قضايا وآراء

التصوف في الفن / حكمت مهدي جبار

ويعتقد (الصوفيون) انهم هم الذين يسعون للعمل بأشياء خاصة يسدون بها نقص العالم والى بلوغ عالم الكمال. عالم الحقيقة المنزه عن كل نقص. أما الفنان فهو أيضا كالصوفي يسعى لأنهاء نقص العالم من خلال منجزه الأبداعي .

وعلى هذا الأساس فأن الصوفي والفنان تنبثق بينهما صلة ناتجة من تصور كل منهما لعالم أكثر كمالا من عالم الواقع المادي الذي تعيشه الناس.. ولكن لماذا ينبعث هذا التصور من الفنان والمتصوف دون غيرهما في رؤيتهما للعالم؟ الجواب:- أن اولئك يمتلكون أحساسا وشعورا قويان بالواقع اكثر من غيرهما. حيث أن قساوة الواقع وظلم الدنيا وثقل الماديات وتأثيرها على الروح يكون فظيعا لديهما.

 ويران من خلال كل ذلك ما لايراه الآخرون من خلال شدة وطأة الواقع على النفس. فالفنان عندما يتماس مع الواقع  ومن خلال تفاعله معه يتعذب بسبب صبوة روحه وشفافيتها من حيث كون روحه لاتريد صورة هذا الواقع البشع انما تريد واقع جميل يفيض به الحسن والمثالية التي لا يمكن تحقيقها الا بالوسائل والطرق التي تمثل تعويضا له في تحقيق ذاته وذلك امر شاق.. ومن هنا يحدث تخلخل في نفس الفنان، بسبب اختلال أتزان ( الأنا ).

 فالرسام والموسيقي والشاعر والقاص والصوفي لدى كل واحد منهم  سعيا كبيرا لتغيير وجه العالم. بل يعتبر ذلك أمر لامناص منه. وكلما اشتدت (الأنا) أختلالا أصبحت الصور التي لديه عن الواقع العملي أكثر تحررا منها عند الآخرين. وحيث تغدو أكثر قابلية للتغيير وأكتساب دلالات جديدة.. أن كل ما يمر بذهن الشاعر والرسام والفنان في لحظة التجلي والكشف عن الحقيقة يكون ذا دلالة جديدة يكتسبها من حالة التأمل التي هو فيها (2)

أن (الألهام) عند الفنانين يقابله (التجلي) او (الكشف) عند الصوفية وطبعا كل تلك الحالات تختلف الواحدة عن الأخرى في قوتها وشدة تأثيرها بين فنان وآخر وصوفي وآخر حسب شدة تكيز الملكات التصورية للذهن (3). ومعنى ذلك ان الفنان والصوفي يكونان في حالة واحدة تسمة ( الأستغراق) أو لنقل الحلم (حلم يقظة) عادة.وعند الصوفي تكون المسألة أشد وأقوى منه لدى الفنان، عندما يصل ذروة الأستغراق. فأنه يبلغ الى حال يسمى (الفناء) التام. أي أن الصوفي حسب هذا المفهوم يمتزج بعالم الحقيقة ويقترب من (المطلق) حيث النقاء والنور. وهي غاية الصوفي ومنتهى طلبه. أما الفنان ــ الرسام أو الشاعر أوالموسيقي كلما أستطاع ان يتعمق في أبداعه الفني وكلما أوغل في امتزاجه وصولا لجوهر العالم والحقيقة من خلال منجزه الأبداعي سواء كانت لوحة أو قصيدة أو قطعة موسيقية كلما اقترب من (السموالصوفي اللامتناهي).

ان الفنان والمتصوف كلاهما يعتمدان على (الصراع) كواحد من وحدات العمل الفني في بداية الأمر. بيد ان هذا الصراع على ما فيه من تفاوت يلازم الفنان في أغلب تجاربه الأبداعية ولا يتخلص منه الا في حالات عالية من الصفاء والتركيز والأستغراق وهو بذلك يقترب من (الرؤيا الصوفية) في أعماله الفنية. حين أن الصوفي لايهمه أن يكون له منجز يشعر به كمعادل. انما يتخلص من ذلك الصراع أما بالفناء بالعالم والأمتزاج بالروح الألهية أو يحرم من مراده حسب مفاهيم الصوفية..

أن الفرق بين (الرؤية الفنية) و(الرؤيا الصوفية) هو في درجة تسامي كل منهما. فبينما يفترض في التجربة الصوفية بلوغ حال (الفناء) في العالم والذوبان فيه لايفترض في التجربة الفنية بلوغ هذا المجال الا عند بعض  الشعراء (وهم طبعا من ملة الفن)الذين لديهم (رؤى صوفية). ولدينا في ذلك تجارب تأريخية ظهرت على أيدي شعراء عرب معروفين أشهرهم  الحلاج ورابعة العدوية والشبلي وغيرهم كثير..

 أما من الفنانين من الرسامين تحديدا فأقرب مثال هم الرسامون التجريديون. وظهر منهم بشكل واضح  في العراق شاكر حسن آل سعيد وآخرين.. ومن هنا يعتبر الأسلوب التجريدي في الفن هو احد التأثيرات الصوفية في رؤية الفنان. حيث ان الأشياء تفقد خصائصها في الفن التجريدي أي أستخلاص جوهر الأشياء من خلال تجريدات شكلية ولونية وخطية على سطح اللوحة.. وهكذا مع الصوفي الذي تفقد الاشياء خصائصها عنده عندما يمر بحالة (اللاوعي) وتكتسب مدلولات جديدة بحيث يبدو العالم شيئا جديدا له يتعدى حدود الصورة والشكل وهذا ما نراه لدى الرسام التجريدي.

لذلك فقد وصف البعض ان الرسم التجريدي هو أستسلام للاشيء فهو عالم من الرموز الغامضة الأمر الذي يجعل من تجربة الفنان تجربة ذاتية صرفة لايفقه موضوعها الا الفنان نفسه. وكذلك مع التجربة الصوفية بالشعر التي امتلأت بالغموض والطلاسم والألغاز حيث يبدو العالم لدى الشاعر الصوفي رموز لغوية يصعب فهمها حيث يغرق الصوفي بأشياء غير واقعية فيغرق بمعرفة بلا حدود نتيجة اتساع رؤيته وتصوره وخياله اللامحدود الى الحد الذي قد يصل فيه الى عقد لسانه وعجز لغته عن التعبير عما يعتمل فيه من احاسيس ورؤى.وبذلك عبر (النفري) عن هذه الحال بقولته الشهيرة النافذة (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة)..

هل التجربة الصوفية هي شعور بالأستسلام للغياب والأبتعاد عن الواقع وعجز عن مواجهة الحياة بما هي عليه..أم ان الفنان غير الصوفي حيث أن حالة (الغياب) لدى الفنان مؤقتة وهي ايجابية في انتاج الأبداع؟؟

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

 – السلمي ـــ طبقات الصوفية ـــ القاهرة 1953  ــ ص 278

2 ـــ الأسس النفسية للأبداع الفني  ــ مصطفى سويف ــ مصر ــ 1959

3 ـــ مجلة الثقافة الجديدة – بغداد – 1970 – العدد 10 -  ص 86.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1575 السبت 13 /11 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم