قضايا وآراء

لمعالجة وضعنا الراهن.. نحن بحاجة إلى فكرٍ جدلي

واستشراف المستقبل وحب المغامرة، والثاني هو ضروري في إثبات نقصان البشر وعدم إمكانهم حيازة الكمال دفعةً واحدة، وفي بيان احتياج الإنسان لأخيه الإنسان في تكامل رسم صور الحياة في أسمى ما يُمكن.

وإذا قام الجدل على مثل هذه الرؤية الطبيعية فسوف يُضفي المزيد من التطوّر على الحياة البشرية، وذلك هو الفكر الجدلي البنَّاء الذي نفتقده في حياتنا، إذ يُعَدُّ ضمور هذا النوع من التفكّير الجدلي الملتزم بالشكل والمضمون في أي أمة مظهراً من مظاهر الركود الحضاري لها.

لقد قمنا باستعاضة الفكر الجدلي المستنير الناهض، بالجدل الفكري الهابط، إذ لا يُعدّ الجدل البيزنطي القائم بيننا اليوم في أغلبه سوى انعكاس لحالة من الفراغ والإحباط من جهة دوافعه، والرسم في الفراغ من جهة مضمونه فهو جدلٌ قائم على الشكل يعتمد على تقديس الذوات، ويعتمد على تصنيم الأشخاص أو المذهب، أو المنهج أو الفكرة، بل هو لا يُعبّر عن ذواتنا ورؤانا، ولا يتناول سوى الجانب الشكلي المُفرغ من مثاقفة التساؤل، مما يجعله يحدُّ من رؤيتنا الموضوعية للأمور، ويدفعنا إلى التفسير الساذج للأشياء من حولنا دون أي ربطٍ موضوعي لمؤثراتها المتداخلة وعلاقاتها المختلفة، إذ كل شيء هو لذاته وللآخرين، وهو دائماً في علاقة أو علاقات، وهذا التقييم البسيط يجعلنا نُفسّر الظواهر تفسيراً واحداً هو أشبه بالكتلة المنفصلة والمعزولة عن غيرها وهو ما يؤدي بالتالي إلى التصلّب الذهني، والعقم الفكري؟، وعدم القدرة على تكييف الواقع، والتكيّف معه، وحجب الرؤية النسبية في التقييم، وانعدام رؤية التناقضات الذاتية وفق سنّة المدافعة داخل ما يظنّ أنَّه كتلة واحدة، فنعمد من خلال هذه الوجهة إلى إسقاط القاعدة بالشاذ، في حين أن الشاذ يقوّي من تأسيس القاعدة، ومن ثمّ تتراكم المشكلات، وتتعاظم المعضلات.

إنَّ بروز لبنة واحدة شاذة في بناء متكامل أنيق كفيلٌ بأن نحكم عليه بالهدم، وعدم الصلاحية للسكن!!.

إننا نعاني من جدلٍ فكري عقيم يقوم على المضغ والتكرار، وتنميق الظاهر والتركيز عليه دون الغوص في المضمون، ولعلّكم تلاحظون معي أنَّ كافة ندواتنا ومؤتمراتنا الفكرية ودراساتنا البحثية نستفتحها دائماً بعبارة (الخطاب) الديني أو الخطاب الإعلامي أو الخطاب الثقافي، أو تاريخ الدولة الفلانية دون عبارة (العمل أو الفعل أو الإبداع أو المستقبل) وكأننا أصبحنا أسوياء في إنتاجنا وفي إبداعنا وفي معالجاتنا وفي كل ما نُساهم به في إرساء دعائم الحياة الإنسانية ولم يبق لنا من الإشكاليات سوى هذه المعضلة.

وليس ثمّة تجد فينا من يكرّم أرباب الإبداع العلمي أو الهندسي أو الصناعي أو الإنشائي بقدر ما تجد من يكرّم أرباب الكلمة والمقالة والقصة والشعر والخطابة!!. وإن كُرّم هؤلاء أو أولئك فبوضع إكليل من الزهور على قبورهم، فإن حالفهم الحظ فعلى كرسي متحرّك!!.

ولا عجب أن نرى أغلب الغربيين الذين يحصدون جائزة نوبل ويُكرّمون لإبداعهم هم تحت الثلاثين من العمر.

الفكر الجدلي يهدي إلى الإبداع والتجديد رؤية ومعالجة:

إنَّ اعتمادنا على فكر الإثارة الجدلية يوقفنا على الكثير من التساؤلات المهمة الهادية إلى الإبداع والتجديد، والبعيدة عن النمطية والسطحية في الطرح وفي التفكير وفي الحكم على الأشياء.

وعلى سبيل المثال نجد تعليلنا لبعض مظاهر التخلّف الاقتصادي يكمن في الاستعمار والعهد البائد والاحتلال ولا شيء سواها، في حين أننا لا نُثاقف تساؤلاتنا حول وجود دول لم تُستعمر ومع ذلك فهي متخلّفة، وبعض الدول المتقدّمة التي استُعمرت، ونجد دولةً عربية كانت تُصدّر القمح تحت الاحتلال ثم أصبحت فيما بعد تستورده والعراق خير مثالٍ على ذلك، كما أننا نجد من يُعلّل تخلّف الدولة الفلانية بعدم توافر المواد الخام فيها ثم لا نُثاقف تساؤلاتنا بفكرٍ جدلي موضوعي يقول: ولماذا تتقدم دولة كاليابان مع فقرها المدقع في المواد الخام، وهي التي أصابها من الاستعمار ما لم يُصب غيرها في الحرب الكونية؟؟. كما نجد بعضنا يردّ تخلّفنا إلى فشو الخرافة والدروشة فينا ثم لا نُثاقف تساؤلنا عن دول كالهند التي كانت إحدى مستعمرات بريطانيا، وهي إحدى أكبر تجمّع للمعتقدات المختلفة المتخلّفة واللغات واللهجات المتباينة، والخرافات الغريبة المُضحكة؟؟؟.

ونحن نسمع في بعض برامجنا من يتناول بعفوية تمجيد القديم ولعن الجديد وهو نوعٌ من إيحاء العاطفة والحنين إلى الذكريات دون النظر في المقارنة بين الجيلين من حيث النسبة العددية ومن حيث قلة وسائل الجريمة في الماضي ووفرتها في الحاضر، ومن حيث المتطلبات البدائية للحياة قديماً والمتطلبات المعقّدة والمتطورة للحياة حديثاً في حين أن الإنسان هو الإنسان، والزمان والمكان هما غير الزمان والمكان، ومن هنا يكون عقد المقارنة وطرح المفارقة نوعٌ من القرف الفكري الساذج!!.

وحال الركود الحضاري وشيخوخته لدينا هو تماماً كحال المصاب بالشيخوخة ليس له حديث سوى عن الماضي والحنين إليه، والمستقبل عنده همٌ ليس أكثر.

كما نجد من يركّز على ضرورة مدّ الطرق الحديثة للتخفيف من حوادث المرور، دون أن نسمع من ينادي بتخصيص كلفة تلك الطرق أو بعضها لبناء الإنسان نفسه: إذ هو العنصر الغائب الحاضر في المشكلة، بل هو من أعقد عناصر البناء الحضاري.

كذلك نجد – مثلاً – من ينصرف عن مباحثة الأسباب تعللاً بالقضاء والقدر، مع أن القضاء والقدر يُحتجّ بهما في المصائب – الأمور القهرية كالموت لا الكسبية كالفقر – ولا يُحتجّ بهما في المعائب والأخطاء والخطايا، ونجد كذلك من يبني على وجود الإيمان لدى شخصٍ أنَّه سيُتقن عمله دون النظر إلى مجموعة من الشروط الموضوعية والنفسية والاجتماعية، وحتمية النصر على العدو بمُجرّد التسبيح والصلاة دون النظر إلى الإعداد الصناعي والتقني، وإعداد الكوادر المؤمنة بعدالة قضاياها مما أفضى بنا إلى التواكل وترك الأسباب، مع أن مُقتضى الإيمان يُحتّم علينا الاعتقاد بعدم حقيقة تأثير الأسباب كما يرى أن إهمالها قدحٌ في الشريعة.

إنَّ الكثير من توجهاتنا الحالية هو نتاج تركيزنا على النتائج دون الأسباب، أو لبنائنا نتائج على غير مقدمات موضوعية صحيحة، وهو من مؤشرات الركود الحضاري.

إنَّ كلَّ هذه العراقيل هي نتاج خمود التفكير الجدلي الذي يحكم على الأشياء بالنسبية، ويمتاز بشيوع رؤية التناقضات الذاتية في قراءة الواقع وعدم اصطبارنا على الاستقراء والملاحظة، والاعتماد الكلي على العاطفة والتخمين والحدس، وعدم تقديرنا للمصلحة بشكلٍ دقيق.

الهروب من الواقع بذريعة الجبرية:

إننا نحاول ونحن نصوغ واقعنا أن نلتمس العذر لأنفسنا عندما نُمارس الإسقاط المتعمّد على الآخرين للهروب من مسؤولياتنا بدل أن نتحمّل جزءاً نسبياً منها، وعلى سبيل المثال نجد الأستاذ في المرحلة الجامعية يُلقي باللائمة في تدنّي مستويات طلابه على المرحلة التي قبلها، والأسرة تُلقي باللائمة على المدرسة، والمدرسة تُلقي باللائمة على مناهج التعليم، والتعليم يُلقي باللائمة على العهد البائد والاحتلال.. وهكذا تدور الدائرة.

وقد أثمر هذا التوجّه في نمو الشعور بالجبرية في كل ما يُصيب المجتمعات دون محاولة البحث عن مخرج لما تُواجهه، كما أفادنا هذا السلوك ضعف الشعور بالحاجة إلى النقد الذاتي، طالما كانت مشكلاتنا من صنع الغير، فلا سبيل للنقد ولا سبيل للمراجعة، ولا سبيل للإصلاح والتغيير. ... وللحديث صلة.

     

 

 

 

في المثقف اليوم