قضايا وآراء

الشاعر جبار عودة الخطاط و قصيدة (اليها)

إذ نحن بهذا شئنا أم أبينا نعترف بأن الوزن والقافية هما قاعدتا الشعر وقانونها الأساس، فالكلام المرسل غير المقيّد بهما هو النثر. كما أننا ندخلها في معادلتي الشعر والنثر لتضيع بينهما، فتصبح لا هي المضاف ولا هي المضاف اليه، فتقع بين بين! إنها قصيدة تخلّت عن آخر قيد من قيود الشعر بمفهومه المنهجي الكلاسيكي العمودي، وهو الوزن والقافية الواحدة بعد تخلي شعر التفعيلة (الشعر الحر) عن التفعيلات المتوازنة متعادلة العدد وعن القافية الواحدة. والموضوع يحتاج الى بحث ودراسة ليست هذه القراءة بصددها .

 

نفتح لهذه النصوص المتفجرة من تجارب ومشاعر ومعاناة أبوابَ العينين ومداخل النفس المتلقية لنحاول الغوص في أزقة تجربتها المعبّر عنها بأحاسيس الشاعر وكلماته وصوره ومُترجَماته الروحية، لكنّ القليل منها تُشرع هي لنا مغالق الأحاسيس لتنساب بشفافية وسلاسة دون عائق من جمود أو جفاف أو غموض وتعقيد داخل أروقة النفس فترفع غطاء المعايشة لتفجّر الذائقة بنصال تأثيرها الحسي التلقائي النابع من قيمة التجربة والقدرة الشعرية الفنية في ايصالها الى المتلقي مدعومة بموهبة حقيقية مختزنة في روح المبدع الذي خطّتْ أنامله من خلال توقيعات أحاسيسه طُرُقَ فضاء القصيدة للوصول الى مكامن نفوس المتلقين، وبمقدرة يدلّ عليها خَـلقُ النص.

 

المتابع لقصائد الشاعر جبار عودة الخطاط الفصيحة، فهو شاعر شعبي بذات المستوى في فصيحه، يلقى نفسه في عالم  فني مبدع تشهد له فضاءات القصيدة المتنوعة الصور واللوحات التي يجمعها إطار الوحدة الموضوعية المُفترَض توفرها في النص، وحدة في التجربة، ووحدة في المضمون، ووحدة في الاحساس، ووحدة في الايقاع الموصل للتأثير المهدوف في المتلقي. هذه التشكيلة اللاحمة لمديات القصيدة هي العنصر الذي يشي بنجاح النص وتمكن وقدرة صاحبه من فنه وأدوات هذا الفن، وخلف كواليسه موهبة ناتجة وسعة ثقافية في مفهوم الفن المُبدَع المنتوج كلمةً أم لوحةً بصرية.

 

وهنا نحن في قراءة تحليلية لفتح عالم شعري لنصٍ مُنتَج لشاعر مُنتِج مُبدع في لونه الفني لغةً يتجلى متمكناً من استخدامها واعياً لمدياتها ودلالاتها الفنية والتصويرية والمجازية، وهي قصيدته (إليها) التي يبدأها:

 

(1)

 

لأنها

بعيدة

وقفتْ

على أطراف

علامات استفهامي

تسوّرتْ حروفي   

 

إنه هنا في هذا المستهل، البداية، يرسم لنا الصورة بأنامل الكلمات ليضع أمام ذائقتنا واحاسيسنا وعواطفنا ما يستثير فيها التجربة لحظة نحتت تخطيطاتها في نفسه وقلبه وروحه. نحن أمام  لوحة مرسومة بدقة الحرف لحالة معاشة بدقة المشاعر المستثارة: فتاة بعيدة، شاعر يغرق في استفهامات، هو عاشق مذهول أمام المعشوقة الواقفة على مسافة بعيدة، يحترق بلهيب الأسئلة التي يعبّر عنها بصيغة وصورة علامات استفهام، والاستفهام بالطبع عن الواقفة على البعد، نفهم ذلك من خلال وقوفها على أطراف العلامات، تسوّرت المحبوبة حروف الشاعر بمعنى أنّ الحروف هي المأسورة التي تشتغل على أن تنفجّر لتعبر عما في روح الشاعر من مشاعر الاضطراب والتوق والشوق. إنها آسرة لبِّه  بحيث تسكن شعره الذي هو مرآة ما في روحه وقلبه. فالشعر روح الشاعر في رسوم الكلمات والجمل والمضامين والصور. شاعرنا هنا فنان تشكيلي ينقل الينا لوحة ذاته المضطربة بمشاعره من الرؤية البصرية الى الرؤية بالكلمات أي الابصار بالحس. يستطيع أي رسام بالريشة أن ينقل هذه اللوحة الشعرية الى لوحة على القماش بكل ألوانها وتلويناتها وما خلفها من أحاسيس تضطرب بما في القلب.

ويستمر الشاعر جبار عودة الخطاط لينقلنا في سِفر العواطف وعلى أجنحة الرغبة المشتعلة عبر فضاء الترسيم الداخلي لما أحسه لحظة وقعت عيناه عليها:

 

أردتُ أنْ ..............

 

هنا يدفعنا نحن المتلقين لنقف على أطراف علامة الاستفهام الذي يثير فينا محاولة استنباط ما خلف الارادة هذه:

ماذا أراد ياترى؟!

فنستغرق في البحث عن جواب .... فهو بدلاً من أنْ يمنحنا الاجابة لنستريح يتركنا نفتش عنها بأنفسنا في ظلال القصيدة ومضمونها وتجربتها الحسية لنضطرب معه، وليضعنا في أجوائها مشاركين في التجربة بالاستقصاء الحسي والاكتشاف الداخلي في دروب النص، وإلا لخرج النص من الشعرية الى النقلية الحدثية بمفهومها الروائي، أي الرواية عن حدث. القصيدة هي اثارة اسئلة، فاذا كانت اجابة عن اسئلة خرجت من الشعرية لتقع في جمود النص البحثي التفسيري. فليس من مهمة الشاعر أن يروي ليفسِّر فيقول: حدث كذا  بسبب كذا، بمعنى أنه لا يعطينا النتيجة والسبب، إنما يضع أمامنا التجربة ونتائجها في شرخ الروح واثارة القلق والاضطراب في النفس. هو ينقل الصورة مثلما وردت في روحه وفي ثوب من الكلمات والاحاسيس، ويترك للمتلقي المعايشة معه داخل النص. وشاعرنا جبار عودة الخطاط ترك لنا هذه المساحة من الغوص في بطون ما خلف النص لنلتقي بالجواب بأنفسنا، فيستمر قائلاً:

 

فهويت

من آخر السطر

لأسقط

بين أسنان سينها الباشطه

بعدئذ فقط

أيقنتُ إن السين

من حروف العـله

 

هنا يشير ربما الى الحرف الأول من اسمها حين سقط بين اسنان سينها ليتيقن أنه السين من حروف العلة، اشارة الى انه معلول مريض بحبها، إذ جعل حرف السين الصحيح حرفَ علة ليرمز الى أنها سلبتْ لبه وأثارت رغبته وهيّجت مكامن مشاعره وعواطفه الفياضة بالحب. وفي ما نقرأه من اسلوب في التصوير ونقل الاحاسيس شاهد على مقدرة الشاعر التعبيرية وحذاقته ومهارته في التلوين الشعري لايصال التجربة بكل أدوات التأثير المأمول في النفس المتلقية.

 

وشاعرنا في هذه الصورة التي يخطها لنا بكلماته ومجازاته يحيلنا الى فنه الخطي منطلقاً من موهبته ومهنته خطاطاً فيشتغل على استخدام الحروف في الاشارات الايمائية في رسم اللوحة السايكوشعرية في ظلال الحروف الموحية بالحالة المعاشة التي خلقت القصيدة وأجواءَها: السين، حروف العلة بما تمنحه من اختيار حاذق للتورية عن المرض بفعل ما يحياه الشاعر من تجربة مُرّة. وفي اشتغال ماهر لايصال عالم ما في الذات الى عالم القارئ النبيه المشتعل بالفعل التجاربي للعملية الابداعية الناقلة لهموم ذات الشاعر ووحي التخييل الكامن خلف النص.

 

إذن ماالذي أراده الشاعر؟

هو الاستفهام الذي ألقاه فينا لنبحث عن جوابه، فنجده من خلال تصويره لحالة الذهول الذي أصابه وهو يراها: إنه رغب في تقبيلها:

 

(2)

حين تنتصب المسافات

جسراً من سكين

 وتقـشر عيون القـُبـله

 يذوي

 قـّداح الوجنات

 

فالمسافات بينهما حين تقف حائلاً مثل جسر من سكين اذا مرّ فوقه غرز حدَّه في قدميه ليجرحه وينزف دمه فيثير ألمه ومعاناته. وهنا تعبير عن صعوبة الحصول على قُبلةٍ يشتهي أنْ يضعها على وجنتيها.

 

اشتغال الشاعر على نقل مشاعره ومعاناته عبر قصيدة هو فعل حسي تتداخل فيه مجموعة عناصر تقودها الموهبة الحقيقية مدعومة بالتخييل واللغة وما خلف روح الشاعر من اكتساب ثقافي شعري وما يختزنه في فعله الابداعي من مؤثرات تدفع باتجاه اختيار المفردة المعنية بالايحاءات والتشبيهات والمجازات والاستعارات. وفي كثير من الحالات تكون لحِرفة الشاعر تخطيطاتها على نصوصه. وهذا ما نكتشفه في قصيدة جبار عودة الخطاط المعنية بقراءتنا هذه، كما أشرنا: (علامات الاستفهام)، (تسورت حروفي)، (سينها)، (حروف العلة). فنحن ماضون مع فنان خطاط شاعر ورسام ماهر باليراع والكلمة:

 

(3)

إمنحيني

(باسويرد) روحك ِ

كـي

     أدخـل

        الى قبو

                العسـل

 

يبحث الشاعر عن كلمة السر الكامنة ليلج الى قلب المحبوبة فيتمكن من انتهال اللذة والحلاوة مشاراً اليهما بأقصى وأشدّ مادة حلوة وهو العسل. وفي هذا الايحاء والترميز في الدلالة على الحيرة والاضطراب والتساؤل المُرّ لا يستطيع  شاعرنا المبدع إلا أن يلتقط ايضاً الحروف لتصوير الحالة المعاشة (باسوورد) بمعنى الشيفرة، والشيفرة تقوم على مجموعة حروف أو أرقام، والخطاط يعتمد في فنه ومهنته على تشكيل اللوحة بالحروف والأرقام.

 

ويمضي بنا الشاعر الماهر الخطاط لنحبس أنفاسنا ونشرع نوافذ ذائقتنا ونفتح أبواب قلوبنا وعلى ريشة أنامله الشعرية الناحتة في اللغة وبلاغتها الواسعة الأرجاء المزهرة الأنحاء والمضيئة الأجواء حين يتصدى لاستخدامها بفاعلية فنان مقتدر مثله:

 

(4)

حين عرفتك ِ

عرفت إن كل سنيني الماضيه

نخالة هواء

 

حين عرفها امتلأت رئته بهواء الحياة في فضاء دنيا العشق، وهو الذي كان لا يتنفس هواءاً إنما نخالة هواء، والنخالة هنا استعارة حاذقة للإيحاء بالجمود والشظايا والرماد. فالنخالة هي فتات الخشب وهباؤه، اشارة الى اللامعنى والبقايا التي تطير في الهواء مع الريح أو تحترق بسرعة إذا لامستها النار. 

 

ويظلّ الشاعر يأخذنا على جناح قصيدته بانسياب هادئ وهائج في ذات الحالة لنطير بين عوالم لوحات القصيدة التخطيطية والتصويرية، وبالاشتغال عبر مساحات البلاغة المتغيرة وفق ايقاعات العصر وتداعياته التعبيرية مثل تداعياته التقنية والثقافية، وبالأسلوب الحداثي المفروض في منْ يعمل في اطار ما نسميه قصيدة النثر. فيستمر شاعرنا في رسم ما يهتاج في داخله من عواطف تقود عملية الخلق الشعرية:

 

(5)

 بين الِقبلة

 والقبُـلة

    خيط سرّي

 يمتد

على مسافة صلوات

 فيروزيـه

    تعرج

      قاب قلبين

              أو أدنى

الى ملكوت رب ٍ

         جميل

     يحب الجمال

 

فهو يقتبس من حديث نبوي شريف (إنَّ اللهَ جميلٌ يُحبُّ الجمال) ليضفي صفة الجمال على عالم الحبّ بمفهومه الرقيق الشفاف الذي يقود القلوب باتجاه الغرق في نبعه الفرات الجميل اللذيذ الذي ليس أمّـاراً بالسوء مثل فعل امرأة العزيز مع يوسف الصديق. لأن الله جميل فكل جمال مشاع إذا ارتدى رداء الخير والعاطفة الصادقة. وقد وُفّق بلاغياً وشعرياً في استخدام الجناس التام (القِبلة والقُبلة) للدلالة المضمونية في تصوير الحالة الشعورية ليوقع في النفس الأثر المطلوب. فالقِبلة للصلاة، والقُبلة في الحبّ وهي توجه للتعبير عن المحبة والخشوع لحالتها مثلما السجود باتجاه القبلة خشوعاً في محبة الله عزّ وجلّ. فكلاهما حالة استغراق في الحبّ الهياً وانسانياً. والله خالق الانسان وخالق الجمال، فقد خلق سبحانه وتعالى الانسان في أحسن تقويم، والعشق تقويم جميل وضعه سبحانه في البشر آيةً من آيات خلقه العظيم ليحبَّ الناس بعضهم بعضاً، وللدلالة على أنّ الله جميل يحبّ الجمال.

 

ويمضي بنا الشاعر في سِفره الابداعي الجميل ليصل بنا سالمين غانمين بذائقتنا ومعايشتنا معه الى خاتمة مطاف اللوحة الشعرية المخططة بالحروف والمرسومة بيراع القلب والمحفورة بإزميل الروح المتأججة بالشوق والتوق لنيل ما تبتغي الحيازةَ عليه:

 

(6)

تعالي

نحفر

 بأهدابنا

نفقا

يربط

بغداد

 بـعـّمان

لتشتعل جذوة الحياة

 

 

وهنا نكتشف لماذا الاشارة الى بعد المسافة بين الشاعر وبين الوصول لاطفاء جذوة الحريق المشتعل داخل قلبه وروحه وهو التائق الى رسم قبلة على الوجنتين الحمراوين قداحاً فائحاً بالعطر ليملأ عالم روحه بشذاه.

 

الشاعر المبدع جبار عودة الخطاط، الذي لقّب نفسه بالخطاط نسبة الى مهنته، هو شاعر خطاط بالحروف، رسامٌ بالكلمات، حداثي البلاغة في الأسلوب، مترامي الأطراف في فضاءات القصيدة اللوحة والنص التخطيط  المرسوم بدقة ريشة الفنان الحاذق في صنعته شعراً وخطاً. وهو بالتأكيد من الأسماء الشعرية المتميزة في عالم الشعر العراقي وبستانه الزاهر العامر بالثمر الجني الحلو المذاق، فالعراق حقاً شعراؤه بعدد نخيله، وسيبقى.

 

عبد الستار نورعلي

السويد

الجمعة 5 حزيران 2009 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1107  الاثنين  13/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم