قضايا وآراء

الذات في مجتمع متعدد الثقافات

المكان الذي ولدت فيه، أي بكلام آخر الوطن المنتمية له.

إن ضعف الذات الإنسانية في مجتمع لا تنتمي له ضعف طبيعي، كما أنها لا يمكنها مغالبته لكنها لن تعدم الوسيلة لترويض هذا الضعف الذي يعطل إمكاناتها وكبح جماحها، وستكون هذه الذات في درجات طموحها الدنيا وهي تتوسل الحصول أوالنضال للحصول على الطعام والسكن والدواء، وهذه الحاجات الإنسانية الطبيعية قد لا تكون طموحات بحد ذاتها بقدر ما هي ضرورات قارة لاستمرارية الحياة نفسها.

الذات الإنسانية في وطنها الأم قوية راسخة وستكون أو هي كانت رقما ضمن أرقام المجتمع المنتمية له، إلا أنها في مجتمع آ خر متعدد الثقافات أو حتى غير متعدد لن تكون أكثر من صفر، أو بلغة أهل الكيمياء عاملا مساعدا (يساعد على التفاعل ولكنه لن يشترك فيه)، ومن هنا سيكون سر غربتها ووحشتها ولذلك نجدها تتشبث بالناس الذين يشابهونها سواء من مواطني بلدها الأم أومن مواطني الدول التي تشاكلها لغة أو دينا أو معتقدا لتكون رقما ضمن هذه المجموعات على الأقل وكأنها تحاول أن تبدي دفاعات نفسية محددة لاجتلاب قوة كانت قد فقدتها في لحظة مغادرتها لوطنها الأم.

سيكون من العسير حقا فهم ردود الفعل التي تبديه هذه الذات في رحلتها لتأكيد هويتها ووجودها في مجتمع غريب عنها وخصوصا عندما يكون ظهرها مكشوفا ولا من جدار تتكئ عليه، إذ ستواجه نمطا من الحياة لم تألفه من قبل،  فهنالك المنافسة الشريفة واللاشريفة كي تحصل على فرصة عمل يتقدم إليها العشرات من الناس ومن مختلف المشارب والجنسيات، كما أن الوظيفة التي تحصل عليها، وهي فرحة بها لأول وهلة ستصيبها بالخيبة لاحقا لأن الراتب الذي تتقاضاه  سيكون متباينا تباينا مؤلما عن الراتب الذي يتقاضاه موظف آخر يؤدي نفس العمل ولربما بكفاءة أقل من كفاءتها لأنها تنتمي لجنسية أخرى.

الذات أيضا في هكذا مجتمع متعدد الأعراق ستكون رهينة لالتزامات خارجية وداخلية معقولة ولا معقولة وقد تكون شرعية أو لا شرعية لأنها مرتبطة بالمكان الذي تعمل فيه أولا ومن ثم المؤسسة الذي تنتمي إليها وتستلم راتبها منها وهي هنا قد لا تنتمي للبلد الذي يستضيفها بل لبلد آخر أو لشركة متعددة الجنسيات وهو الغالب.

لو تجاوزنا قضية العمل وانتقلنا إلى قضية الاستهلاك وهو ميدان آخر ومهم تجد الذات الإنسانية وقد صارت فريسة له، والاستهلاك بوصفه نشاطا اقتصاديا واجتماعيا مرتبط بالثقافة السائدة  وثقافة البلد الأم على مستوى الطعام والملبس والحاجيات الأخرى، وليس مستغربا عندما يزور الشخص (أي شخص) مراكز التسوق تجده يبحث عن الطعام والسلع التي تشاكل ما كان يقتنيه في بلده الأم بل لا نغالي إذا قلنا إن معظم الناس يجلب الكثيرمن الأطعمة من بلاده عندما يذهب في إجازته السنوية‘ حتى الدواء قد نجد أناسا لا يشفون إلا عندما يأتي الدواء من وطنهم الأم، ولكن مع ذلك فإن الاستهلاك يحيل لقوة الطبقة أو (الشركة في المجتمع العالمي)الذي تنتمي إليه الذات الإنسانية وقد يكون مصدرا للهوية الفردية والجماعية ويمكن أن نقول بنيويا أن السلع المادية هي منتجة للمداليل والمعاني أو بلغة سوسير أنها علامات تجمع ما بين الشخص والمجموعة على مستوى الهوية، فالعلماء الماديون مثلا يربطون بين الهوية والتنظيم الاجتماعي للإنتاج بوضوح وقوة في المجتمعات الصناعية لذا فليس مستغربا أن تجد عمالا وفلاحين وأصحاب رؤوس أموال (رأسماليين)في هكذا مجتمعات، وفي المجتمعات القديمة  كانت تقدم الهبات بوصفها أداة للتواصل وعلامة يتوسلها أفراد ذلك المجتمع لتحسين وضعهم الاجتماعي ولاحتياز سلطة اجتماعية أرفع لذا نجد تبادلا للهدايا والأساور والخيول وحتى النساء للغرض ذاته.

ولكن هنالك قضية أخرى هي قضية الكفاءة التي تتوسلها الذات الإنسانية بوصفها أيضا إحدى الدفاعات النفسية التي تتوسلها لاحتياز هويتها وتميزها عن ذوات الآخرين، فكونها كفوءة ومحترفة وذات تعليم عال يعني أنها ستحصل على ذلك المكان اللائق والوظيفة العليا وهذا يقود إلى مردود اقتصادي واجتماعي تحاول فيه الذات أن تعوض عما كانت قد خسرته سابقا فضلا عما ستجنيه من تواصل مع الذوات الأخرى وما سوف يلي ذلك من تحسين لرقمها في سلم الجماعة المنخرطة تحت خيمتها، ويجب أن نقر أيضا أن الكفاءة قد لا تكون فردية بحد ذاتها ولكنها مستعارة من حالة أكبر متصلة بنشاط الشعوب والبلدان فمثلا هنالك بلدان ذات كفاءة عالية في صنع السيارات أو في صناعة السجاد وحتى في التواصل الروحي والمقدس فالناس مثلا سوف لن يذهبوا سوى إلى مكة في مواسم الحج.

 

القضية الأخيرة التي سنناقشها هنا هي قضية اللغة، والذات الإنسانية ستجد أن لا محالة من تعلم لغة البلد المضيف لأن ذلك سيلغي أو على الأقل سيقلل تأثير فارق مهم بينها وبين السكان الأصليين أو تعلم لغة بديلة يمكنه التفاهم والتواصل مع الآخرين من خلالها، وهنا لابد من مواجهة خطر جسيم فالتخلي عن اللغة الأم يعني ضياع تراث وثقافة بشكل موجع، وكذلك استخدام لغة أخرى في مجتمع ينشد العالمية على أرضه سيكون ثمنه فادحا من حيث أن اللغة المحلية قد تعيق التقدم والانفتاح العالمي، وبالرغم من أن وجود لغة بديلة يسهل الانفتاح للبلد المعني وكذلك يكون مجديا للذات في مثل هكذا مجتمع  وهنا سنجد ذاتا ثنائية اللسان وهو شيء ليس بسيئ، وكذلك فهو ليس بجديد ، وهذا الواقع تتقبله الذات الإنسانية على مضض أو بمحبة سواء جازفت بفقدان لغتها الأم او لم تجازف فإن البقاء هو ديدن الإنسانية وقد يفسر لنا هذا سر الحراك التاريخي للشعوب والحضارات على مدى التاريخ.

ما أريد أن أقوله هنا هو أن مجرد اختيار الذات الإنسانية المغادرة من وطنها الأم يعني أن عليها أن تستعد نفسيا لكثير من الخسارات، وألا يغيب عنها حقيقة مرعبة هي كونها قد تخلت نهائيا عن أي طموح اجتماعي أو شخصي أو حتى وظيفي، وسيكون ولاءها فقط للمؤسسة التي تعمل عندها وهي ذات المؤسسة التي تستلم منها الراتب الشهري وهذا من أفجع ما يقابله الإنسان في الغربة فهو الطريق لتفتت هويته ومن ثم اندثارها.

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1087  الثلاثاء 23/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم