قضايا وآراء

عند كل تقاطع شيخ زحام انكسار .. مرتضى الحمامي شاعر الورد والفجيعة

 دقائق معدودة، الجانبان الأساسيان هما خدعة الوزن والقافية وخدعة اللغة السليمة وما يتبعها من اتقان للنحو والصرف والعاطفة.. وبهذا أصبح الشعر العمودي سهل المركب حتى قيل من حفظ الف بيت من الشعر قاله.. لما في العملية من استسهال جعلت من هبَّ ودبَّ يكتب القصيدة بمجرد ان أتقن بحرا او بحرين من بحور الشعر العربي، وبمجرد ان سيطر على اللغة والنحو والصرف وهضم قانون القوافي وهذا مانجده في شعر مئة سنة الأخيرة.

 وهكذا بدأ الملل يدبّ في اذهان المتلقين والمثقفين من القصيدة العمودية الخالية من الابداع والتجديد والخلق لانها ارتكزت على جانبين بالامكان دراستهما وتعلمهما لاسيما من دروس علوم اللغة العربية في الاعدادية او الجامعة.. وفي مقابل ذلك صمدتْ القصيدة العمودية التي ركّزت على خلق الصور الشعرية والمعاني الجميلة المؤثرة التي تعتمد على شاعرية الشاعر وقدرته الابداعية في الابتكار بحيث لو استغنت عن الوزن والقافية لما فقدت القصيدة الشعرية بريقها وجمالها وصدمتها.. وهذا ما اطلق عليه خدعة القصيدة العمودية وانا اسوق هذه المقدمة لأتحدث عن بهجة الشعر في قصائد الشاعر الشاب مرتضى الحمامي الذي تجاوز خدعة القصيدة العمودية بذكائه وشاعريته الفذة.

 في ديوانه الاول (آمنت بالورد) يقول الشاعر مرتضى الحمامي في قصيدة (على درب من لا يمرون)..

 

لماذا اذنْ عند كلّ محطة قلب تركت بقايا قطار

لماذا اذنْ عند كلّ تقاطع شيخ تركت زحام انكسار

لماذا تركت بكل تجاعيد آبائنا قصة من حصار

لماذا تركت بباب المدينة طفلاً عراقاً وشيخاً دمار

 

فبالرغم من جمال المتقارب هنا وما يمنحه من راحة للمتلقي وما يتصف به من موسيقى هادئة وبالرغم من اشعاعات حرف الروي (الراء) وما يوحي في النفس من انتهاء معلقٍ بين نهاية اللسان وسقف الحلق، الا ان الشاعر هناك لم يعتمد في البيت الواحد على ما اعتاد عليه الشعراء التقليديون من استخدام للتقابل والتضاد والتخالف والنقيض ولا التقارب الدلالي واستخدام النظير المترادف والمتقاربات الفعلية وغيرها في البيت الشعري الواحد بل اكتفى بطريقة تأملية ذكية  باستخدام ذلك في الجو العام للقصيدة وليس في البيت الواحد كما ترى ذلك في: (شيخ، آباء، طفل، انكسار، تجاعيد، دمار، حصار، محطة، قطار، مدينة، عراق) وهنا حصد حصاداً جميلاً حين مسك اثمار فاكهة الربيع في سلة واحدة.. مضيفا اليها ما فعله في البيت الواحد ايضا من تلك العلاقات ولو بشكل ضئيل كما وَرَدَ في البيت الذي قال فيه (لماذا تركت بباب المدينة طفلاً عراقاً وشيخاً دمار) وما ضمَّ من فنون مركزّة في بيت واحد.

أقول رغم كل ذلك فان اربعة ابيات من الشعر لو اعدنا صياغتها وخلصناها من الوزن والقافية فأنها ستبقى محافظة على جمالها وصورها وضرباتها الشعرية هذا لو تجاوزنا مسألة انها لربما ستكون أجمل!!

اعود واقول ان استخدام صيغة السؤال (لماذا) وما تحمله من دلالة الصرخة والاستنكار  جاءت هنا اجمل وقعاً واقلّ وطأة من حجم الخسارة وقوة الرفض حين زاد عليها (اذن) كتأكيد لشيء حصل بالفعل فهنا جاءت دلالة السؤال تاكيدية جميلة معبّرة عن واقع محزن مؤثر مشحون بعاطفة غير اعتيادية في قوله (لماذا اذن عند كل محطة قلب، لماذا اذن عند كل تقاطع شيخ..) لكنه سرعان ما تجاوزها حين قال (لماذا تركت بكل تجاعيد آبائنا، لماذا تركت بباب المدينة..) كدلالة على الاستمرارية، استمرارية الفعل الذي حصل والذي ما زال يحصل..

في تحليلي لأربعة أبيات من قصيدة واحدة استطيع القول ان كل بيت شعر منها بامكانه ان يكون وحدة دلالية قادرة على ان تستقل بنفسها عن غيرها وهذا جانب اخر من جوانب بهجة الشعر الحقيقي ولذة الابتكار والابداع، اردت ان اقول ان بيتا من الشعر بالامكان ان يكون قصيدة قصيرة بما تحمله من معنى عميق حدّ الدهشة:

لماذا

اذنْ

عند كل محطة قلب

تركتَ بقايا قطار؟

 

في محطة القلب وما بقي من آثار وذكريات هي بقايا قطار العمر الذي يزاول الرحيل المبكر حين يتعلق الأمر بشخص عزيز وهذه الوحدة المتكاملة في بيت واحد من الشعر.

وتعالوا نتأمل هذا البيت:

لماذا

اذن

عند كلّ تقاطع شيخٍ

تركتَ زحامَ انكسارْ؟

 

ان تقاطع شيخ هنا اجمال لكل انكسارات الانسان في حياته بكل تقاطعاتها الجميلة والمأساوية المؤسفة معاً، تقاطع الافكار، تقاطع الاخوان، تقاطع العلاقات، تقاطع المرور، تقاطع الخطوط، تقاطع الاضداد، تقاطع التقاطع، ناهيك عن تقاطع الاعداء وتقاطع الانسان مع نفسه!!

وحين ينتقل الشاعر الى تجاعيد الاباء وقصة الحصار فهو يتحدث بايجاز سحري عن معاناة شعب بالكامل ببيت واحد من الشعر ليعود الى تقاطع من نوع آخر هو تقاطع الحاكم مع الشعب او تقاطع الشعب مع الحاكم من جهة وتقاطع البلد مع محيطه العام العالمي من جهة اخرى وما اسفر من كوارث ومعاناة بقيت في تجاعيد الوجه، وهو الجزء الواضح للعيان، الرمز الذي يحمل مع معاناته دلالة الادانة والفضيحة.

اما باب المدينة وما يحمل من دلالات في (لماذا تركت بباب المدينة طفلاً عراقاً وشيخاً دمار) فهو باب الامل مثلما هو باب الانتظار، وهو مدخل التغيير مثلما هو مدخل التاريخ الجمعي للأمة، استخدم الشاعر مهارة فائقة حين وصف الطفل بالعراق ووصف الشيخ بالدمار، وهكذا يبقى الوطن بريئاً نقياً رغم شيخوخة الدمار الذي رافق الانسان منذ ان رحل آدم بندمه لتبقى المعارك طاحنة من بعده.

   

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1057  الاحد 24/05/2009)

في المثقف اليوم