قضايا وآراء

ذهنية التحريم من عصر الحرملك الى عصر الانترنت

خاصة اني لا احب التقسيمات الثنائية، جهمهور ومثقفين..، ولكن "ليس في الامكان ابدع مما كان"،

وهل انا الا موصّف للواقع، يشترك بتوصيفه معي الكثير من القراء والكتّاب، اما مسالة السعي لانتشال هذا العقل الجمعي من الظلام الذي هو فيه فهذه قضية اخرى.

 

اذا القيت على القاريء سؤالا، هل لديك عقدة اذا وضعت صورة لزوجتك العزيزة على الماسنجر، كنوع من الوفاء والتذكر الدائم في لحظات الفراق؟ سوف افترض الجواب لا مشكلة! لكن في الواقع اننا نجد انماطا من التفكير في عالمنا العربي، يعتبرون ذلك اختراقا للدين واستنزافا للشرف! هكذا ذهنية التحريم تتوالد من القاعدة الى الهرم، ومن الجمهور الى الفقهاء المتخصصين…

 

كم هو مهم، في هذا المقام، طرح التساؤلات التالية:

كيف نشأت ذهنية التحريم في عقلية الانسان العربي والاسلامي؟ وهل بقوة وازع الدين أم بقوة التقاليد الاجتماعية؟

ما هي الاثار المترتبة- الفكرية والاجتماعية..- على انتشار ذهنية التحريم في ربوع عالمنا العربي؟

ما الميكنزمات الفاعلة في التغيير الاجتماعي نحو المفهوم المخالف لذهنية التحريم؟

 

ورغم ان هذه الاسئلة تستلزم الاجابة عليها بحثا اجتماعيا..، فاني اعتقد ان اجابة السؤال الاول تتعلق بفواعل وتراكمات تاريخية. انني اعتقد ان خباء المرأة تآمر تاريخي من مجتمع الرجال على تجهيل المرأة والسيطرة عليها، بأي حق يرتدي الرجل ما يطيب له، اما المرأة فيجب ان تُقبر في الحياة قبل الممات؟! قد يقول القائل ان المرأة فتنة، اقول ان هذا جزء من منظومة التفكير الجمعي، ومن الذي قال ان الرجل ليس فتنة للمرأة؟ الا اذا اعتبرنا ان المرأة لا شعور لديها، واذا كان التفكير هكذا فانه يمكنني القول، ان هذا جزء بسيط من مسلسل القهر الذي يمارس على المرأة.

 

ورغم دعاوى تحديث واقع المرأة ونزولها الى سوق العمل… فانه في الواقع ما زلنا بمثقفينا وجاهلينا ننظر اليها على انها كائن من الدرجة الثانية، ونمارس الوصاية عليها ليل نهار. ولا يستثنى من هذا لا ارباب السياسة ولا ارباب الدين… ان الفرق بيننا وبين عصر الحرملك، هي في شكلية الممارسات، حيث نساء الحرملك - في العصر العثماني- معزولات في قصورهن، حتى إذا ما أردن شراء الألبسة والجواهر فعادة ما تأتي النساء البائعات إليهن، ونادرا ما كان يسمح لهن بالمغادرة للتسوق برغم مرافقة الخدم الخصيان لهن، اليوم عصر الحرملك قد يكون انتقل الى أنماط التفكير حول المرأة، ما يمكن ان اسقطه على مقولة بيير بورديو " العنف الرمزي" ، فانك اذا قلت لابنتك اين كنت اليوم ولا يقال السؤال ذاته بالنسبة للشاب، فهذا يعني عنفا رمزيا، انك تريدها تلتزم بقواعد المجتمع، رغم تلازم ذلك مع العنف الجسدي.

 

باعتقادي ان مخاض الحداثة/ التحديث يتعسر كثيرا في عالمنا العربي، واحد اسباب هذا التعسر، هو ارتباط الفكر الحداثي بالمستعمر القديم والجديد، حسب رؤية هؤلاء، ولكن ألا يمكن التحديث دون مؤثرات خارجية، لا اظن ذلك، باعتبار ان الانسان كائن مؤثر ومتأثر، ولكن وما المشكلة ولماذا هذه الشوفينية؟ لماذا حين نسطّر التاريخ الاسلامي وعلاقته بالغرب نعبّر بمصطلحات من قبيل الفتوحات والاشعاع الحضاري… اما الاخر فهو مستعمر، غازٍ ثقافي… ولا يسلم من هو في الداخل، والذي يريد ان يخالف العقل الجمعي، من التخوين والتشكيك وفقا لثنائية العدو/ العميل، المنافق/الكافر… انني ضد المستعمر ولكن دعونا من هذه الازدواجية التي تنبع من ذاتية مُحكمة.

 

ولكن اين تكمن معضلة هذه الافكار المنمذجة بين مجتمعاتنا الاسلامية؟ اظن انها تقع في مرمى دعوى امتلاك الحقيقة.انها الحقيقة المطلقة التي تبنتها المؤسسة الدينية، المعرفة الكاملة الشاملة بالواقع والتي لن تدحض مستقبلا!

 

ان الحلاج وقفت له المؤسسة الدينية الرسمية المساندة من اقوى سلطتين، السلطة الحاكمة وسلطة الشعب، لانه تمتم بكلمات غير مفهومة لالباب العقول! قال لهم طلع المؤذن يؤذن ما حكيت اني سمعت لديك العرش بآذاني وحين علم ان القرار قد اتخذ بشان اعدامه! قال لهم شدوا وثاقي وقالوا اقتلونّ حلاج حلاج انت في البلد زاني انا مكتّف وسيف الشرع يلفحني سبيعن مرة..(ديوان الاحلاج، جمع لويس ماسينيون).

 

ولكن صدر البيت الثاني هو بيت القصيد لماذا عبّر الحلاج عن الظلم الاجتماعي الذي تعرض له بسيف الشرع؟ اظنه كان يرمي بذلك الى المؤسسة الدينية التي حلت محل الله..

 

ولعل هذه الحادثة تذكّرني بمقولة أدونيس،في مقالة له بمجلة المواقف بعنوان"العقل المعتقل"،: " اعتقاد الانسان بأنه يمتلك الحقيقة هو مصدر كل قمع" وقد كشف صادق جلال العظم في كتابه ذهنية التحريم ان هذا العنوان، اي العقل المعتقل Captive Mind، مأخوذ من عنوان كتاب، في مطلع الخمسينيات، لاحد الكتّاب البولينيين، شيسلاف ميلوش، والذي كان معاديا للمعسكر الاشتراكي. وقد اجاب العظم ادونيس، بنوازعه اليسارية المعروفة، " الا يرى ادونيس ان لظاهرة القمع في الحياة الانسانية والاجتماعية اسبابا ومصادر اعمق واهم واوسع من مجرد اعتقاد الانسان بأنه يمتلك الحقيقة؟! او ليس عدد الذين اعتقدوا بأنهم يمتلكون الحقيقة ولم يقمعوا كائنا من الكائنات هو عدد كبير في تاريخ البشرية، كما ان عدد الذين لم يعتقدوا في يوم من الايام بوجود اية حقيقية قمعوا بوحشية لا توصف وكلبية لا تجارى هو عدد كبير جدا ايضا في مجرى التاريخ بعينه؟ ".

 

وكان على صادق العظم ان يسعفنا بالشواهد التاريخية لما ساق له بصيغته الانشائية، ورغم،من حيث المبدأ، ان كلمة ادونيس فيها من التعميم ما لا يحتمله البحث الاجتماعي الذي يعتمد على الموضوعية والنسبية والشواهد الامبيريقية…، الا ان كلام العظم قد يكون ذاتيا اكثر منه موضوعيا ايضا، وهذه طبيعة السجال الفكري وصنعة الفلاسفة الذين في بعض الاحيان لديهم القدرة على التلاعب بالالفاظ وحتى احيانا بالمعاني!

 

والالماح الى اولئك الذين امتلكوا الحقيقة ولم يقمعوا احدا، لا يمكن ان يُسعف بالتاريخ، سوى بنموذج الانبياء، وهؤلاء عصيّون على النقد، رغم ان هؤلاء لا يسلمون من العظم احيانا، اما اولئك الذين ما امتلكوا الحقيقة ولكنهم قمعوا بوحشية… فأظن يعني بهم المعسكر الرأسمالي، ببنيتهم التفكيرية التي تقوم على النسبية، اي التي لم تنطلق من اي ايديولوجية، وهذا الحكم الاخير أُطلقه على سبيل الجدل، ومع ذلك قمعوا ومازالوا يقمعون حتى اليوم.

 

واذا اردنا ان نجعل مقولة أدونيس اكثر موضوعية، فاستطيع القول ان الذي يدعى امتلاك الحقيقة المطلقة، من ادواته القمع. وهذه نتيجة طبيعية لانني حين اعتقد انني امتلك الحقيقة فيعني ذلك أن من يخالفني فقد خالف الحقيقة والتي ليس لها جزاء الا الموت او النفي….

 

ومتى اعتقد الانسان ان الحقيقة نسبية فيعني ذلك انه متقبل للتغير والتكيف والتطور… ولا اريد اعضاد قولي بمقولة نيتشه، " الحية التي لا تستطيع ان تغير جلدها تهلك، كذلك البشر الذين لا يقدرون ان يغيروا ارائهم، لا يعودون بشرا "، حيث ان التشبيهات البيولوجية غالبا ما تضع المشبّه في عنق الزجاجة، لانني، باعتقادي، أن المتماثلات البيولوجية لا تنطبق على المتماثلات الاجتماعية في اغلب الاحيان، وهذا هو الخطأ الذي وقع به علماء الاجتماع من المدرسة التطورية او الذين تأثروا بها، انما يبدو لي ان الايمان بالتغيير الديناميكي المستمر لنمط تفكير الانسان هو مقدمة ضرورية لتقدمه.

 

ان ايمان الانسان بالتغيير قد يكون نابعا من قناعة شخصية عركتها الخبرات الفكرية والحياتية، ولكن هذا لا ينفي ان يكون المثقف في يوم ما متعصبا لرأيه وهو يتمتم " ما أريكم الا ما أرى…" وهذا يعود بشكل منطقي الى بشرية الانسان وطبيعة الاهواء التي تنتزعه.

 

لكن السؤال الاهم، اذا اتفقنا، ووفقا لابجديات مناهج العلوم،انه ليس هناك حقيقة مطلقة،ولعل اراء بوبر الذي اطلق ما اسماه ب"العلم الكاذب" لها من الاهمية في هذا السياق، فهل هذا ينسحب على الدين؟ وليس التفكير الديني؟ في الواقع هناك مدرستان، مدرسة تتبنى مقولة ماركس: " نقد الدين شرط كل نقد"، والاخرى تميز بين الاسلام كمقدس وبين الاسلام كمنتج بشري. يقول أدونيس، في مقالة له بمناسبة الثورة الايرانية،: " انا أميز بين ثلاثة مستويات: الاسلام/القرآن الكريم، والاسلام كممارسة تاريخية، والاسلام/المسلمين في واقعنا الراهن. والمستوى الاول هو الاساس والاصل، وليس هناك اسلام الا به وفيه، انه الكل الذي لا يتجزأ، فاما ان يقبل ككل واما ان يرفض ككل. وأزعم ان هذا رأي المسلم الحق. اما المستويان الاخران، فتجوز فيهما التجزئة والنقد، ويجوز ان يكون لكل فرد اجتهاده ورأيه الخاصان".

 

وارى ان رؤية ادونيس، تحتوي على مصادرات وايديولوجيات خطيرة. اذا قلت ان عليّ ان اميز بين المقدس والمنتج البشري، كيف استطيع ان اخرّج نفسي من النصوص الدينية ،التي لا لبس فيها، والتي تقوم على مجتمع الحق والباطل واهل اليمين واهل الشمال…؟ لا مكان لحل المشكلة الا بليّ اعناق النصوص او الانتقائية التي يمتاز بها التنويريون الاسلامويون.

 

يميز نضال الصالح بين المؤسسة الدينية وبين الله كمقدس كحليم كغفور.. يقول: " الفكر الديني بشكل عام قام بتجيير الذات الإلهية لحسابه من أجل دعم تصوره الشخصي لقواعد الحلال والحرام والعقوبات…. أسمع تجويد القرآن وأحلم في دنياه. الله جميل يحب الجمال، حنون يحب أبناءه ومخلوقاته. رحيم كالأم على أطفالها…".

 

كيف لي اذا كنت موضوعيا ان ابحث عن هذا الاله في هذه النصوص التي لا مجال للشك فيها انها تقوم على اسس الفكر المطلق والمعسكرين، معسكر الايمان ومعسكر الكفر… من المحتمل ان اجده ولكن خارج النصوص الدينية! اذن علي أن اخلق الها هلاميا يؤنس وحدتي…

 

ان هذه الازدواجية في الطرح يكمن وراءها عقد سيكولوجية واجتماعية… بحيث يريد الباحث ان يصل الى الحقيقة دون ان يتمرد على هذا المطلق..

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1107  الاثنين  13/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم