قضايا وآراء

الانهيارالغربي وايديولجية البقاء .. ومن هم الوارثون الجدد؟(2)

بينما انحطاط الغرب فعال وحركيactive ومهاجم

واشكالية الشرق المنهار، أنه قد شل عن التفكير، بينما اشكالية الغرب المنهار، أنه مغرق في التفكير باستمرار، ولكن على أسوء ما يكون...

الاأن الشرق المنهار ينام – يقينا - على حقائق ميتافيزيقية وروحية عالية بينما يعيش الغرب- يقينا- على أخطاء متكررة قاتلة ستؤدي بالبشرية حتما الى النهاية بالمعنى ( التوراتي-المسيحي ) انتظارا للمخلص....

       فريتجوف شيون Frithhof Schuon آفاق روحيةPerspectives Sirituelles ص 26

 

تمهيد

ان أزمة العقل و الحداثة وأضضادهما، لم تكن أزمة من أزمات العصرالعابرة –كما يرى البعض- بل هي ظاهرة أصيلة في الفكر الغربي، تركت آثارها على الانسانية، وحفرت أخاديدها العميقة على أرضيات تاريخ البشرية

واذا كنا مضطرين الى التفكيرفي كل ما نعرفه ونعيشه ونحسه ونصبواليه، فاننا مجبرون على التفلسف، فبواسطة الفلسفة وعبرها ساءل الفلاسفة الدين والسياسة والفن، باعتبارأن الفلسفة تتدعي أنها فن التفكيرالمنفتح والمتصل بالعيش ، ومن حيث أنها أيضا بناء للأنساق، وبلورة للأطروحات والحجج والنظريات، ولكنها أيضا تبديد للأحكام المسبقة، كيفما كانت، وللايديولجيات أينما وجدت، ...ومع ذلك، فان نخب الدول المتخلفة المشتغلة والمنشغلة بشؤون التفكيرفي بيئاتها، لم تجرؤبعدعلى خوض غمارأزمة الغرب بكل شجاعة، كما خاض الغرب أمواج البحاراللجية للثقافات والحضارات المضادة له، وجاهد في نسفها بمناهج علوم أناسته التي استحدثها منذ القرن الثامن عشر، وخاصة في علم الاجتماع وفي التاريخ وفي الفلسفة، وفي سائرمعرفيات الغرب بطرقها الواحدية، الجامدة، المجمدة، الوليدة لفكره المركزي في حصرانيته ونفاحيته في ادعاءاته القدرة على تفسير كل شيء بقانون شمال أوحدي، وبانتقاءات ما تزال في معظمها نافذة وفعالة، يتفنن في نقلها نخب عربية آلت على نفسها حمل هذه البضاعة الفكرية علىعاتقها، وعلى عرضها للرائين، فتانة مغرية في أثواب الترجمات العربية المتسربلة بالرطانات الأجنبية البراقة، والتواقة الى نسج شبكة علائق مع جمهورالقراء المتعطشة للمعرفة، كنوع من التواصل الحميمي، واشاعة الألفة والتآلف مع مصطلحاتهم ومفاهيمهم، بغية ايجاد شيعة لهم ومريدين، تمهيدا للاستقطاب الفكري بالأساليب الاستشراقية المداحة للاستشراق والتغريب الرخيصين، مع محاولة بزهما في مغالات هجوميتهما وعدائيتهما لتراث وديانات وحضارات العوالم الدنيا لتصبح أكثر استشراقية من الاستشراق نفسه، وبوقا صداحا للتغريب المعرب و المدبلج

 

أزمة العقل الغربي

واستخداما لمناهج الأناسة الغربية نفسها في التحليل والتفكيك والتخفيض، وبتتبعنا لتاريخ مراحل صراعات العقلانية و اللاعقلانية فى الفكرالغربى منذ اللاتين حتى الآن، مرورا ب شلنغ وشوبنهور و كيركغارد و برغسون و كامو وبيكيت و يونسكو و أرابال فاننا نجد أنها اما أن ترتد– فلسفيا- الى الرؤية (الميثولوجية الاغريقية-التوراتية) القديمة، أوالى منهج وضعانية علم الاجتماع المتأرجح بين العقلانية العلمية والغاية التركيبية ل وغوست كونت و أزيبوف الروسي و ريمون آرون الفرنسي، و روبرت فسيبيت و ليون وبرامسون و هانز وبيتردرينزل بالولايات المتحدة، التي زخرت كتاباتهم بمحاولات يائسة لتحديد هذا العلم المشدود بين الهدف العلمي والهدف التبريري، الذي ما يزال المدافعون عنه يجترون مقولات مؤسسي هذا العلم في نهاية القرن التاسع عشر، ولم يتجاوزوا اجتهادات العشرينات وأواخر الستينات التي وضع أهم ملامحها بيترم سروكين عالم الاجتماع الروسي المولد والأمريكي الموطن، بالرغم من وفرة الكتابات في هذاالمجال منذ أوخرالثمانينات، وخاصة من المدرسة الفرنسية الرائدة في العالم، والمتأثرة بتفكيكيات فوكو ودريدا وليوطار مثل ادغار موران و ألان توران في محاولة اعادة تحديد هذاالعلم، فانها مع ذلك لاتجد بينها اتفاقا، الأمرالذي يدعو الى الاستغراب، ويستثيرالكثيرمن التساؤلات والشكوك، اضافة الى أن التجارب الميدانية لهذاالعلم، لم تقدم أية حلول ناجعة للمعضلات الاجتماعية لا في داخل الغرب ولا خارجه، اللهم الا اذا كان توصيف الحالات وتصنيفها حلا، فهذا أمرآخر-

وهذا يعني ان كل العلوم الاجتماعية ماتزال علوما تتساءل عن ذاتها رغم مضي حوالي قرنين على نشأتها، ومن ثم فكلما توغل المشتغلون بها في استكشاف الشيء، يتساءلون عما يفعلون أم أن هناك قصورفي النظرالى العالم؟ - حسب تعبير ريمون آرون في كتابه ثمانية عشر درسا عن المجتمع الصناعي

وفى كل الحالات، يتحول العقل في -علوم الأناسة الغربية- الى أداة ومجال للتلاعب به ومعه وبواسطته حسب مقتضى الحال، وكلما غلب على مفكر ما هوى من أهوائه الا والتفت الى العقل يلوى عنقه لكي يعصر منه ما يوافق مطمحه وميوله، والغرب في هذا المنحى أمين مع نفسه، أوليس هو تلك البلاد الأسطورية التي تولد فيها الفلسفات مع حلول كل مساء وفق تعبيرأبو الفلسفة المعاصرة هيدغر؟ (انظر Martin Heideger Qu’est qu penser penser ص 120

 

وكم تنقل الغرب عبر مساره الفلسفى مع عقلانيته فى صراع مستعر، من صورية العقل الى خارجيته، ومن ثباته الى برودته، ومن حتميته الى نظره، ومن مثاليته الى ماديته، مرورا ببورجوازيته وتبريريته، فانتصاره، وصولا في النهاية الى انهزامه، ثم عودا الى صرامته، ومشوشا عند اكتشاف حدسيته، ثم سقوطا من جديد في أزمته، وهكذا فى دوامة من الدوران التشويشي، تصيب الباحث المنقب عن حقيقة العقل الغربي بالدوار، مما يبعث على الحيرة والشك وعدم اليقين...ولايزال العقل الغربي يبحث عما يسميه بالطريق الثالث منذ صيحتي عمانويل كانط في عامي 1784 و1793، الأولىعندما أعاد طرح ذات السؤال الفلسفي القديم ما هو التنوير؟ والثانية ما هو الانسان؟ تلك الصيحة الخطيرةالتى أسماها مارتان بوبر بناقوس الساعة الخطرة الأنثروبولوجية حيث مايزال هذين السؤالين، يعاد طرحهما طيلة قرنين بصيغ مختلفة بدءا من هيغل الى هوركهايمر وهوبرماس مروروا بنتشه و ماكس فيبر وكأن الفكرالغربي لم يجب عن هذين السؤالين منذ أن كان فكرا .....، وما من فلسفةغربية جديدة تولد، الا وتواجه ذات السؤالين

 

 وهكذا- بمفارقة غريبة - نجد أنه ما من صيحة من صيحات الغرب (دينية أولا دينية أوعبثية أو عدمية أو وجودية أو عقلية أولاعقلانية او أخلاقية او لا أخلاقية، الا ويتم التعبيرعنها بشكل عقلانى صارم ممنهج، حيث يدرك كل الهاربين والمتملصين من صرامة العقل في الغرب- أنهم منه هاربون، ولكنهم الى نوع من العقل اللاعقلاني هارعون وآيبون، كما سماه كامو أومحتمون بمكرالعقل أوخداع العقل حسب هيغل او متبرجون بسوء الطوية حسب سارتر

 

وبالنظر الى أن الكلمات والمصطلحات الفلسفية اذا انتزعت من سياقها، فانها تؤول الى بطاقات، وتصبح مثل اللقيط بدون نسبة ولاحقيقة، ولذا، فقد سرت هذه لنزعة–التناحرية بين العقل و اللاعقل الى كل مجالات الكتابات والابداعات الفنية على مدارأكثر من قرنين، حيث صارالمعقول واللامعقول في الابداعات الفنية، مثل الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والمثالية والانسانية والرمزية والطبيعية والتعبيرية والانطباعية والوجودية والعدمية والميتافيزيقية، والتجريدية والسريالية والعبثية، التي انطلقت في أسواق الابداعات اللفظية والتشكيلية بشهادات مزورة يأخذ منها حاجته كل متخفف، أو متخوف ومتفزع عن حمل الصراع المرير للعقل واللاعقل ..

وأمااليوم، فان المثقفين الغربيين من ضحايا هذه الصراعات الفكرية، الذين عرفوا جحيم العالم الحديث وذاقوا مرارة زئبقية الحقيقية بمنظورات هذه الفلسفات المتناقضة، يهاجمون علىأنهم متشائمون وسودايويون، ومرعوبون، ومزاجيون ومهمشون ومعتوهون ومنذروهلاك.

 وقد أفرزهذا الواقع الفكري المرعب والمرتبك  المتكرر)، أوضاعا دولية مشوشة متوالية، عكست ضرورة اللجوء الى الحروب (ولم يحل الغرب أية معضلة انسانية في تاريخه الطويل حتى داخل أوروبا منذ ما قبل مسيحيته الى ما بعد تنويره الا بالحروب المدمرة) وتضخم الأزمات المالية، وتعملق البطالة الكاسحة، وتنامي الجشع الاستهلاكي، والتمزق الاجتماعي، مع تزايد ذيوع كل أنواع الانحرافات وتجميلها-عبروسائل الاعلام-باشاعة هسترات فنون و ثقافات الرفث والخنا كل الأشكال الايروتيكيات الوردية الجديدة باحياء القديم منها، واستحداث الشاذ منها باسم ملكات الغرابة وحرية التعبيروقدرات الابداع، بالخروج عن المقدس و المألوف والمحذور الممنوع والمحرم و التابو الأمرالذي أدى الىان يتحول النموذج الغربي بكل تضاده الى أودية رهيبة تذكرنا بقولة هايدغر المشهورة قبيل موته في الخمسينات الى أن يقررمذهبه بقوله الحياة اليوم بداية الموت، والحياة ليست الا الموت عندما ساد على الحياة المعاصرة حال الروح الغامضة المظلمة التي تخرج منها الأنياب والأضراس التي أفزعت الرومانتيكي الألماني الكبير فون كليست الىأن يستجيزلنفسه أن يقول كان خيرا لأوروبا أن تنسى فولتيرفي سجن الباستيل ون يحبس روسو في مستشفى المجانين

وفي هذه الثلمة الخطيرة بدأت تعود الى الساحة الفكرية في الغرب شعارات وصيحات بيان قصور العقل الغربي ومآسيه على البشرية، وعجز معاييره، بالدعوة الى طرق أخرى للمعرفة، أي من المعرفة الى اللاوعي، ومن المنطقية واللامنطقية الى غيرهما، بعد أن ثبث عجز العقل الغربي الكلي في ايجاد الحلول للازمات كبدائل عن انتهاج الحروب والتدمير والابادات، وقصوره عن الايغال في المسائل الكبرى المتعلقة بالمعنى الكوني للأشياء والكائنات، بحيث عاقه أن يتولى الحياة الروحية للبشر بالتوجيه والهداية، وقد يتأتى للعقل الغربي أن يقيم حقائق على أسس يعنيها ولكن أحوال هذه الحقائق وطبيعتها مغايرة لمعقوليته ومنظوره، ومن حسن الفطن–هنا- ازاحتها واجتثاتها

 للموضوع صلة

 د.الطيب بيتي العلوي.. باحث أنثروبولوجي بباريس

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1107  الاثنين  13/07/2009)

 

في المثقف اليوم