قضايا وآراء

قراءة في معلقة "حالة حصار" للشاعر محمود درويش

 تفعيلته الرئيسية (فعولن) وبحر"المتدارك"  تفعيلته الرئيسة (فاعلن)  في قصيدة طويلة بطول الحصار ومتنوعة بتنوع مظاهره ومتلونة صعودا وهبوطا وتتشاكل مع الوحدات الإيقاعية للبحرين أعلاه وهما كل من الإيقاع الثقيل (علن) والإيقاع الخفيف (فا)  وإذ يبادرنا الشاعر قائلا (هنا، ---) فهو إنما يبتدئ بإيقاع ثقيل ومميت كأنه يريد أن يهوي به على الرؤوس الميتة بصرخة مدوية، هذا الصرخة تؤطر إلى حقيقة الفيزيقا السوداء التي يعيشها الشعب الفلسطيني منذ قرن من الزمان، وهو يحارب طواحين الموت والبغضاء والأكاذيب والخراب، يقاتل أخطبوطا شرسا متمرسا خلف أساطير بالية وقوة عسكرية باذخة ومتوحشة وإذ يقطع الشعب الفلسطيني لهذا الإخطبوط  ذراعا تنمو له مائة ذراع وإذ يفقأ له عينا تحل مكانها مائة أخرى، إنها حرب شرسة بين شعب أعزل وقوة غاشمة تزداد ضراوة وعنادا وتمتقع بها الدروب دما والصباحات حكايا وقصصا والكل يتفرج مقطوع اللسان والجنان...

(هنا، ---) التي يطلقه (درويش) في آذاننا مدوية لا تعني المكان لوحده، ولا تعني الزمان لوحده، بل هي صرخة تنطلق من حنجرة فلسطينية صابرة تحملهما معا في قارب واحد أي أنها تمثل " الزمكان" الفلسطيني بصورته الراهنة، وهي ثنائية (مكان – زمان) أو (Time – Space) فالشاعر درويش يكاد يقارع (امرؤ القيس) في طلليته البارعة وهو يرثي دولة كندة وقد صارت في مهب الريح عندما صرخ قبل أكثر من ألف عام قائلا: (قفا ---)، ولما كان (امرؤ القيس)قد أوقف الزمن في حضرة المكان، ليغدو المكان دليلا وكتابا لزمان مضى، وليمثل المكان حضورا لغياب وقع في إساره الزمن مستدعيا الذاكرة لتذرف شجنها وتهاجر لحظتها إلى لحظة أعمق منها دايكرونيا (تاريخيا)، فإن الشاعر درويش إنما يغادر المفتتح الطللي في ثنائية حاضرة تمثلها ثنائية (نقطة – لحظة) أو (Point – instant) مستجلبة من الماضي والمستقبل بوصفهما عدمين (حسب باشلار) ما يوهج اللحظة ويجعلها أكثر حدة ودويّا:-

/ هنا عند منحدرات التلال، أمام الغروب وفوهة الوقت/

 

فالملفوظ (هنا) بوصفه إيقاعا ثقيلا يبتدئ به بحر المتقارب سيجمع منحدرات التلال بوصفها مكانا غير آمن إلى (الغروب) و(فوهة الوقت) بوصفهما زمنين غير وادعين، فالأول (الغروب) هو غرة ا لليل وبداية الوحشة. والثاني (فوهة الوقت) يمثل موتا مؤكدا لتشاكله أو لاستعارته الفوهة بوصفها ملفوظا منتسبا لأسلحة الموت من مثل البندقية والرشاش والمدفع..

إذن فالشاعر يضع القارئ في زمكان غير آمن وعدائي ودموي، والزمكان الرهيب هذا إنما يكشف عن حقيقة شعب يعيش حياته في أرض جرداء وسجن كبير يذرف دموعا وانتظارا ليربي شجرة الأمل.

قرب بساتين مقطوعة الظل/ نفعل ما يفعل السجناء / وما يفعل العاطلون عن العمل/ نربي الأمل/.

 

يسرد الشاعر ملحمته بصيغة الجمع، فصوته مغيب بصوت الجماعة فالأفعال (نفعل، نربي) إنما تمثل صيغة الجمع للمتكلمين وليس المتكلم المفرد، حيث (أنا الشاعر) مندغمة مع (أنا المجموع) حيث يتكلم عن بساتين بلا ظل، وهي كناية لوعود وأكاذيب كثيرة مني بها الشعب الفلسطيني ليجد نفسه محاصرا مسجونا في بلده ينتظر معجزة ما قد تكسر هذا الطوق عنه، ويربي أملا يعيش من أجله... وربما يموت ليبقى دون هذا الأمل المنشود،

وإذ ينتقل الشاعر إلى المقطع الثاني يبقى مستمرا باستخدام  الإيقاعات ذاتها عندما يقول:-

/ بلاد على أهبة الفجر، -----/

 

إنه انتقال من الغروب إلى الفجر، بانتظار النصر، أما الليل، ليل الشعب المحاصر والمسجون في حلكة الأقبية فهو ملطخ بأضواء وأصوات المدفعية، التي ينثرها ببذخ عليه عدو لئيم --- فالعدو هذا ساهر على راحة مسجونيه بصورة يحسد عليها، فهو الذي يشعل النور في الظلام وهو من يطفئه أيضا، هو الذي يحرس وهو من يقتل ويسرق أيضا، إن فعالية هذا العدو بزراعة الموت وإنارة الليل إنما تمثل رد فعل نفسي ليشفي شهوته في ممارسة حضوره المدقع هذا في حضرة ا لضحية، وإذ تنتظر الضحية مجيء الفجر فهو يغذي حصاره ويوسع زنازينه.. ولكن هل هنالك وسيلة لردع هذا العدو وكبح جماحه؟! --- إن الشاعر درويش يتكلم بلسان الشعب عن أنجع طريقة يمكنها أن تفعل ذلك قائلا:-

/ سيمتد هذا الحصار إلى أن نعلم أعداءنا / نماذج من شعرنا الجاهلي/.

 

إن التحدي الذي ينبجس من المقطع أعلاه يحيلنا إلى صعوبة المهمة التي يريد أن يركبها الشعب الفلسطيني ولكنها ليست مستحيلة، ولا نشك قطعا بقدرته في إنجاز هذه المهمة بنجاح، فهو يدرك حقيقة العقلية التي يختبئ وراءها الصهاينة، فهي عقلية مدججة بالكره والتعالي على الآخرين مؤطرة بأساطير سوداء تنضح أكاذيب وحقدا على أبناء الجنس البشري كافة بدون استثناء، إذن، شتان بين عقلية بني صهيون وبين العقلية التي أنتجت الشعر العربي الجاهلي، فهما كالفرق بين ا لظلام والنور، إن ما ينبجس من النصوص الجاهلية أناشيد قلما يجود بها الزمن، أناشيد منسوجة بذهب الصحراء وصدى الكون العميق لذا فالشعب الفلسطيني يراهن على شعره الكوني والغارق في عمق التأريخ  ليتعلم الكتبة اليهود حقائق الجغرافية والتاريخ ولو يحدث هذا سينتهي الحصار مباشرة.

 

راوي كلي العلم

يتدارك الشاعر قصيدته مستخدما إيقاعات بحر المتدارك بتفعيلته المعروفة (فاعلن) مستخدما تقنية الراوي الكلي العلم (العليم) وهو يتكلم عن السماء حيث يجدها ملبدة بالدخان(رمادية)   عند الضحى وملطخة بالحرائق والنيران (برتقالية) في الليل والقلوب في نقطة وسط مابين الحب كوردة مصلوبة فوق السياج:-

/ السماء رصاصية في الضحى/ برتقالية في الليالي، وأما القلوب/ فظلت حيادية مثل ورد السياج/.

 

الشهادة لا تعني الموت المجاني بل هي ولادة جديدة ومطلقة هي ولادة لنيل الحرية وتعني المستقبل، وبقدر ما تدخل السعادة على قلب الشهيد وذويه إلا أنها ترعب الآخر الذي لا يفقه معانيها الروحية والأخلاقية، فالشهادة تعني تأطير الاسم ضمن حالة لازوردية هائلة لا يقربها إلا القلة القليلة.. هذا ما ينطق به آدم الفلسطيني وهو على بوابتها... إذ ينطق على حافتها مناجيا السماء:-

لم يبق بي موطئ للخسارة/ حر أنا قرب حريتي / وغدي في يدي/ سوف أدخل عما قليل حياتي / وأولد حرا بلا أبوين / وأختار لإسمي حروفا من اللازورد/.

 

الحياة هي الوقت

في الحصار تتوقف الحياة عن الدوران وكأن الزمان لا يتحرك، فالثواني، الدقائق والساعات طويلة بل طويلة جدا، الحياة في الحصار ستكون لعبة رتيبة مثل لعبة النرد والدومينو، لعبة تبدأ بالتذكر وتنتهي بالنسيان، الحياة تعني الوقت، وقد تعرى من حقائق الفيزياء، فهي بدون إيقاع وبدون محطات كأنها خط مستقيم يبدأ من الصفر وينتهي في اللانهاية:-

/ في الحصار: تكون الحياة هي الوقت/ بين تذكر أولها/ ونسيان آخرها/

 

عندما يحاصر الإنسان بالموت وبالدخان يكون ألمه عظيما، ترى أي ابتلاء هذا وأية محنة يمر بها الإنسان الفلسطيني عندما يحاصر بالموت الرمادي وهو محاصر على درج بيته وفي الغرف مسورا بالانتظار، ليس لديه سوى الابتهال إلى الله والتسامي لمستوى هذا الابتلاء ولا شك أن نسيان الألم يمثل مرحلة شاهقة لصبر الفلسطيني الذي ضارع في صبره ذلك صبر أيوب (ع):-

/ هنا عند مرتفعات الدخان/ على درج البيت/ لا وقت  للوقت/ نفعل ما يفعل الصاعدون إلى الله: / ننسى الألم/.

 

صراع بقاء وكينونة

إنها معركة بقاء، والبقاء  يعني أن تكون، وأن تكون يعني أن يكون لك هوية وعلما لك ما يدل عليك، وعندما تحصل على ما يدل عليك سوف يكون من المريع أن تفقده، لأن فقدانه يعني الضياع واللاوجود، وعندما تداهمك قوى الشر  تنتابك حالة من الألم العظيم خصوصا عندما تعي هدف هذه القوى الشريرة المارقة، فالألم سوف يكون مريعا عندما لا تمارس سيدة البيت أعمالها وتظل ساهرة كي لا تضيع هويتها من بين يديها، فالعلم الفلسطيني يمثل هوية ويحيل إلى ا لشهيد الفلسطيني الذي يلف به:-

/ الألم، هو أن لا تعلق سيدة البيت حبل الغسيل/ صباحا، وأن تكتفي بنظافة هذا العلم.

 

يرى الشاعر درويش أن العدو لا يريد السلام، بل ما يريده إنما شيء تلهث وراءه شهوة جنرالات حروب مجانين وعواجيز لا يرون في فلسطين إلا طروادة أخرى، وما الدبابات سوى أحصنة معاصرة تشاكل حصان طروادة، وكأن التاريخ يكرر نفسه باختلاف الزمكان:-

/ لا صدى " هوميري " لشيء هنا/ جنرال ينقب عن دولة نائمة/ تحت أنقاض طروادة القادمة.

 

ترى ما الذي تبغيه دبابة عندما تدخل مدينة آمنة، وما الذي يتوسله جندي من داخل هذه الدبابة – هذا الجندي الصهيوني دخل المدينة ليصنع الموت، ولا يرى في الأجساد المتحركة إلا أهدافا عليه اصطيادها واغتيالها، ترى هل هو سعيد بعمله هذا، هل سيعيش فخورا بقية حياته عندما يتذكر هذه الأجساد وهي ترتعش ارتعاشة الموت، إن منظار الدبابة يمثل بالنسبة لهذا الجندي الشقي مقياسا للفسحة بين الحياة والموت... ما أبشع الصياد وهو يغتال الخـُشـُفُ البريئة بدم بارد وما أبشع الجندي الصهيوني وهو يغتال فتيان فلسطين وهم يقيسون فسحة الحياة بفطرتهم وبحدسهم النبيل، ترى من سينتصر أخيرا المنظار القاتل الذي يعشق الموت أم الحاسة السادسة الفلسطينية التي تعشق الحياة؟:-

/ يقيس الجنود المسافة بين الوجود وبين العدم/ بمنظار دبابة/

نقيس المسافة بين أجسادنا والقذائف بالحاسة السادسة/

 

هل الصهاينة اليهود بشر مثلنا؟!!

معادلة مرعبة تلك التي تعيشها البشرية اليوم، وكأن الإنسان قد دخل في أعلى مراحل الوحشية، أو هو على أعتاب مرحلة متقدمة من الهمجية.. ونحن نتساءل عندما نقرأ نص (محمود درويش) هذا: أيعني التطور العلمي للإنسانية أن نقتل بعضنا بعضا، ونسأل أيضا ما الفرق بين الإنسان والحيوان؟ -- قد يقول أحدهم العقل، حسنا ما العقل؟ --- إنه غير موجود عند الحيوانات – ولكننا لم نسمع عن أسد قتل أسدا، أو أرنب قتل أرنبا – أليس الأسد والأرنب حيوانين --؟ ولكن من المؤسف حقا أن يكون تاريخ البشر (العقلاء) ملطخ بقصص من هذا القبيل – ولا شك فأن قابيل يمثل فتى ذهبيا لباكورة الجرائم الإنسانية..

الحجر أول شاهد للجريمة، أما هابيل فهو الضحية الأولى.. إن هابيل المعاصر (الفلسطيني) هو صنو لهابيل الأسطورة.. وها هو يحاول ترويض قابيل الصهيوني ويرمي عليه الحجر، إن الحجر الفلسطيني يرتد الآن إلى رأس قابيل الصهيوني.. ولكن الأسطورة تنقلب أوالياتها.. ليس هذا فقط، بل إن هابيل الفلسطيني يدعو قابيل اليهودي إلى فنجان قهوة.. لعله يشعر بأن من يريد قتله بشر مثله.. إن هابيل الفلسطيني يشك بأن قابيل الصهيوني بشر مثله لأنه ببساطة قد لطخ صباحاته بالدماء والقنابل والحصار، وإن من يلطخ صباحات الآخرين بكل ذلك لن يستحق أن يكون بشرا، وبالتالي فهو ليس حيوانا.. لأن الحيوانات قطعا لا تتشرف بأن ينتمي إليها قابيل الصهيوني:-

أيها الواقفون على العتبات/ ادخلوا/ واشربوا معنا القهوة العربية/ قد تشعرون بأنكم بشر مثلنا/ أيها الواقفون على عتبات البيوت / اخرجوا من صباحاتنا/ نطمئن إلى أننا بشر مثلكم.

 

طائرات أمريكا تلطخ السماء

اليهودي لا يجرؤ على قتل الفلسطيني من تلقاء ذاته.. بل هو واثق أن جرائمه ستمر بدون حساب، ولكن مع ذلك عندما يمرق إلى أرض ليست أرضه فهو يدخلها على دبابة.. وهو يعرف جيدا أن الفلسطيني ليس لديه سوى الإيمان والحجر.. ولكنهما سلاحان مرعبان بالنسبة لليهودي الخائف وغير المؤمن بقضيته، إنه لا يحتمي بالدبابة فقط.. بل يحرص على أن تحميه الطائرات أيضا. فطائرات الأباتشي البريطانية وعائلة الـ (أف 16) الأمريكية باهرة وهي تزرع الموت وتقذفه حمما على فتيان الحجارة.. وعلى طيور فلسطين.. وحماماتها.. إن هذه الطيور والحمامات تخيف اليهود ولديه أمر بإطلاق النار عليها أيضا.. ترى أين تذهب الحمامات البريئة عندما تغير هذه الطائرات المتوحشة في كبد السماء لتحمي الجريمة وتشارك فيها.. ترى بأي نوع من الفخر يشعر الأمريكان وهم يرون طائراتهم تخيف الحمامات وتغتالها، إن الجواب على هذا السؤال تجيب عنه الحمامات نفسها، لأنها تسارع إلى ممارسة حياتها عندما تتطهر السماء من هذه الطائرات.. فتطير في السماء، ناشرة الحياة والجمال والبهاء، فالسماء الفلسطينية وطن الحمامات الوادعة ولم تكن في يوم من الأيام وطنا للطائرات الضارية..إن صورة الحمامات وهي تزركش السماء تبدو حلما عند رجل الشارع الفلسطيني يتمنى أن يدوم هذا الحلم – ويغدو حقيقة دائمة:-

/ عندما تختفي الطائرات تطير الحمامات/ بيضاء، بيضاء، تغسل خد السماء/ بأجنحة حرة تستعيد البهاء وملكية الجو واللهو أعلى وأعلى تطير/ الحمامات البيضاء، بيضاء، ليت السماء/ حقيقة " قال لي رجل عابر بين قنبلتين ".

 

بالرغم من بانوراما الدم الذي يمارسه الجنود الإسرائيليون وكأنهم يتنزهون في غابات ودروب فلسطين على ظهر دبابة، إلا أن الشمس تتنزه على طريقتها الخاصة في هذه الدروب المقدسة ناشرة أشعتها الذهبية ودفئها على الجميع فشجر السرو بسيقانه الباسقة ينأى بالسماء عن الانحدار لتشارك أهل الأرض وحشيتهم:-

/ شجر السرو/ خلف الجنود/ مآذن تحمي السماء من الانحدار، وخلف سياج الحديد/ جنود يبولون تحت حراسة دبابة – والنهار الخريفي يكمل نزهته الذهبية في شارع واسع كالكنيسة بعد صلاة الأحد.

 

يخاطب الشاعر الجندي الإسرائيلي بوصفه قاتلا مع سبق الإصرار والترصد قائلا له لو نظرت بوجه ضحيتك البرية كان الأجدر بك أن تتذكر وجه والدتك التي قتلت في غرفة للغاز أيام النازية، فما الفرق بين أن تكون قاتلا أو ضحية، فليس بالقتل تختار هويتك، ولكن هل يفقه هذا الجندي تلك الحقيقة ولماذا على الفلسطيني أن يدفع ثمن جريمة كان قد ارتكبها الألماني.. إذا كانت فعلا هنالك جرائم حدثت فعلا بحق اليهود في ألمانيا.. لأن الدراسات الحديثة شككت  بحجم تلك المذابح وبدت كأنها مفبركة كي يحتل الصهاينة فلسطين ويطردوا شعبها.. بل ورغم إقرار الشاعر بها كان يطالب الجندي أن يتعض من هولها بدلا من أن يرتكب جرائمه باسمها:-

/ إلى قاتل/ لو تأملت وجه الضحية/ وفكرت/ كنت تذكرت أمك في غرف الغاز/ كنت تحررت من حكمة البندقية/ وغيرت رأيك: ما هكذا تستعاد الهوية.

 

الحصار عند الشاعر "درويش" صنو للانتظار، ولكنه ليس كأي انتظار.. إنه انتظار لا تعرف نهايته، فقد ينجلي عن موت أو عن حياة، فهو انتظار على سلم في عاصفة هوجاء، قد تؤدي نهايته العليا بالفلسطيني نحو السماء أو قد تنزل به النهاية السفلى نحو الأرض.. لننتظر انكشاف العاصفة ونرى:-

/ الحصار هو الانتظار/ هو الانتظار على سلم مائل وسط العاصفة الواحدة /

 

كأس كبيرة تلك التي يترع منها الشعب الفلسطيني في محنته، حتى الثمالة، ما أقسى أن تضعك الأقدار وحيدا في سجن كبير ملبد بالموت، وما أقسى أن يكون هذا السجن وطنك وقد حاصره العتاة.. هم يمنعون عنك كل شيء.. فلا يعود هناك أخ أو جار أو صديق.. ولكن مهلا فهنالك قوس قزح يعود الأسرى والمسجونين في أقفاصهم فلا أحد له القدرة على منعه من إضاءة وتعطير أرواح المعذبين في الأسر، إنه لا يخاف الرصاصات أو القنابل التي يطلقها عليه الجنود اليهود:

/وحيدون. نحن وحيدون حتى الثمالة، لولا زيارات قوس قزح/.

 

ولكن أين الأهل.. وأين الأصدقاء، أين الصحب، مريع أن تكون وحيدا وسجينا.. ولا يهرع لك أخوتك لإنقاذك، خصوصا إذا كان لديك ثلاثمائة مليون أخ يتكلمون بنفس لغتك.. ومليار شخص يدينون بدينك، حقا أية قوة هائلة يمثل هؤلاء الأخوة والأصدقاء، ولكن يبدو أنهم ميتون.. فلا حياة لمن تنادي:-

 

/ لنا أخوة خلف هذا المدى أخوة طيبون، يحبوننا ينظرون إلينا ويبكون/ ثم يقولون في سرهم/ ليت هذا الحصار هنا علني – " ولا يكملون العبارة: لا تتركونا وحيدين لا تتركونا"

 

الحب لا يحرر سجينا من سجنه ولا يردع قاتلا عن القتل، والبكاء لا ينفع شعبا محاصرا – ولكن كيف يستطيع أخوتك أن ينقذوك إذا كانوا هم أنفسهم محاصرين ومودعين في غياهب سجون كبيرة..!!

 

الخسائر الكبيرة

الخسائر متواترة ففي كل يوم يمر يحمل في طياته، خسائر مادية ومعنوية، ابتداء من الإنسان مرورا بالبيوت، وشجر الزيتون وصولا حتى بنية القصيدة وسيمياء المسرحية وإيقاع اللوحة، وبالرغم من أن هذه الخسائر تبدو طفيفة إلا أنها وبحكم التراكم الزمني تتحول إلى خسائر فادحة ومريعة:-

/ خسائرنا من شهيدين حتى ثمانية كل يوم/ وعشرة جرحى/ وعشرون بيتا/ وخمسون زيتونة/ بالإضافة للخلل البنيوي الذي/ سيصيب القصيدة والمسرحية واللوحة الناقصة/.

 

يرى الشاعر ببصيرة لا تخطئ طريقا واحدا يربط ما بين الوطن والمنفى.. فالجرائم التي تقترف بحق الفلسطيني لها هدف واضح يتمثل في طرد الفلسطيني من وطنه إلى المنفى.. ولكن ما حال الفلسطيني في هذا الطريق هل سينجو..؟! وهل سيلاحقه القتلة حتى في منفاه لقتله، لأنه شاهد على جرائمهم.. فهو الشاهد والضحية، الطريق الفلسطيني محاصر بالجهات، والجهات مسميات غير آمنة لأنها تحيل على أمكنة غير آمنة بالنسبة للفلسطيني – فالخيمة الفلسطينية مطاردة ووحيدة في كل آن وفي كل مكان.. إنها تقاتل الجميع، والكل يريد رأسها، وهي محاطة بما لذ وطاب من الأعداء المارقين.. وكذلك هنالك الأصدقاء الذين لا يسعهم فعل شيء.. فالجنوب عصيّ على الريح.. غير قابل للتوهج أو للاشتعال فالفيزياء عاطلة عن العمل إذ ليس هنالك فعل ولا رد فعل.. والغرب شريعة القتلة وهي تفرض سلاما ذليلا على القتلى.. إنها هدنة أموات.. الشرق متصوف بعد أن تشبع بإيديولوجيا الغرب ليدخل مرحلة الأصولية السياسية.. أما الشمال فليس فيه سوى مجمع الآلهة وتجمد دوره بتقدير الحياة والموت فقط وتوسع قليلا في أمور الدين والدنيا.

وبات كلامه مقدسا ويجب إطاعته، إذن فأية صورة مأساوية رسمها الشاعر للخيمة الفلسطينية.. وأي مصير ينتظر الفلسطيني فيها..

/ في الطريق المضاء بقنديل منفى/ أرى خيمة في مهب الجهات الجنوب عصي على الريح/ والشرق غرب تصوف/ والغرب هدنة قتلى يسكنون نقد السلام/ وأما الشمال/ الشمال البعيد فليس بجغرافية أو جهة، إنه مجمع الآلهة/..

 تابع القسم الثاني من الدراسة

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1105  السبت  11/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم