قضايا وآراء

الشعر الشعبي الحر/ البيت العراقي انموذجا

إنتاجه الجماعي فيه. وهو كغيره من الفنون الإنسانية المتنوعة بمختلف الأطياف، يمر بمراحل فتور، وتوهج وصعود ونزول. حسب تفنن وإجادة رواده في كل عصر وزمان . وبطبيعة الحال بالنسبة لفلسفة التاريخ المستمرة، أن الاستغراق في موضوعا ما - ومنه الفن عموما- لابد أن ينتج الحراك، والصراع، بين أهله، المتباينين في المشارب، والمآخذ. فتتباين تبعا لذلك نتاجاتهم حتى تصبح جزءا لا يتجزأ من ذواتهم، وشخصياتهم، فيتمايزون فيما بينهم تبعا لاختلاف منتجهم. وهذا شيئا مطردا في كل الفنون الشعبية وغيرها. ولذلك امتلأ عالمنا اليوم بالمدارس الأدبية، والفنية المتكاثرة، والمتباينة، وهي في تزايد مستمر ما دامت الحياة. ولذلك أيضا نجد البعض من الفنانين، تميزوا تميزا فريدا عن أقرانهم من مجايليهم والتالين لهم. ذلك أن هؤلاء قد أتقنوا الصنعة الأدبية والفنية حتى الإدمان. لذلك سعوا إلى تطويرها بخلق مفاهيم جديدة، وابتكار فضاءات واسعة. شحنت بالمفردات الغير مستهلكة، والغير مكررة. ورفضوا كل حجج الراكدين، والمصرين على لونا أو طورا ما، واعتبروه هو الأنموذج الذي يجب أن يحتذى حذوه. ولعلنا لا نجانب الصواب، إذا قلنا أن اكثر كبار الأدباء، والفنانين بشكل عام، هم فنانون، وأدباء، بالفطرة. شغلهم عالم الأدب والفنون عن كل شاغل غيره. فمضوا مبدعون في نتاجهم الانقلابي والمجدد. رغم اعتراضات ومضايقات الذين يظنون أنفسهم أرباب الفنون والآداب. ليفاجئوا لاحقا بعملاق ما، كانوا لا يحسبون له أي حساب، وإذا به يفجر مدرسة جديدة، أو يؤسس نظريات تتجاوز ركام وحطام سنين متطاحنة. وهذا الأمر واضح لا يحتاج لإقحام الأدلة من اجل إثباته. من هنا ما تود هذه المقالة المتواضعة إيراده، هو أمرا ظل بعيدا عن غريزة التطور ومنذ سنين طويلة بالنسبة للشعر الشعبي. فعلى الرغم من أن هذا الشعر، مر بأطوار وتعديلات لا باس بها، ألا انه لا يزال يسير سير السلحفاة في زمن المركبات الفضائية. وان كنا شهدنا منذ زمن بعيد ولادة الشعر (النبطي )، الذي نشئ وتطور بجهود بعض الشعراء العراقيين. فأننا لم نشهد وصول الشعر الشعبي إلى طور الحر. وهو ما تود هذه المقالة أن تلفت نظر الشعراء الشعبيين العراقيين خصوصا أليه. فقد كان شعراء العراق، هم السباقون إلى انبثاق الشعر العربي -الفصيح- الحر. الذي أسس له السياب، والملائكة، وتوالى الشعراء عليه تباعا. وقد شهد الشعر تطورا ملحوظا، حينما تحرر من بعض القيود التي تفرضها القافية والتفعيلة وغيرها. واخذ الشعر من ذلك الحين وما زال، يتطور، ويتفاعل، ويتصاعد، إلى الشكل المعروف الآن عند الشعراء، والمتتبعين، والنقاد. فهناك قصائد النص المفتوح، والتي تكون في الغالب نصوص مطولة. واصبح التداخل الشعري واضحا، بأقسام الأدب الأخرى. فقد يكون الشعر مبني بأسلوب قصصي أو العكس، إلى باقي أقسام الشعر وألوانه المعروفة. وبما أني لست شاعرا بالمعنى الحرفي للمفردة، لا في الشعبي ولا في غيره. على الرغم أني كتبت قصائد شعبية كثيرة، احتفظ فيها في مسوداتي الخاصة. لكني مع هذا لا أضع نفسي ولا أريد أن أضعها مع نخبة الشعراء الشعبيين الكبار. والذين اصبحوا معروفين عالميا وقد ترجمت أشعارهم إلى اللغة الروسية والفرنسية، كما مع نصوص الشاعر المبدع كاظم إسماعيل الكاطع. ولازال الطور المظفري محبب إلينا، وهو يزداد انتشارا في عالمنا العربي الذي يضج بالمصائب والكوارث. وكذلك جمال الصورة وعذوبة المفردة العريانية ترهف مسامعنا. ولا نريد تسجيل كشف بأسماء الشعراء المبدعين في الشعر الشعبي تحديدا. الذين بلغوا به مستو عاليا خصوصا في السنين الأخيرة. ومع كل اعتزازنا بهم، وبأشعارهم، ألا أننا لا زلنا نلاحظ فتورا وتقولبا في الصنعة الشعرية الشعبية. بمعنى أن الماكنة الإنتاجية المنجزة للأسماء السابقة، وان كانت تحمل في طياتها بعض المتغايرات والمتمايزات من شاعر إلى آخر. إلا أنها مع ذلك تتشابه في أحيان كثيرة. فرغم اختلاف الألفاظ يستطيع المتلقي أن يشخص المنطلقات، والخلفيات، المتكررة والثيمات المتشابهة. ربما نستثني من ذلك اسمين أو ثلاث من المعاصرين، يتمتعون بذائقة خاصة، ويمتلكون شهية اكثر خصوصية.، لكن بشكل عام، التشابه موجود والركود مضى عليه دهرا طويلا. ولأني من متتبعي، ومتذوقي، الشعر الشعبي، واحفظ بعض قصائد المبدعين. التي وجدت في بعضها مواضيع ثرية، استفزت مخيلتي واستثارت حفيظتي. ولكني وتأسيسا على التشخيص السابق، لمشكلة الركود الشعري الشعبي. فقدت هذا الأثر منذ فترة ليست بالقليلة. حيث أكاد لا أجد ما يستفزني وما يغني جعبة أفكاري، نتيجة تكرارية المواضيع المطروحة من جهة، وتكاثرها على نفس النسق من جهة ثانية. وهذا كما يبدوا لي ليس نضوبا في قريحة شعرائنا، أو قصورا من ناحية منتجهم الإبداعي كما قد يبدوا للكثيرين. وإنما- كما يظهر- هو نتاج نضوب المنبع الشعري نفسه. اعني أن آلية الشعراء محدودة جدا. وبما انهم لم يفتحوا أبوابا، وأفاقا جديدة تستجد على أثرها مفردا تهم ومواضيعهم، نضبت أفكارهم وذائقتهم تبعا لمنضوبية المنبع. ومن هنا لاح لي أن أتوجه بدعوة أخوية وأدبية. لأستحث شعرائنا الشعبيين على تحديث وتطوير آلياتهم وتنوع مشاربهم. حتى ينفعونا بقصائد شعرية جميلة وجديدة، تترك بالنفس أثرا يدفعها على التحرك، وانتاج ما هو نافع وجديد. وهذا هو شان كل الأفكار الجديدة النافعة. ولاح لي أيضا على الرغم من قلة خبرتي الشعرية أن اقدم، خطوة متواضعة جدا في هذا المجال. لا ادعي طبعا كونها جديدة من حيث المفردات التركيبية اللفظية، لكن يحق لي أن أقول أنها تجربة جديدة في الشعر الشعبي من حيث الآلية التي لا تأبه للقافية الكلاسيكية المعروفة والموروثة في الشعر الشعبي. وهي أيضا متحررة من قيود التفعيلة نوعا ما. لكنها لا تخلو من الحس الشعري المحبب، والنغمة اللفظية المتناسقة. أرجو أن تكون خطوة أولى على طريق الألف خطوة. وأرجو من الشعراء الشعبيين، أن يفكروا في هذا الاتجاه وان يتحفونا بإنتاجهم الشعري الشعبي الحر. عسى أن يستفيد الجميع من هذا التحديث الذي لابد منه .

    

        (البيت العراقي*)

صباح الخير يا أول عشق يتوسد جفوني

مساء الخير يا أخر درس علمني أتعلم

يا انعس برد كاسر سموم القيظ

وبنص السهر يجبرني أتنعس

أدور بيك حيث القه

النهر والدهلة والشاخات

وارد اردود أتيهن بيك

يا فالة وشبك وي رحلة المشحوف

حري الطين بعيونك

وعلى ضفافك غفت رزمات من بردي

بليل أهوارك أتعثر بأذيال التفك وبريحة البارود

أتوسد سواتر ريش

مديوفة بدمة من رقبة خضيري

يبساط الجمع كل هوسة الديوان

وسقاها محبة بقهوة القمقم**

أهزك مستحة وبهيدة اجهب

لجنك جمر من جانون

ترعش سعفتك وطافر الجمار

ياريحة سعد يا طقطقة حرمل

دخن ثوبي ياعوذة

واطرد عني مسة شر

تراني بطلسمك مذهول

شيحل الغز بصرني ياكودة

شقد الهجر لوعني وصرت محروم من شوفك

صينية الأكل وحشة إذا كل زادهة حضري

لاقوقله1 لارشاد2 لاتولة3 ولابربين4

لاخشنية لازوري5

ينشف ريقي وأشهى

مامش عندي حناية6

ولا بيضي يحيطة سياح7

ذبلت سمكتي من عافهة الطابق8

احنلك واحنلك وحن للدوم

وعيني على الدرب تربي9

يا قوس القزح شع فوق الفضى الو انك

ثوبك هاشمي ويحي سرياني

بيمينك شايل مسلة

وبيسارك قلم يبقى وي الأزل يكتب

عرفنة الحرف عنوانك

فرات الخير شريانك

على ضفافك جرى التاريخ

بدجلة الشوق ما يبرد

يا أول محطة العاش بيهة إنسان

بيك الوحدك يتقدس الطاووس

يا اشرف ارض بترابك أتعبد

يزيدي وصابئي معناها ماي وريش

كردي ويعربي يعني جبال وي سهول

جوز ولوز وي الدبس متخاوي

بيك أنبياء انته وبعد هم بيك

ايمة بكل علوم الدين

يعني بيك ملة وملحد وزنديق

شو صف بيك شكتبلك

منجل بأرضك وجاكوج

مترصعة بعلم احمر

وطفلك بالأمس يحبي

شاب وصار علماني

أستاذ يحاور الفلاح

محصول الزرع بهواك لبرالي

يابونة بكل وقت تولد

أديب وعالم وشاعر

مصفاة الفنون انته

بهواك اتغنت الأشعار

مزاجك ما عرف تحديد

ساعة بنفس كوميدي

وساعة يصير مأساوي

يا لوحة وعزف قيثار

مخرج والوقت منتج

وحدك وزع الأدوار

يا قصة خرافة ويا فلم تعليم

انته اجمل صفة معروفة كلش بيك

بعد كل الجروح تقوم متعافي

احنلك واحنلك وضل للدوم

على بابك اصد وعيني ما تغفى

عاشق شهرزادك وابقى دوم اعشق

ألف ليلة الجرى والوحدك ليلة

افرح يا وطن رغم الجرى والصار

لان الجاي خير وفرح ومسامر

كل واحد طلع من أرضك انته يعود

لحضانك يحن وتخنقه العبرة

يا رحم المحبة اليجمع الخوان

ما ينسى الابن كاروكك الغالي

ما ينسة الابن كاروكك الغالي10

  

 بعض الإيضاحات:

*القيت هذه القصيدة أولا في تجمع عراقي في لاهاي، حظره بعض الشخصيات الأدبية والفنية، في نهاية شهر رمضان المبارك، عام 2008. وقد صور تلك الأمسية الإعلامي رياض الفرطوسي. وبثت بعض المقاطع من القصيدة على قناة البغدادية الفضائية. وألقيت هذه القصيدة مرة ثانية في تجمع البيت العراقي في مدينة (لاهاي الهولندية) في إحدى الأمسيات العراقية.

ملحوظة مهمة: اكثر المفردات التي ذكرت بحرف (القاف) لابد من قراءتها بحرف أل (كاف) الذي يوضع فوقه خط كما في اللهجة العراقية الشعبية. مثال من بيت القصيدة الأول (..يا أول عشق) هنا طبعا كتبنا العشق بـ (القاف) لان لغة (الكمبيوتر) ليس فيها حروف شعبية، كما هو واضح. وعلى ذلك يجب قراءة المفردة بالـ (الكاف) الذي يوضع فوقه خط كما مر سابقا. وكذلك اكثر حروف القاف هنا. ونفس الشيء مع حرف ألـ (جيم) حيث يقلب في اللهجة العراقية الشعبية-الجنوبية خصوصا-إلى(جيم تحته ثلاث نقاط) مثال من القصيدة: (لجنك جمر من جانون) هنا لابد من قلب أل(جيم) الأولى والثالثة إلى (جيم بثلاث نقاط) وتبقى الثانية على حالها في كلمة جمر.

**القمقم، يجب عند قراءتها قلب ألـ (قاف) الأولى والثانية إلى (كاف فوقه خط). وبذلك المعنى أي (ألكمكم) يعني آلة تسخين القهوة العربية المعروفة والشائعة في العراق عموما وهي تسمى (دلة) وألكمكم هو آلة كبيرة وضخمة جدا معروف بهذا اللفظ عند بعض أهل الجنوب .

1-   الكلمات من1الى 4، أنواع من الخضار البرية المعروفة عند طبقات واسعة من العراقيين، وقد تختلف الأسماء من مدينة إلى أخرى .

 5- الخشني، سمك صغير معروف خصوصا في جنوب العراق واهواره، مفرده خشنية، والزوري اصغر منه في الحجم.

6-ما مش، كلمة نفي للملكية، تعني لا املك ليس عندي، يستخدمها آهل الجنوب الاقحاح، وحناية، رغيف خبز عادي لكنه صغير الحجم.

7-السياح، مفرده سياحة، خبز من طحين (التمن) يخبز بطريقة خاصة على طاوة حديد .

8- هنا لابد أيضا اقلاب ألـ (كاف) في سمكتي إلى (جيم تحته ثلاث نقاط)، والطابق تقلب فيه (القاف) إلى (كاف) فوقها خط، وهو نوعا من الخبز مثل مادة السياح ألا انه اكبر منه حجما وسمكا، ويجهز على طبق طيني مستدير وهو خبز معروف جدا عند أهل (ميسان) واكثر ما يأكل مع السمك المشوي.

9- تربي، هنا بمعنى تنظر وترقب، وهي لفظة جنوبية أيضا .

10- الكاروك، مهد الطفل وهو اكثر ما يكون من الحديد واللفظ شائع في اللهجة العراقية وخصوصا عند أهل الجنوب. واعتقد أن باقي المفردات الواردة في القصيدة واضحة للأعم الأغلب.

 

          ( وسيم بنيان )

         (لاهاي- هولندا)

         2007

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1092  الاحد 28/06/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم