قضايا وآراء

التراث الثقافي موطنا والنجف عاصمة (3) نجم البقال / جليل الخز رجي

 في مدينة النجف وسائر البلاد لمقارعة الانكليز . وللتعرف لامتهانه مهنة البقالة، ولد في مدينة الرمادي (1) نزح مع والده إلى مدينة الحلة على اثر خلاف مع أقربائه، بقي في مدينة الحلة مدة قصيرة، ثم غادرها مع والده إلى مدينة النجف واستقربها وسكنوا في محلة المشراق وهي محلات النجف البارزة، كان ذلك عام 1859م، عند بلوغه سن الرشد سحب لأداء الخدمة العسكرية في القوات التركية . بعد دخوله إلى صفوف هذه القوات اشترك في إحدى المعارك التي جرت بين الجيش التركي والجيش الروسي في منطقة أسيا الوسطى .

بعد عودته إلى مدينة النجف فتح محلا لبيع التمور في منطقة الميدان، انتمى إلى ( جمعية النهضة الإسلامية ) التي تأسست في مدينة النجف سنة 1918م (3) والتي ضمت العديد من الشخصيات البارزة في مدينة النجف إضافة إلى العديد من رجال الدين، كما انتمى إلى هذه الجمعية العديد من الشباب ألنجفي المتحمس لطرد قوات الاحتلال ( والذي نفتقده اليوم في شبابنا للأسف الشديد ) من العراق، كما إن بعض رؤساء القبائل انضموا إلى الجمعية أيضا منهم الشيخ مرزوك العواد رئيس عشيرة العوابد، والشيخ سلمان الفاضل رئيس عشيرة الحواتم، والشيخ وادي رئيس عشيرة آل علي وغيرهم من القبائل (4)

كان من أهم أهداف هذه الجمعية هو طرد القوات الانكليزية والمطالبة بالاستقلال العراق . بعد تأسيس هذه الجمعية بعدة شهور اجتمع نجم البقال والذي كان من أنشط الأعضاء مع عدد من الأعضاء الآخرين واقترح عليهم القيام بعملية جريئة وهي قتل الحاكم الانكليزي لمدينة النجف، بعد نقاش طويل اتفق البقال مع هؤلاء الأعضاء على تنفيذ هذه العملية وحددوا فجر 19/ آذار/ 1918 موعد لتنفيذها .

وقبل الموعد المقرر اجتمع نجم البقال مع الذين اتفقوا معه لتهيئة أنفسهم للقيام بهذا العمل البطولي.

استعد المهاجمون للبدء بتنفيذ العملية، وعند شروق الشمس تقدم نجم البقال نحو باب الخان الذي يقيم فيه الحاكم البريطاني وبيده ظرف معنون باللغة الانكليزية إلى الحاكم السياسي البريطاني (5) .. بعد طرق الباب من قبل البقال (6) كان جماعته متهيئين لفتح النار على حراس الخان، ما إن فتحت الباب أطلق النار مجيد دعيبل وهو احد منفذي العملية، على اثر إطلاق النار على الحارس، سقط الحارس على الأرض وهو مضرج بدمائه، بعدها دخل نجم البقال وجماعته إلى داخل الخان فتم توزيع علم الحراس الآخرون بان شيئا قد حدث، فقاموا بإطلاق النار على المهاجمين إلى الغرفة التي يقيم الحاكم وطبيبه فيها وأطلقوا النار عليهم، وهكذا نفذ نجم البقال ورفاقه العملية الجريئة هذه .

في يوم الثاني للعملية قام نجم البقال بفتح دكانه كعادته (7) وكأنه لم يقم بهذا العمل الجريء الذي أذهل الانكليز، وحين وصل خبر مقتل الحاكم السياسي إلى بلفور توجه بلفور على وجه السرعة إلى مدينة النجف ومعه قوة كبيرة من الجنود . وبعد وصوله إلى النجف ذهب إلى مكان الحادث وشاهد جثة الحاكم الانكليزي على الأرض وهي ملطخة بالدماء جن جنونه واخذ يتكلم بانفعال قال ما نصه (( إن كل قطرة من هذا الدم الغالي تساوي أربعمائة نجفي )) (8)، ثم قام بلفور بتوزيع الجنود داخل النجف وخارجها ثم استدعى رؤساء البلدة لبحث القضية معهم، وبعد اجتماعهم مع بلفور أكدوا له ا ناهل النجف لا علاقة لهم بالحادث .

في أثناء تجوال بلفور في مدينة النجف سمع إطلاق نار من احد المناطق فالتفت إلى الرؤساء الذين كانوا يرافقونه خلال تجواله وكان من ضمنهم سعد الحاج راضي وهو احد وجهاء المدينة واتهمه بان أولاده هم الذين قاموا بإطلاق الرصاص إلا إن سعد الحاج راضي نفى هذه التهمة ورد بخشونة على كلام بلفور لأنه كان قد أساء الكلام مع الشيخ سعد، ولما سمع أولاده كلام بلفور لأبيهم جاؤا يريدون قتل بلفور (9) فقاموا بإطلاق النار عليه إلا إنهم لم يتمكنوا من إصابته، بعد هذه التطورات اخذ الأهالي يقومون بإلقاء القبض على أفراد الشرطة، وعلى اثر هذه الأعمال قامت قوات الاحتلال بطلب المزيد من القوات البريطانية لغرض السيطرة على المدينة . لما رأى أهل المدينة هذه التطورات وحدوا صفوفهم وتركوا الخلافات التي كانت مستمرة فيما بينهم فتعاطفوا ونبذوا الخلاف (10)، وعلى هذه الأحداث قرر الانكليز محاصرة المدينة فحشدوا قوات كبيرة لهذا الغرض حصارا شديدا على المدينة ومنع دخول المواد الغذائية إليها الأمر الذي جعل المجاعة تعم المدينة . لقد عانى أهل النجف من هذا الحصار كثيرا حيث استمر الحصار أكثر من أربعين يوما اضطر أهالي النجف إلى شرب مياه الآبار (11)، فالنجف تمتلك قنوات عديدة تؤدي بعضها إلى خارج النجف من جهة البحر، وكانت تستخدم من قبل العشائر عندما تتعرض المدينة إلى هجمات خارجية من قبل الوهابية وما شابه ذلك حيث ينقل الغذاء وكذلك الأسلحة فهي تشبه الأواني المستطرقة . وبسبب هذه الظروف من حصار شديد ومعاملة قاسية من قبل جنود الاحتلال ارتفعت أسعار المواد الغذائية ارتفاعا فاحشا، وتدهورت حالة الناس إلى أتعس حال، يذكر السيد محمد علي كمال الدين الذي شاهد هذه الحالة المحزنة التي مر بها أهل المدينة بكافة طبقاتها وشملت حتى الحيوانات، فيذكر عن حالة القطط وهي تتضور جوعا فيقول (( لم أنسى منظرها بين المارة وكأنها تستجديهم مما أصابها من الألم والجوع ))(12)

أقول إي وحشية انتهجها المستعمر الانكليزي ليحشد كل هذه الجيوش البربرية بكامل أسلحتها من مدفعية وطيران وغيرها من الأسلحة الثقيلة تجاه مدينة صغيرة تفتقر ابسط مقومات العيش والعمران إضافة إلى احتضانها مراقد الأنبياء والأوصياء ؟؟

إن الحصار لمدينة النجف جعل أهل المدينة يوحدون صفوفهم ونبذوا كل خلافاتهم وأصبح مصيرهم واحد وهدفهم هو كسر الحصار وتحري المدينة من قبضة الانكليز الوحشية، فاخذوا يشنون غارات على مواقع الانكليز ويزرعون الرعب في قلوبهم وهم لا يمتلكون من السلاح إلا أدوات بدائية، إلا إن الانكليز شددوا حصارهم واخذوا يقصفون البلدة بمدفعيتهم الأمر الذي جعل رجال الدين ووجهاء المدينة يطلبون من قائد قوات الانكليز بالكف عن قصف المدينة التي لا تضم غير العوائل من قائد قوات الانكليز بالكف عن قصف المدينة التي لا تضم غير العوائل ورفع الحصار عنها، إلا إن قائد هذه القوات رفض الطلب ولم يعير أي شيء لنداء رجال الدين ورؤساء البلدة واصدر منشورا إلى أهل النجف يتضمن :-

1-   إن إطلاق النار المستمر من الأشقياء على العساكر البريطانية لا يمكن أن يحتمل أكثر .

2-   بالنظر إلى هذا ستتخذ الإجراءات التي أجدها ضرورية، غير إن هذه الإجراءات ستسري في بادئ الأمر على بعض المحلات الخارجة عن البلدة فعلى الأهالي إن يبتعدوا عن الأسوار وعن نواحي البلدة كي يسلموا من الضرر وانصحهم إن يختبئوا داخل السراديب حينما المدافع (الطواب) تطلق نيرانها .

3-   وليتأكد حضرات العلماء الأعلام والأهالي الخاضعين انه لا يجعل أي ضرر للمحلات المقدسة داخل البلدة . ( قائد جيوش النجف والكوفة ) (13) يبدو من هذا المنشور لقائد الجيوش البريطانية والذي يحمل بين طياته أو سطوره التهديد والوعيد ليغطي انكسار معنويات الجيش الانكليزي وخوفهم من المدافعين عن النجف وهم قلة بسطاء كسبة يحملون عقيدة كبيرة، إذن القائد الانكليزي يحارب عقيدة حملها هؤلاء كسبة يحملون من الرجال، في الوقت الذي يبدي حرصه على الأماكن المقدسة للمدينة ليتناقض نفسه عندما رفض طلب رجال الدين ووجهاء المدينة مبينا أهمية السراديب ويقدم النصيحة لأهل النجف للاختفاء بها .

بعد كل هذه التطورات قرر الانكليز شن هجوم كبير على المواقع المهمة في المدينة وتمكنت من السيطرة على معظم المواقع التي كانت في حوزة الثوار .

بعد هذا النجوم الناجح الذي تمكنت فيه القوات الانكليزية من السيطرة على أهم معاقل الثوار، أيقن هؤلاء الثوار انم قاومتهم للقوات البريطانية لم تحقق لهم النصر الحاسم فيبدأ ولينسحبون إلى بيوتهم خشية أن تلقي القبض عليهم القوات المعتدية، بعد هذه الأحداث اقترح نجم البقال على رفاقه القليلين الذين بقوا معه بعد إن تفرق العديد من الذين اتفقوا معه من قبل أن يجمعوا كميات كبيرة من التمر الموجود في خانات النجف ويخزنونه في الصحن الحيدري ثم يقوموا بإغلاق أبواب الصحن ويتحصنوا فيه ويظلون يقاتلون حتى يفرج الله عليهم، إلا إن رفاقه رفضوا هذا الطلب مخافة أن يقوم الانكليز بقصف الحرم المقدس . إلا إن الانكليز لم يقصفوا الصحن الحيدري، لكن صدام ونظامه قصف القباب والمنائر الذهبية لمعظم الروضات المقدسة .

لما رأى الانكليز تفرق الثوار خصصوا جوائز لكل من يلقي القبض على الثوار كما قرروا بقتل كل من يأوي أحدا منهم، بدا العملاء وأصحاب النفوس الضعيفة البحث عن الثوار لكي يلقي القبض عليهم حتى ينالوا الجائزة ويدفعوا عنهم الشبهة لان قسم من العملاء كان قد تعاون مع الثوار في بادئ الأمر . (14)

بعد جهد كبير تم إلقاء القبض على الحاج نجم البقال قائد هذه الثورة في 12 / نيسان م 1918م، يذكر المرحوم الشيخ محمد رضا الشبيبي عن كيفية إلقاء القبض على الحاج نجم البقال ( إنهم عثروا أولا على ابن أخت الحاج نجم وهو من الذين اشتركوا معه في مقتل المارشال، ونتيجة الضغوط والوعود التي قطعوها له أرشدهم إلى مخبأ خاله بعد وعوده بالإفراج عنه، غير إنهم لم يجدوا المخبأ إلا بصعوبة، وحين أرادوا القبض على الحاج نجم حاول مقاومتهم ولكنهم تغلبوا عليه وضربوه حتى أدموه ) (15)؟

بعد اعتقالهم الحاج البقال اعتقل العديد من أتباعه، وبعد إن تم اعتقال جميع الذين اشتركوا بهذه الأحداث شكلت محكمة عسكرية في الكوفة لمحاكمة الحاج نجم ورفاقه فتألفت هذه المحكمة من ثلاثة ضباط بريطانيين وقد رأس هذه المحكمة الكولونيل ( لجمن ) الذي قتل فيما بعد على يد الشيخ ضاري الزوبعي . بعد عدة جلسات عقدتها المحكمة، قررت هذه المحكمة إصدار حكم جائر على الحاج نجم البقال ورفاقه الثوار حيث حكمت بإعدام كل من :-

1-   الحاج نجم البقال

2-   عباس ألرماحي

3-   كاظم صبي

4-   علوان ألرماحي

5-   محسن أبو غنيم

6-   جودي ناجي

7-   مجيد دعيبل

8-   كريم الحاج راضي

9-   احمد الحاج راضي

10- محسن الحاج راضي

11- سعيد ( خادم عائلة الشيخ راضي ) (16)

كما أصدرت المحكمة أحكاما بالسجن لتسعة عشر شخصا، كما قررت نفي مائة وثلاثة عشر رجلا إلى الهند .

وفي 29/ مايس / 1918 احضر الانكليز عددا كبيرا من وجهاء المدينة وعددا من شيوخ عشائر الشامية لحضور عملية الإعدام كما جلبوا باخرة مخصصة إلى الكوفة للتهيؤ لتنفيذ الأحكام – إن إحضار الانكليز لوجهاء ورؤساء عشائر الشامية كان كرها، وجلب الباخرة المصفحة هي لإدخال الرعب على الذين تم إحضارهم حتى لا يقوموا بانتفاضة أو ثورة أخرى ضد الانكليز .

وفي فجر يوم الثلاثاء الموافق 30/ مايس /1918م حضر المحكومون وفي مقدمتهم الحاج نجم البقال ثم تبعه البقية (17)، تقدم الحاج البقال إلى المشنقة وهو يردد :

( إنها موته واحدة يا كفرة ) وصعد إلى المشنقة وهو يشتم ملكة بريطانيا .

بهذا استشهد الثائر الخالد ( نجم عبود البقال ) وهو يدافع عن وطنه وشعبه وقد جاوز عمره السبعين عاما ودخل سجل الخالدين المدافعين عن اوطانهم الرافضين للاحتلال البغيض، يبقى على المسئولين إن يشيدوا مقبرة مميزة تليق بمآ ثرهم البطولية خصوصا والنجف ستكون عاصمة يزورها الكثير من الوفود ليعرفوا على هؤلاء الإعلام، ليتنا نقتدي بهم في هذه المرحلة الحرجة من الاحتلال الجديد .

           *******************************************************

المصادر :

1-   كريم وحيد صالح\ نجم البقال ص2.

2-   علي الوردي لمحات اجتماعية ج5 ص 216 .

3-   عبد الرزاق الحسني لثورة العراقية الكبرى ص78 .

4-   عبد الرزاق الحسني الثورة العراقة الكبرى ص 79 .

5-   حسن الاسدي ثورة النجف ص 247 .

6-   عبد الرزاق الحسني ثورة النجف ص3 .

7-   علي الوردي لمحات اجتماعية ج5 ص 221.

8-   علي الشرقي الأحلام ص 106 .

9-   علي الوردي لمحات اجتماعية ص 221 .

10- محمد رضا الشبيبي مجلة الثقافة الجديدة ثورة النجف عدد تموز 1969م ص 287-288 .

11- علي الوردي لمحات اجتماعية ج5 ص 228 .

12- محمد علي كمال معلومات ومشاهدات ص 41 .

13- الدكتور علي الوردي لمحات اجتماعية ج 5 ص 239 .

14- حميد عيسى جيبان حقائق ناصعة ص 47-48 .

15- محمد رضا الشبيبي مجلة الثقافة الجديدة ص 235 – 239 .

16- عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى ص 79 .

17- عبد الرزاق الحسني ثورة النجف ص 115.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1577 الاثنين 15 /11 /2010)

 

في المثقف اليوم