشعر يبدأ من الشاعر، فأنني أقول ايضاً ان السماوي، جعل من ذاته جسراً شعرياً ليجعله مظهراً من مظاهر احتفالنا بالحياة وحب الوطن وقد لاحظت في قصائده أنها تضع النقاط فوق جراح الحنين الى الوطن ..

 ولست بمجامل ان قلت ان يحيى السماوي يمتلك عصى سحرية في

بناء قصائده، وان قصائده هي اقرب الى لوحات فنان عالي الإحساس او عاشق حد الوله لوطن عاش فيه ثلث عمره ولا زالت عيونه ترنو اليه بحالة من القدسية، و هو عنده أشبه بإيقونة فريدة في عالم الخيال هي الكون بكل ما يعنيه من جبروت وقوة وخلق وتكوين ..

وهذا الشاعر ينقل بقصائده عن الوطن، ما يشعر البعيدين عنه بأنهم يعيشون فيه فعلياً ويشربون من ماء دجلته وفراته ويستروحون هواءه ...

والذي يقرأ للسماوي ويدرس إشعاره، يجد انه يحدد موازين إبداعاته بدقة متناهية في الحس وبعاطفة ملتهبة وكل ذلك يدمجه بالطبيعة بكل ما تحمله من قلق وحيرة وحزن وبكاء وشهقات مفاجئة عند ذكر الوطن وتلك إحدى سمات السماوي في إشعار الحنين، إضافة الى انه يمتلك لغة مطواع منحته ما يشاء من اللفظ الأنيق حيث يريد دون تعب، ويمتلك معنى ناعما يشابه نعومة الحلم الريان وقد استفاد من هذه اللغة في كتاباته الأدبية وفي شعر الغزل والحنين الى الوطن والوجدانيات ...

وأنا على يقين ان خيول السماوي مازالت وستبقى قادرة على نهب صحراء الطن والترحال والمنافي والغربة والشوق والحنين وعد أشجار النخيل التي تساقطت وتكاد ان تضمحل ووطني كان واحة نخيل وأمان..

[email protected]

 

 ............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1574 الجمعة 12 /11 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم