قضايا وآراء

صموئيل بيكيت رحلة في فضاءات خربة

 

ولد بيكيت في شهر أبريل عام 1906،قريبا من دبلن الايرلندية. درس مرحلة الابتدائية مع الكاتب أوسكار وايلد . عام 1928قام بجولة في أوربا تعرف خلالها إلى جيمس جويس، الذي كان لقاءه حدثا كبيرا بالنسبة أليه. والتحق بالمقاومة السرية للألمان 1942.بدأت حياته الفعلية مع الكتابة سنة 1945حصل على جائزة نوبل للآداب1969 . بدا كتابته بالإنكليزية ثم كتب بالفرنسية، تميز أدبه عموما بالتقشف على المستوى اللغوي، وعلى مستوى الأشخاص، الذين يشكلون عوالم أدبه المتنوع،وعلى مستوى التسمية كذلك. كما في فيلمه السينمائي الذي اسماه (فيلم). وكذلك الحال مع إحدى مسرحياته الشهيرة (المسرحية). وهذا يتواشج مع عزلته التي لا تضاهيها عزلة . وقد انتظر كما انتظر هام -أحد أبطال مسرحياته-  من العقلانية، أن تؤدي إلى لحظة إنسانية مميزة في تاريخ الكائن البشري. لكنه لم يستطع أن يتجاهل ما حدث خلال الحربيين العالميتين، حيث أصيب العقل بالسعار. ينتمي بيكيت إلى مسرح (اللامعقول) أو العبث، الذي يعد البيركامو أول من صاغ فكرته.  كما ترتبط مسرحياته بمبدأ المسرح الأسود، الذي كان اندرية بريتون من واضعي شروطه. والشيء الملفت أن تيار مسرح العبث، أو اللامعقول، قد وجد في فرنسا أرضا خصبة لينمو ويترعرع . فيما كان جل ممثليه ليسوا بفرنسيين، إنما مغتربون أجانب. فيونسكي من اصل روماني، واداموف روسي، وارابال أسباني وجورج شحاتة لبناني، والفنانين الايرلنديين وأبرزهم وايلد، وجويس،وبيكيت نفسه. ومن فرنسا أزهرت شجيرات الدادائية، والسوريالية، والأفانغارد.  تلك التي استمدت جذورها من الفريد جاري لاسيما ثلاثيته المسرحية (اوبو)، المثال الأول لمسرح اللامعقول. أو الشاعر ابولينز ومسرحيته السوريالية (أثداء تريسياس). ومن تلاهم من أسماء أمثال انطون ارتو، وروجر فيتراك، وسواهم. وبيكيت دخل اللغة الإنكليزية، كرديف للكآبة والعزلة. وهو أديب موسوعي تقريبا. إذ انه شاعر وروائي، وقاص، ومسرحي. ونستطيع القول سينمائي، وتلفزيوني . كما في (أي ...جو) وهو عمل تلفزيوني كتب خصيصا للممثل جاك ما كغورات، مجرد كاميرا ثابتة طوال الوقت على وجه الممثل. وهذا العمل مما يركز عزلة بيكيت، وعزلة عوالمه، قبل كل شيء. وهو يقترب من نفس الثيمة في إحدى مسرحياته التي كتبها عام 1972،فتألفت من مشهد فم يتحرك وحده بينما يغرق المسرح كله في ظلام دامس.واصل أسلوبه المتقشف، الذي صار منذ بداية الستينات ذا طابع تواصلي تكاملي. بمعنى انه صار ملزما بان يواصل فيه أسلوب العمل السابق عليه وابعاده،بحيث يبدوا الأمر في تكامله وكأنه رسم لهندسة معينة متواصلة حلقة بعد أخرى. عنوانها الدائم كما يبدوا لي، عزلة، وانتظار، ملونة بالرمادي، و مليئة بالسأم. من أعماله الأدبية (في انتظار غودو) (المسرحية) (الأيام السعيدة) (مونودراما) (شريط كراب الأخير) (موت مالون) (موللوي) (الحب الأول)* (نص مسرحي) و(ماذا...أين)** (نهاية لعبة)*** وغيرها.

 

نماذج من أعماله:

1- (بانتظار غودو)

 (لاشيء يحدث،لا أحد يأتي، لا أحد يذهب،هذا شيء رهيب.) ايستراغون

لقد كتب الكثير عن هوية غودو. ألا أن الرؤية الأكثر عمقا ودلالة، هي تلك التي تؤكد على أن غودو هو ما نعتقد.  شيئا آخر غير الذي نعتقده. انه الغائب الذي يمكن تأويله على انه الخالق، أو ربما الموت، ومن الممكن أيضا أن يكون المستبد بوزو نفسه.  ومع ذلك فأن لغودو وظيفة أخرى اكثر من كونه يشكل دلالة محددة، فهو الوهم الذي يبقنا مقيدين بهذا الوجود.  وهو الشيء الذي لا سبيل إلى معرفته.  غودو هو صورة وهمية، أو خيال، لما نريده نحن أن يكون. طالما باستطاعته أن يسوغ حياتنا كحالة من الانتظار. ربما هو الانتظار نفسه ومن الممكن أن يمثل الأمل في زمن لا أمل فيه .

"ليس ثمة شيء يمكن عمله" ايستراغون

"لقد بدأت اقتنع بهذه الفكرة" فلاديمير

 

المسرحية مشيدة من فصلين متماثلين ومكررين، يحدثان في يومين متعاقبين، في شارع ريفي. وبالقرب من شجرة جرداء يجلس متشردان، أحدهما يدعى فلاديمير(ديدي)، والآخر ايستراغون (غوغو)، بانتظار شخص يدعى غودو.  وهما لم يرونه من قبل وحتى لو رأوه فلن يعرفانه. ومع ذلك يعتقدان، انه من رتب هذا اللقاء في مكانهما هذا.  في منتصف النهار يصل شخصان سيد وعبده، الأول يدعى بوزو، والآخر لاكي.  يخبرهم بوزو بأنه صاحب هذه الأرض التي يقفان عليها الآن، يجر السيد خادمه لاكي بواسطة حبل شد برقبته ويأمره أن يجلب له الطعام، فيمتثل أمره ويجلب له دجاجة يلتهمها فورا ويرمي عظامها إلى لاكي . بعدها يخبرهما انه ذاهب لبيع خادمه لاكي ويغادران. يصل صبي في آخر النهار ويخبرهما أن السيد غودو، لم يستطع الحضور هذا المساء ألا انه سيحضر في الغد حتما. في صباح اليوم التالي يعود بوزو، ولاكي، ثانية. وقد اصبح الأول ضريرا والثاني اخرس.  ويصبح بوزو عبد، ولاكي سيد، (تبادل أدوار). يظهر الصبي مرة أخرى مكررا عليهما جملته السابقة ذاتها، شاجبا انه جاء إلى هنا في الأمس أو كان قد التقى بهما من قبل. في النهاية يقطع المشردان عهدا على نفسيهما، في المغادرة والعودة ثانية لانتظار غودو :

فلاديمير: حسنا، هل ينبغي علينا أن نغادر الآن؟

ايستراغون: نعم، هيا بنا .

(يتسمران مكانهما)

 

إن هدف انتظار فلاديمير وايستراغون لغودو، الذي لن يصل مطلقا هو أن يضعا نظاما أو منهجا لحياتهما.  ألا انهما يخمدان شيئا فشيئا وسط لا جدوى الانتظار، مكررين جملة واحدة.  ولعل ثيمة المسرحية نموذجا لكيفية تزجية الوقت( الحياة)1.

 

2- (المسرحية)

(لابد من التفكير بأننا لم نكن أبدا معا)، م.

ثلاث جرار رمادية كبيرة. من النوع الذي يوضع فيه رماد الميت، الذي أوصى أن يحرق بدل الدفن.  داخل كل جرة مواجهة للجمهور، ثلاثة رؤوس لثلاثة أشخاص جالسين داخل الجرار. لندرك بسرعة انهم زوج، وزوجته، وعشيقته.  الزوج في الوسط، والزوجة إلى اليمين، والعشيقة إلى اليسار.  وندرك بسرعة انهم يحملون الأسماء التالية: م.(الحرف الأول من ذكر أو زوج بالإنكليزية)، و(دبليو)1الحرف الأول من امرأة، و(دبليو2).  ومن البداية نلاحظ  أن الشخصيات الثلاث تبدوا من دون سن محددة.  بل من دون ملامح، إذ صار لكل منها لون رمادي.  أما الديكور الذي يحوي هذا كله، فهو ارض جرداء تبدو كمقبرة. وفي الخلفية شجرة تعصف بها ريح، تتناسب مع الغيوم والطقس الخريفي المنتشر. ومن أول المسرحية إلى آخرها تتلو الشخصيات نصوصا خاصة بها، من دون أن يبدوا أي نص وكأنه يجيب على النص الآخر. فلسنا أمام حوار مثلث الأطراف بل أمام ثلاث(مونولوغات) متقاطعة. إن دارسي بيكيت سيقولون لاحقا،انه نفسه فيما كان يصوغ هذه المسرحية عمد إلى كتابة كل نص من نصوصها على حدة، ثم قام بعملية تقطيع وقص وتوليف. إن أيا من الشخصيات الثلاث لا تبدوا مدركة وجود الشخصيتين الأخريين.  وفي الإخراج ما يعزز هذه الفكرة. فحين تتحدث الشخصية يسطع النور عليها، فيما تقبع الأخريان في الظلمة والصمت. والحديث كله يدور بصيغة المتحدث. يطالب بيكيت في ملاحظاته الإخراجية المتقشفة أيضا، بان يكون هناك ضوء مركز واحد يتنقل بين الشخصيات تبعا لحديثها.  حركية الضوء الوحيد هذه، وسيلة واضحة لمحو الشخصيتين. في الحقيقة أن ما لدينا هو زمن جامد، وصلب، تلعب اللغة في تكرارها وخوائها دورا في تعزيز جموديته. كل هذا جعل (مسرحية) تعتبر اقرب أعمال بيكيت، إلى المثل الأعلى السوريالي في الكتابة المسرحية 2.

 

آراء نقدية مختلفة:

(اشعر أن في أعماقي إنسان قتيلا ..إنسان قتل قبل ولادته) بيكيت.

الكلمة في بداية المقال، أوردها ولسون  وهو في صدد نقده الحاد لبيكيت في كتاب (المعقول واللا معقول في الأدب الحديث)، حينما سجل بعض النقاط. وكولن من النقاد القلائل، الذين يتميزون بقوة الملاحظة، ودقة التحليل، وروعة العرض. وهو لا يجامل أي أحد على حساب الحقيقة التي يؤمن بها أو تتراءى له من الدراسة والتتبع والتحليل.  واختزلت تلك المقالة على ما اعتقد أسلوب وفضاءات بيكيت المفرطة في ظلاميتها ويأسها.  حتى أن المستغرق في عوالمه تلك، والمتتبع لانفلاته التشاؤمي الحاد، والخطير، لا يستطيع أن يتلمس أو يلحظ وجود فظاءات فيها قبس من نور وضياء مهما كان ضئيلا.  ومن الواضح بالنسبة- لي على الأقل- أن الحق إلى جانب ولسون. حيث أن السلبية والتشاؤمية البيكيتية الخانقة لا تفتح أي مجال للتنفس ولا تعطي أدنى بادرة من الأمل.  وفي معرض نقده ذاك، يستعرض ولسون بعض الديكورات البيكيتية من مسرحية(نهاية لعبة) ويسجل النظرة السيئة التي يضمرها بيكيت في وعيه أو لا وعيه لوالديه. حيث أن بيكيت يضعهما في براميل القمامة. وقد علق أنيس زكي حسن مترجم الكتاب بهامش مفاده :إن ولسون يبدو هنا متحيز وغير منصف بشان بيكيت، الذي يقصد برمزيته العالية بالمسرحية بؤس الحياة ولا معناها ولا هدفها..، وحتى أن كان ما أورده المترجم فيه بعض الوجاهة، إلا أن إساءة بيكيت لوالديه تبدوا واضحة وهو يكررها في اكثر من مورد. واتصور أن بغضه لهما نابع من كونهما هم السبب المباشر الذي جاء به إلى هذه الحياة. التي لن يستطع بيكيت، أن يلمس فيها أي معنى و لا يدرك لها مغزى. بل هي بالنسبة أليه -الحياة- صنعت من اجل أن تسخر من الإنسان والوجود بشكل عام. وانه أمام كل الفجائع والأحزان التي جرت ويلات الحربيين العالميتين :(ليس ثمة شيء يمكن عمله).  وعلى هذا لم يعبأ بيكيت بوالديه، ولم يرى أي فضل لهما. بل -وهذا يستشف من فحوى رؤاه العامة- انهما يستحقان العقوبة لجريمة إنجابه الحقيرة. و في قصة (الحب الأول) يتحدث بيكيت عن والده قائلا:(اربط،عن صواب أو خطأ،زواجي مع وفاة والدي،في الزمن..) وهو طبعا يتشاءم من الحب والزواج ويحتقر أي علاقة حبية من هذا النوع. ومن هنا نتلمس أن رابطة زواجه بوالده مغزاها احتقاري واعي أو لا واعي.  ويقول عن والده في نفس القصة: (سجلت تاريخ وفاته،وفاته وحسب،لأن تاريخ ولادته لم تكن لتعنيني)، إلغاء واضح ومتعمد من اجل تأصيل الاحتقار. فاحتقار تاريخ الميلاد هو احتقار بالتالي لمجمل تاريخ الفرد. ومن هنا إلغاء يوم الميلاد الأبوي هو بدوره إلغاء لكل تاريخ الأب ووجوده ومن هنا يصر بيكيت، على أن يلغيه من حساباته. وقد أجاد في هذا الإلغاء التام بعبارة متقشفة ومختزلة أدت غرضها بشكل كامل. وبتسجيله تاريخ الوفاة أي اعترافه العميق واحتفائه به،يتمادى الإلغاء إلى عمق الذاكرة البيكيتية.  ويضرب على طبول احتقاره متواصلا في مكان آخر من القصة:(كله مختلط في رأسي، المقابر والأعراس وغيرها من أنواع البراز..) تأكيد واضح بلا أي مواربة نفس البغض والاحتقار ولنفس القضيتين فالمقابر يقصدها الناس لتذكر أمواتهم وكسرا لأطواق الاشتياق في نفوسهم تجاه فقد أحبتهم،والأعراس تتضمن في طياتها الولادة/الميلاد. لذلك هو يقرن الأعراس التي تستجلب الميلاد والحياة الجديدة عبر الأطفال الجدد، والمقابر التي تعد أرشيف أصيل من أرشيف الذاكرة البشرية من اقدم العصور وحتى الآن بالبراز. وعلى أي حال هناك الكثير من النقاد والكتاب من الغرب والشرق يصرون على كون بيكيت كاتب في غاية العظمة،  ويؤولون سو داويته وتشاؤميته الخانقة بتأويلات تبدوا في غاية التكلف. كما هو الحال مع اكثر الأبحاث والمقالات النقدية التي تورد تفسيرات لا نكاد نلحظ فيها أي قصدية للكاتب، سوى تبريرات نظرية في غاية السطحية. وبعيدا عن كل تأويلات متكلفة، واراء متعسفة.  يبدوا لنا بأن بيكيت شأنه شأن اكثر الذين مروا بأزمات حادة ومريرة، لم يستطيعوا كبح جماحها أو تغيير قسوتها بعشرات الوسائل، بل ظلوا يحتفظون بكل تلك الماسي بذواتهم حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من تفكيرهم وثقافتهم، فاندفعوا بكل طاقاتهم ينقشون جحيم تلك المعاناة كلما واتتهم الفرصة. والغريب أن حتى الكتابة هذه الممارسة الفنية والإنسانية الفذة لم تنقذهم، وهي تملك أقوى إكسير لتحويل الحزن والألم إلى طاقة فياضة من الجماليات والقصديات والاعتبار بكل تجربة. لكنهم اكتفوا بأن يسخرون طاقات اللغة الهائلة إلى ماكنة تنتج الألم والعذاب دون هوادة. وان كانت الكتابة لم تتركهم على أي حال لأنه وكما يبدوا قد أنقذتهم من جنون محتم. فلا ادري أن كان بيكيت ومن خط خطاه لا يعرف الكتابة أكان مصيره غير الجنون؟ ولا يفوتني هنا من التناص مع الفريق الثاني الذي حاول أن يرد على هذه العوالم المظلمة البشعة. لكن رده جاء هو الآخر مفرطا، إذ راح ينظر إلى تفاؤل جارف يبتعد عن الواقع نحو تخوم النرجسية فانتج تبعا لذلك أدب مخنث وتافه من نوع (ولا تزال الشمس تشرق )- ارنست همنكواي- و(غاتسبي العظيم)-سكوت فتز جيرالد-. ففي الرواية الأولى لاشيء سوى التفاهة ومصارعة الثيران والتسابق إلى الحانات وكأن الحياة ملهاة عجائبية من الانفلات، والتفاهة، ولا يوجد فيها شيء من الألم أو المرارة ولن تعرف الفجائع يوما. إما الرواية الثانية، فلست ادري حقا ما أقول بشأنها. وبعيدا أيضا عن تنطعات البنيوية، والسطحية، التي رأت في رمزية الشراشف في الرواية، رمزية عميقة ربما تقود بنيويا إلى التأرشف، والتشرشفية، وبالتالي اختزال الجنس وكل مفردات السرير والشر شف بكلمات مختصرة مشفرة. تبحث عن الفلاسفة العظام ويشترط أن يكونوا من أصحاب النزعة البنيوية لكي يفهموا فكرة رمزية الشراشف العظيمة. أما أنا، وغيري من المغفلين أمثالي الذين لا يتمتعون بسر كنوز البنيوية سوف لن يفهموا شيئا عن الرمزية العظيمة التي جعلت من الرواية السابقة في مصاف الروايات العظيمة وما أكثرها. ومن الغريب حقا أن تجد كل -أو اغلب- النقاد والكتاب لا يرون الصور القاحلة والمفرطة اليأس، وكلما تحدثوا عن بيكيت، عرضوا فصولهم المكررة من تابع إلى آخر بشكل مضحك. لهذا لا تجد أي جديد بين ناقد واخر بشأن بيكيت. اللاحق يعول على السابق مع تفكيك وتركيب يجريه على النصوص البيكيتية ويقدمها باسمه دون أن يذكر المصادر في اكثر الأحيان. ولعل بعضهم مدفوع بلمعان جائزة نوبل سيئة الصيت. وهو بالتالي لا يجرا على القول بان بيكيت، لا يستحق كل هذه الضجة عالميا. وان كان فضله على اللغة بالغا وكبيرا كما يقول المهتمين به من السادة الغربيين، فان هذا التأثير لا يبدوا واضحا ولا نلمس له أي وجود في كتب بيكيت المترجمة.  وهذا طبيعي لأن اكثر النصوص المترجمة ومهما كانت دقيقة لا تستطيع إظهار جمالية اكثر النصوص المترجمة لاختلافات لغوية وفنية ومهنية كما هو معروف. وبما أن المثل الإيطالي يقول:(الترجمة خيانة للنص) فأن هذا المثل، وبرغم كونه ليس بتلك العمومية التي يوحي بها ألا انه صادق في بعض الأحيان، خصوصا مع نصوص بيكيت التي تعد مثالا حي وصادق لهذا المثل.  وقد عايشت مشاكل الترجمة البيكيتية عن قرب، حينما كنت بائع للكتب في شارع المتنبي إذ اكثر الذين يشترون كتبه كانوا يعودون إلي ساخطين، ويعلقون على أن الترجمة غير متقنة. ومن الطريف أني حينما كنت اخبرهم بان المشكلة ليست بالترجمة، ولا بالمترجمين، بل أن المشكلة ببيكت نفسه. فان نصوصه مغلقة، ومتقشفة، وبالتالي ترجمتها مغامرة خطيرة وامر صعبا وغير مستساغ مهما كان المترجم قادرا وناجحا في عمله.  لكنهم كانوا يسخرون من ذلك ويعلقون بأنهم طالعو دراسات عالمية عن لغة بيكيت العظيمة.   واتذكر جيدا كيف أن أحد البيكيتين من زبائني أصر بان يواصل بحثه عن ترجمة شيقة وجيدة لبيكيت، لكي يفند ادعائي. وبعد مدة عاد خائبا بعد جولة مع التراجم اللبنانية والمصرية وغيرها وقال لي بما معناه : لقد تأكدت الآن بان بيكيت عصي على الترجمة وان المشكلة في نصوصه لا في الترجمة فعلا . وعلى أي حال، ما جرني  ألا هذه الذكريات أنها عادت للظهور من جديد، حيث التقيت بصديق اشترى قصص لبيكيت(الحب الأول وقصص أخرى) مع دراسة الآن باديو ترجمها عن الفرنسية حسين عجة،  وهي من منشورات أدب فن.  حيث كان صديقي منزعج جدا وقال لي انه يعتقد بأن الترجمة سيئة.  وعلى الرغم من كوني لا أجيد اللغة الفرنسية ألا أني اعرف بنحو واخر إذا ما كانت الترجمة جيدة أو لا وكنت قد ابتعت كتاب بر وست والإشارات وهو من ترجمة عجة، أيضا  فكانت قناعتي حينما قرأت الكتاب بان الترجمة جيدة جدا وان المترجم متمكن.  ولأن صديقي ملم باللغة الفرنسية نوعا ما وكان قد قرء الكثير من نصوص (جيل دولوز) بالفرنسية. حدثته بمشكلة الترجمة مع بيكيت خاصة واعطيته كتاب بروست السابق قلت له أن يقرئه ويخبرني عن رأيه فيه. بعد مدة عاد صاحبي ليقول أن الترجمة يا صديقي في هذا الكتاب اكثر من جيدة أنها ممتازة. وهذه المشكلة البيكيتية، يدركها اغلب المطلعين على تراجم بيكيت.  وعلى أي حال لا أريد أن أكون ذا بعد رمادي سوداوي واحد، كما هو الحال مع بيكيت. ولابد لي من الإشارة إلى انه يتمتع بمزايا كثيرة طبعا. فان الحزن والألم من واقع الحياة أيضا وهو بعدا من أبعادها الوجودية العميقة. وقد أبدع بيكيت، في وصف العذاب، والحزن، والألم الإنساني بل الوجودي بشكل عام. بشكل فني، وادبي عالي. وهو وكما مر في أول المقال، أديب متنوع المدارك والثقافة وقد كتب في جل أقسام الأدب. إلا أن ما سجلته عليه، هو إفراطه ومبالغته في توظيف كل موهبته لصالح تقرير أن الحياة عبثا والما لا طائل من ورائه، وبالتالي هي غلطة كبرى علينا أن ندفع عواقبها باحتقار الحياة وإلغاء أي معنى من معاني الجمال فيها. ومن جهة أخرى توجد آراء نقدية مختلفة للظاهرة البيكيتية. لعل أغربها مقولة الممثل جاك ماكوران :"الآخرون يرون بيكيت كئيبا، أما أنا فأراه كاتبا هزليا من الطراز الأول" . وفي الحقيقة أن ماكوران لم يقل ذلك على نحو الدعابة، إنما لمقولته ما يبررها فحسب فهمي المتواضع لمقولته، انه يقصد الإشارة إلى أحد قضيتين يتلمسهما المستغرق في النصوص البيكيتية أو كليهما: فالقضية الأولى أن قارئ بيكيت، سيجد  تشاؤمه وآلامه محض سخرية وادعاء أمام عوالم بيكيت المغلقة واليائسة، وهذا أمر يبعث على السخرية بشكل غريب. والقضية الثانية التي استشفها من مقولة ماكوران السابقة، وتبدوا لي اعمق واقرب للصواب، هي أن السام والمرارة، ومهما كان عمق ظلامهما، يستبطنان بعدا كوميديا وساخرا عند القارئ الواعي. حتى أن لم يشير الكاتب إلى السخرية ولم يلمح لها أيما تلميح. وهذا من الأدلة على أن إصرار بيكيت ومن معه ليس لهما أي مبرر لإظهار بعدا واحد من أبعاد الوجود وبناء كل رؤاهم وتنظيراتهم عليه.  وما دمت شرفت على النهاية لابد لي من الإشارة ختاما إلى ملاحظات مختصرة أجدها في غاية الأهمية.

 

تنويه لابد منه:

بالنسبة للنماذج التي ذكرتها لأعمال بيكيت فان رقم 1 اعتمدت فيه على مقال السينمائي العراقي علي كامل وهو بعنوان :(في انتظار غودو على خشبة مسرح باربيكان) كما نقلت بعظ الفقرات من كلماته من مقاله الآخر (بيكيت ذلك الساخر الحزين) وهما منشوران على موقع أدب فن، أما رقم 2 فقد اعتمدت فيه على مقال إبراهيم العريس (مسرحية لصمويل بيكيت...وحبكة بوليسية) المنشور في صحيفة الحياة، ومن بداية المقال إلى نماذج أعمال بيكيت اعتمدت على تحليلات هذين الكاتبين مع تلخيص وتصرف ودمج حسب الحاجة بالإضافة ألا معلومات عامة عن حياة بيكيت ودراسته وثقافته من عدة مصادر لم اذكرها لأنها معلومات عامة أولا ومكررة في اكثر من مقال ودراسة، وأنا ابتغي من هذا  التنويه بالإضافة إلى الأمانة العلمية والفنية في النقل والاستفادة من المصادر أن أسجل الملاحظات التالية:

 

بغض النظر من كوني أتعامل مع النقل حسب الرؤية التفكيكية والبنيوية أو لا. ومفادها أن من يعيد تفكيك النصوص، وتركيبها، من جديد يصبح هو صاحب النص الحقيقي، إما مؤلفه الفعلي فقد انتهى دوره. أقول حتى أن كنت مؤمن بذلك، فهذا لا يخول لي ولا لغيري أن نتجرأ على النصوص ونسرق جهد الغير، تحت طائلة التفكيك. فان الأمانة تقتضي الإشارة للمصدر مهما كان النقل بسيطا وقليلا. ويمكن استثناء المعلومات العامة، من التواريخ والقضايا الشهيرة التي يعرفها الجميع. عدا ذلك وبكل حزم وصراحة، كل من تعمد واغفل المصدر يعد خائنا أدبيا وفنيا. وهو أمر ليس له ما يبرره وليس هناك من داعي إلى التدليس، والقفز على جهود الغير. وهذا يحصل بكثرة مع الأسف الشديد خصوصا في الكتابات والدراسات والمواضيع التي تنشر على شبكة ألنت.  ولا يفوتني من هذا الموقع الهادف والمتميز، أن أحذر نفسي وغيري من هذه  المغبة الخطيرة. وليس أسوا على أي كاتب وأديب أن يفقد مصداقيته عند قرائه ومتابعي كتاباته.  ويبدوا لي أن اكثر الذين يصرون على إغفال المصدر ينطلقون من خوفهم من ضياع جهودهم، واعتبار كتاباتهم مبنية فقط على المصادر،  وأنا أقول لهم - كما سبق وان قلت ذلك في غير هذا الموضع- بأن ذكر المصادر لا يعني مصادرة جهد الكاتب، ولا إغفال إبداعه. فالقارئ الذكي يستطيع أن يقارن بين المصدر وعمل الكاتب بسهولة. كما أن الاشتغال على النص والمصدر السابق، يتضح بقدر جهد الكاتب الجديد وبراعة أسلوبه وكيفية تفكيكه وبنائه للنص الجديد.  وان لم يلتفت القارئ إلى ذلك فهو ليس مبررا لي ولغيري إطلاقا في أن نتورط بالخيانة ونصادر جهود الكتاب السابقين.  وارجو أن يلتفت الجميع إلى هذه القضية الخطيرة والمؤسفة حقا جهد الإمكان.  فأنا هنا حسب المنطق التفكيكي قد أكون خالق النص وصاحبه المباشر. وبالتالي قد يحق لي أن الغي دور علي كامل، وإبراهيم العريس، الذين اعدوا المقالات المحكمة. التي اعتمدت عليها كثيرا في تشكيل بنية المقال الفنية، وقد أغنياني حقا عن تجشم البحث المضني عن المصادر البيكيتية. وقد قلت سابقا بأنها لا تحمل في طياتها أي جديد، وشخصيا كنت قد جمعت الكثير من الملاحظات التي دونتها بنفسي عن بيكيت ومجمل إنجازاته، وأنا احفظ أكثرها. لكني أن اعتمدت عليها فسأخسر الدقة من جهة، والجهد والوقت الذي لا مبرر لهدره من جهة أخرى. فحينما وجدت المقالات السابقة قد لخصت واختزلت الكثير من الجوانب التي احتاجها في مقالتي هذه عن بيكيت استفدت منها وأنا ممتن جدا لكاتبيها. ولا يسعني أن أتبجح باني خالق النص على الرغم من أني تصرفت في معطيات الكاتبين.  كما لا يهمني من جهة أخرى أن يقول قارئ ما أني لم ابذل أي جهد أو إبداع في المقال لأني اعتمدت على المصادر لان ذلك غير صحيح إذ لا اقل أن الكتابة النقدية برمتها هي من ملاحظاتي الشخصية. ولم استعن فيها سوى ببعض العبارات والكلمات المنقولة بلسان بيكيت أو نقاده وهي مشهورة ومكررة. وعلى أي حال، يؤسفني أن حتى الكاتبين الذين نقلت منهما لم يشيرا إلى أي مصدر من مصادر نقلهما. ولعل علي كامل قام بجهد ذاتي واضح في قرائه بيكيت إلى أن الملاحظ بأنه اعتمد على مصادر بيكيتية، فلا ادري لما لم يشير إلى المصادر على الرغم انه يضع أربعة أرقام في إحدى مقاليه للإشارة إلى وجود هامش إلا أن الهامش غير موجود ولعله ينوي أن يكمل الحديث لاحقا لذلك اجل ذكر المصادر وأود حقا أن الفت انتباهه لذلك. وبالنسبة لمقال العريس فمع الأسف انه لم يشر إلى أي مصدر، بالرغم من أن مقاله في صحيفة الحياة ليس له بقية كما هو واضح من المقال نفسه. وختاما أجد لزاما علي أن أشير إلى أني لم اكن انوي أعداد أيما موضوع عن بيكيت أو غيره. فلأسباب عدة لا أود الخوض في المنجز الغربي. وإذا ما اضطررت إلى ذلك اتخذ دائما جوانب النقد السلبي، بمعنى الذي يؤشر نواقص وعيوب المنجز الغربي.  وهذا طبعا لا يعني إغفال الجوانب الفنية، والإنسانية العالية، في أي منجز. فالإبداع يتجاوز الحدود والأزمنة والأعراق كما هو واضح. لكني ومن منطلق متابعة الأحداث ومحاولة الاحتكاك بها، أرى أن الأحداث في الشرق عموما تسير نحو الالتفات المتأخر للمنجز الوطني، والشرقي عموما، الذي غاب عن وعي المثقفين منذ عقود طويلة. جرت إلى استفحال المنجز الغربي بلا مبرر عقلي بل على العكس وبالدقة أن هذا الانبهار الأحادي جر إلى ويلات وكوارث كان ولا يزال على رأسها أحادية النظرة عند الشرقيين عامة والعرب خاصة،  وها نحن وبمنتهى الغرابة نجد نفس هذه الأحادية عند الغربيين أنفسهم. ومن أوضح أمثلة هذه الأحادية بيكيت نفسه.  والغريب والمزعج جدا، أن حتى الغربيين المبدعون، والمتحررون، من الأيدلوجيات الغربية القاسية. كانوا ولازالوا ينهلون من منابع ومعارف ومشارب الشرق. لكن اكثر واغلب ثقافتنا ومثقفينا لم يهتموا بالشرق والشرقيين، إلا من خلال ما نظر له وولجه الغربيين. وهذه نقطة خطيرة في الحقيقة أشرت ولمحت أليها في مقالات سابقة.  وفي موضع آخر سأخصه عن خفايا ومخاطر اكثر التراجم الغربية من زمن الدولة العباسية أيام المأمون وحتى الآن. وان اكثر هذه التراجم ومع الأسف الشديد وبمنتهى المرارة كان مدفوع الأجر من السادة الغربيين، من اجل غايات أتت أكلها بثمرات لا حصر لها. على حساب الثقافة الشرقية والعربية بشكل عام. وانجر هذا إلى الشرقيين والعرب أنفسهم. فاكثر مآسي العرب، والشرق، هو التبعية البائسة والمخنثة للغرب بلا تدقيق ولا تعمق ولا حسبان. وعلى أي حال أن ما ساعد على ذلك هو النخب المثقفة التي تعالت فوق واقعها، واهل واقعها. فراح اغلب المثقفين، يحتقر كل ما هو وطني أو محلي أو شرقي. ولقد ساعدت هذه النظرة الاحتقارية، على احتقار كل ماله علاقة بالمحلي والشرقي.  ولما أثبتت السنين خطأ هذا التعامل وفشله. كان أول من ارتطم بالنتائج الاجتماعية المؤسفة هم النخب المثقفة أنفسهم.  وقد تجاوزهم المجتمع -ومعه الحق في اغلب الأحيان- الذي لا نريد أن نتفق ونردد مع السادة المتثقفين بان المجتمع جاهل، ولا يستحق الثقافة. لان الحقيقة المرة أن النخب الثقافية وبغالبية كبيرة، ساعدت على هذا التجهيل، بل وشاركت فيه بشكل مباشر أو غير مباشر. وعلى العموم، اصبح هذا الأمر من الواضحات الآن عند المتتبعين، والملمين بالمعطيات الواقعية والاجتماعية. وقد أجاد الكاتب والفيلسوف الحداثي علي حرب، في التنظير له في كتابه نهاية النخبة أو موت المثقف.  ولاني أسعى لان أشارك في بناء المستقبل، ولا أريد التعامل معه كالمراقب الذي ينظر إلى المستقبل بعينين من زجاج مظلل من فوق جبل عالي، وإذا ما جاء المستقبل بغير ما أراد وتمنى ألقى اللوم على الثقافة الاجتماعية والفكرية لبسطاء الناس ولن يخطئ نظارته أبدا.  واود أن أعلن هنا، بان عصرنا سائر نحو الكشف والانفتاح بشكل لا يرحم. وان الاهتمام والانفتاح على الثقافة المحلية والشرقية بشكل خاص هي ما سيعيد الدفة إلى العرب والشرقيين عامة. وارى حسب قناعتي أن التهميش الحاصل للأدباء والمثقفين، اعني الشرقيين والعرب تحديدا، سيزداد خلال الأعوام اللاحقة. وستسع الهوة بينهم وبين المثقفين اكثر واكثر أن لم يسعوا لتغير طرق تفكيرهم ووسائل قناعتهم. ويكفوا عن متابعة الغرب والتغني بآثارهم وكأنها ثقافة سماوية في أقصى حدود القداسة. ونظرة واقعية بلا تكلف أو عجرفة تثبت ذلك. وإلا ما معنى كل هذا الإهمال لكل الثقافة، والفن والأدب، الشرقي والعربي بشكل خاص . ولماذا لازال أدبائنا وفنانونا وشعرائنا يزدادون تجهيلا وإهمالا، ويموتون غرباء منبوذين لن يتذوقوا طعم الراحة ولا العيش الكريم. وجل ما يحصلون عليه تكريم بائس في أحد الأمسيات المتواضعة، ثم يغلفهم النسيان ولا كأنهم كتبوا شيء أو تحدثوا بحديث يذكر، ويعود الثور لمواصلة جر المحراث إلى الوراء.  وفي كل سنة جديدة يزداد التهميش وليس المجتمع الجاهل كما يحلوا للبعض القول، هو من سبب ذلك بل المثقفين هم السبب في إغفال أنفسهم وعدم قناعتهم بقصر آلياتهم، ولاهم على استعداد لتغيرها.  والزمن يدور دورته ولم ولن يتوقف شئنا أم أبينا . ولا يوجد من هو مستفيد على كل الأصعدة سوى أهل الطرب وهز الأجساد الذين أصبحت ثرواتهم خرافية، وإمكانياتهم و قوتهم أسطورية، وثقافتهم لا تساوي فلسا. لكن سوقهم رائج لأن الناس في الوطن العربي عامة، ملت من أساليب المثقفين الجامدة والكلاسيكية التي تنتمي للقرون الأولى ولم يعد للمثقف وبمنتهى المرارة، أي دور أو وزن عند اغلب أهل الزمان. وعلى أي حال أنا لا اقصد أحد ولا استهدف أي شخص من كلامي. فيكفي أنني أيضا المثقف الصغير، قد شاركت ولو بشكل غير مباشر بهذا الواقع المزري للثقافة والفن والأدب بشكل عام. ورغم أن العوز والحاجة والمرض تحيطني من كل الجهات، لكني أصر على أن أنقذ نفسي على الأقل من هذا البؤس المرير.  واعلنها بكل صراحة أن اللهاث وراء المنجز الغربي بشكله الحالي سيزيد الأمور سوءا مضاعفا.  ولا اعرف ما لغاية حقا في أن يتجشم المثقف، والأديب، كل هذا العناء وينكر نفسه، ويعين على إهمالها بشكل عصي عن الإدراك.  وفي خصوص الترجمة كم من مثقفينا وللأسف أفنى عمره وجهده بالترجمة للكتب الغربية. وحينما نأتي إلى هذه التراجم، نجدها وبمنتهى المرارة كلاسيكية عفا عليها الزمن وحتى السادة الغربيين لا يعرفون عنها شيء، وقد تجاوزوها منذ سنين.  ويا ليت أن مترجميها في غالبيتهم، يتابعون المنجز الغربي الحديث. لكي تتوسع مساحة معذوريتهم، ويقدموا أشياء حية معاصرة مفيدة. بينما الواقع يصر على التساؤل المرير لما يحدث ذلك؟ وندع الجواب مفتوحا فذكره قد يتسبب في جرح الكثير منهم. وهو واضح عند المتابعين وآلا فما معنى أن تعاد كل تلك التراجم لقصص وروايات واشعار غربية تجاوزها وفاق إبداعها المنجز العربي والشرقي منذ عقود فضلا عن المنجز العالمي. وعلى أي حال لابد من إعادة النظر حقا، أن أراد أحدنا أن يعود في واجهة المواجهة الاجتماعية. واراد أن يعيد للفنان المحلي والعربي دوره وهيبته ويسيطر على دفة الإعلام التي يقودها الامعات والمتخلفون وملمعو الأجساد والوجوه. وأصبحت الراقصة ونجمة ستار أكاديمي تستطيع أن تتحكم بمصير أمة كاملة بهزة وسط عند السادة السياسيين، وقادة دولنا الذي اصبح المثقف بالنسبة إليهم آخر من يفكرون فيه ويحسبون حسابه. فهو إما أن يتواطأ مع الساسة من اجل الوظيفة والمال واما أن يهيم على وجهه تائها في جحيم الحياة، وينجح السياسي والإعلامي بدفنه حيا. وعلى أي حال أن صلب الأزمة من جانب آخر اعني أزمتنا الثقافية والفنية والفكرية ينطلق من الأحادية في العمل والسلوك. فان أخطار هذه الآفة يتفرع على كل الأقسام ومن أقسامه الفاعلة القسم العملي. فان اغلب ثقافتنا ومثقفينا المحكومين بالأحادية البائسة لا يميلون إلى العمل الجماعي ويتقوقعون بفردانيتهم. بينما الواقع يصرخ بفشل اغلب الجهود الفردية وان اغلب الأعمال التي كتب لها النجاح في التاريخ هي الأعمال الجماعية.  فاغلب الأعمال الأدبية الناجحة هي مشاريع جماعية وكذلك الدوريات والمجلات الثقافية وحتى المواقع الإلكترونية الفردية تضمحل وتنضوي ولا ينجح إلى الموقع الجماعي. خذ هذا الموقع الجميل (أدب فن) الذي يشرف عليه الشاعر كريم النجار والكاتب حسين عجة والكاتب خضير ميري ويشرف عليه فنيا موفق الطاهر. كذلك موقع القصة العراقية الذي أسسه الكاتب العراقي جاسم المطير ويشرف عليه الكاتب والسينمائي حسن بلاسم والكاتب عدنان المبارك وسمير المبارك وغيره من المواقع الجماعية الناجحة. وكدليل على المجلات الجماعية المجلة العراقية (ميزوبوتاميا3)، التي يشرف عليها الكاتب والناقد العراقي سليم مطر. وهي تعد مفخرة عراقية وشرقية. بل إنها تجربة عالمية غير مسبوقة، وتجربة فريدة سيعرف الشرقيين والعراقيين فضلها عاجلا أم آجلا. وكل منجزات وأفكار سليم مطر، هي فريدة وخطيرة. لأنها ثقافة جمعية وواقعية. انفتحت من الحاضر الواعي إلى التحكم بالمستقبل وتشخيص أزماته بدقة فريدة وبأسلوب باهر وراقي. وهي أول مسمار في نعش كل العجرفات، والأخطاء، والتبعية المقصودة، أو ألا مقصودة التي مورست بحق الثقافة الشرقية عامة والعراقية خاصة. ومن منطلق المسؤولية أرى لزاما علي أن أشير إلا هذا الكاتب الكبير، وثقافته الراقية ومجلته الفريدة التي يشرف عليها عشرات الأدباء والمثقفين من شتى أنحاء العالم. إذ انه يرسم لنا خريطة الثقافة والعمل الجمعي بأبهى حلى. وفي الختام قلت الكثير من الأمور ولابد من التوقف عند هذا الحد. ويحدوني الأمل الكبير في أن الوعي الجماعي الحالي، الذي يبدوا واضحا في أقلام الكثير من مثقفينا، وأدباءنا، سيكتب له النجاح سريعا، ورغم كل الألم وواقع الإهمال المرير الذي يلف مبد عينا ومثقفينا .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1088  الاربعاء 24/06/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم