قضايا وآراء

(أولاد حارتنا) …..صراع نجيب محفوظ مع الحقيقة

خمسينات القرن الماضي ولم تنشر الا بعد عدة سنوات، والقصة معروفة للجميع . سردها في (550) صفحة، وأنا كقارئة ولست ناقدة وجدتها دون ادنى شك متراصة، مشوقة وغنية بالشخصيات والاحداث .

لكنه أقحم فيها الترميز لذات الله وانبيائه متيحا لنفسه حرية غير مسبوقة في تحويل الله إلى الجد الاكبر، والانبياء إلى رجال خيرين شجعان أرادوا انتشال الناس من الفقر ونشر العدل، فكانوا لايختلفون عنهم في ارتياد المقاهي والغرز وتعاطي الجوزة واحيانا الحشيشة .

ترميز كان سطحيا لتطابقه إلى حد كبير مع واقع الأحداث قبل الاف السنين، ماحدى به ألى تعريض نفسه للقتل دونما نفع يذكر . مالجدوى من سرد قصص حياة الأنبياء وبهذا التفصيل والتطويل لشعوب مسلمة بغالبيتنا نعرفها عن ظهر قلب؟ فقط ليقول بأننا شعوب مستهلكة من قبل حكامها الجائرين منذ آماد بعيدة؟

فِكر كان بأمكانه اختصاره في الجزء الأخير من الرواية متمثلا بشخص (عرفة) الذي كان يعمل بجد لايجاد مايخلص الناس من شر الفتوات، أجاد في تصوير شجاعته وضعفه المتزامنين حتى نهايته وصولا إلى آخر حدث في الرواية وهو تحول ذاكرة الناس إليه وبأنه سيظل سببا لأمل في النجاة يوما ما من بؤسهم برغم سخطهم عليه في حياته .

لو أنه اكتفى بترميز إحدى شخصيات الأنبياء والتلميح إلى مراده في وصف الشعوب المسحوقة دائما بأنها تتذكر رموزها الشجاعة والقيادية دونما العمل بعملهم والأخذ باسباب نجاحهم وصلاحهم، لتصل فكرته دونما التعرض لأنبياء الاديان الثلاث وبتفاصيل لاتهم القاريء سوى تتبع الأحداث ليخمن - بعد تحزير صاحب الشخصية - ما سيأتي من دور له بعد عدة صفحات، وكأن محفوظ يمتحن ذاكرتنا فضلا عن  استفزاز قناعاتنا المطلقة بديننا ونبينا وربنا الذي حوله إلى رجل مقتدر جبارمقدس ومسخوط عليه  بنفس الوقت  من قبل الجميع .

 

إن كان نجيب محفوظ أراد الترميز ليوصل فكرته فقد بالغ كثيرا إلى الحد الذي كفرّه المتعصبون وحاول قتله المتطرفون، وكان في غنى عن ذلك بكل تأكيد . وبذلك جعلنا نتساءل .. لم َ لم يرنو إلى ترميز السلطة القائمة في عهده أو التي قبلها في أقل تقدير لإظهار ضعف المحكوم وغطرسة الحاكم؟

ألأن خوفه كان أكبر حيث غياهب السجون والتعذيب من قبل السلطة أشد وأقسى لكل معارض وصاحب رأي آخر؟

أو لعل التعرض لذات الله وانبيائه لايثيران السلطة  فكان عليه تحمل وزر عمله أمام رجال الدين والذين لايملكون سطوة الحكومة في طبيعة الحال. هذا هو ديدن المثقفين، يعتقدون بمقدرتهم وحقهم في محاورة الرب والتعرض لأنبيائه لأنهم بشر وبالإمكان انتقادهم فمنهم (أي الأنبياء) من قتل ومنهم من كان ضعيفا ومنهم من تزوج كثيرا . في حين لم يتجرأ أحد من المثقفين على مجرد التلميح في كتاباته عن أي زعيم عربي وترميز الأحداث التي مرت بها الشعوب العربية وما أكثرها جدلا، راجيا إلى أخذ العبر ومستحثا شباب الأمة إلى مثل مرمى نجيب محفوظ في هذه الرواية .

 

لطالما كان المثقفون أعداء رجال الدين والعكس في الغالب صحيح، وظني أن محفوظ أراد استفزاز رجال الدين باعتبارهم وكلاء الها في الارض والمحامين عن حقوقه،  فاتحين أكشاكا على مر العقود يعرضون فيها بضاعتهم، كل مايمت صلة بالكتب السماوية، الانبياء، الأولياء، أتباع الأولياء، مراجع، مفتين، طوائف، إجتهادات، تطرف وانتهاءا بعملهم كمكفرين ومحرضين على قتل كل من يكتب مايسيء للدين بنظرهم غاظينه عن الراقصة الخليعة والممثلة الإباحية والمخرج الذي يروج لأمتهان المرأة ويسوقها كأداة إغراء.

 

ذكي دون خبرة وقت صدور (أولاد حارتنا)، ومهما قيل عن أنه تراجع في آخر أيامه عن الرواية وبأنه أصر على موافقة الأزهر قبل طباعتها ونشرها إلا إنه أهدر جزءا من طاقته وتميزه وابداعه في وقت نحن بأمس الحاجة فيه إلى مفكر وأديب يتحفنا بجديد، يسمو بفكرنا، يحرض انسانيتنا ويعلمنا الحرية الحقيقية .

فالسؤال الملح بعد قراءتي لرواية (اولاد حارتنا) وإن كان بعد صدورها بوقت طويل لأنني من أجيال لاحقة، هو : ماذا أراد محفوظ  ان نستشف من روايته؟

هل بأن الله موجد للظلم كما هو حال العدل؟

هل خلاص الشعوب حقا بالابتعاد عن رموزها الدينية وكل مايمت للدين بصلة؟ مع التاكيد على أنه تعرض للانبياء وليس لرجال الدين في عصرنا؟.

إن كان ما يرنو اليه صوابا، فلأي رمز يمكن للشعوب أن تتطلع  ولم يعطنا البديل؟

هل  شخصية (حنش) مساعد (عرفة) والهارب هي أمل الناس بعد أن يرجع مع اعماله واسحاره؟

إن كان مراده أن العلم والعمل هما ما يؤمنان العيش الكريم للشعوب، فلم يتحقق على يد (عرفة ومن بعده حنش)، شخصيتان لاتتماشيان والمسؤلية التي حملها اياهما ليكونا قدوة كما كان (جبل ورفاعة وقاسم) في أشارة إلى الانبياء (موسى وعيسى ومحمد) على التوالي؟

 

تساؤلات لو أن نجيب محفوظ ظل بيننا لما وجد لها جوابا، وذلك برأيي كان قصوره الأكبر حيث عمد إلى تجريدنا من ايماننا المطلق بالله وبأنبيائه ولم يمنحنا إلا بديلا هاربا وحلا منقوصا  .

وصرح لنا بشكل غير مباشر عدم اقتناعه برسل الاديان الثلاث لعدم جدواها وحبذ لو أن رجلا اخر يظهر لنا يصحح مسارنا وليس شرطا ان يكون تابعا لله .

أليست تلك  توهمات نابعة من احباطات اسقطت بشكل فردي من قبل رجل متحرر الفكر ولايخلو من تعقيد عدها البعض فلسفة وتحليلا كونيا للخلق والخالق؟ 

إن كانت روايته موجهة إلى فئة المثقفين والوجوديين فقد أجاد، وإما إن كانت موجهة للبقية فلا  أظنه اصاب مرماه .

 

[email protected]

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1107  الاثنين  13/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم