قضايا وآراء

لقصة الزهايمر مع (آيريس) معنى عميق

لا شك أن "آيريس" فيلم شديد التألق. و إنه من الأقوال الشائعة أن دينش موهوبة (اقرأ مقالة " ملكة الممثلات " للناقد السينمائي جون لاهر المنشورة في نيويوركير – عدد 12 كانون الثاني).

فأحد التقارير يذكر أنها لعبت أدوارا شكسبيرية لا تنسى و شاركت في مضمار الدراما الحديثة، و من ذلك على سبيل الذكر آنيا في " بستان الكرز " لتشيكوف، و السيدة براكفيل في " أهمية أن تكون إيرنيست " لوايلد، هذا بالإضافة إلى أفلام تلفزيونية و مسلسلتين كوميديتين. و أدت جودي أيضا و ببراعة دور إليزابيث الأولى في " شكسبير عاشقا " (2) و دور الملكة فكتوريا في " السيدة براون " (3).

و يعتبر العرض الذي مثلت فيه دور آيريس مرداك (4)، الروائية و الفيلسوفة البريطانية الراحلة التي انحدرت بها المقادير إلى مرض الزهايمر، إنجازا توجت به مسيرتها المهنية.

لقد استند سيناريو " آيريس " على مذكرات زوجها جون بايلي و التي كان عنوانها " إكراما لآيريس "، و فيها تحدث عن حياتهما المشتركة. لم أشاهد من قبل فيلما يتحرك إلى الأمام ثم إلى الخلف بهذا القدر من البراعة و المرونة. قامت بدور آيريس و هي في شبابها كايت وينسليت (5)، التي استحقت الترشيح إلى جائزة أوسكار عن جدارة. و قد مثل دور بايلي الشاب هيو بونيفيل الذي خذلناه و لم نرشحه لأوسكار مماثل. أما الأستاذ بايلي الطاعن بالسن فقد أدى دوره جيمس برودبينت في تشخيص مؤثر.

كانت دينش التي قامت بأعباء تمثيل دور آيريس و هي تحتضر، و كان لها من العمر 67 عاما، تعتمد بشكل مطرد على قدرات العين و التعابير بالقسمات، و هو أمر نجحت به على المستويين الواقعي و التصوري الأخاذ.

أما رموز الفيلم : الغطس في الماء، اللغة، الذكريات، أواصر الصداقة، لغز استغراق المرء مع حياته الشخصية، فقد كانت قوية، و في نفس الوقت مراوغة و ليست شديدة الوضوح. إلا أنها خدمت موضوعة الفيلم الأساسية حول الإيروس و الثاناتوس (6).

في إحدى المحاضرات التقيت بأستاذ عجوز (في الواقع ربما هو أكثر شبابا مما أنا عليه الآن) و قد اقترح على الحاضرين الانضمام إلى احتفالية موسيقية أو مسرحية أو إلى معرض فني، و قال لنا بالحرف الواحد : من الأفضل أيها الأبناء أن تشتركوا بذلك النشاط إذا شاء الله .

و هذه إحالة منه إلى ميزانيتنا و الحدود التي يسمح لنا بها البرنامج.

إذا، حسنا، من الأفضل أن تهموا لمشاهدة فيلم " آيريس " إذا شاء الرب. بعض المشاهد تتعرض لمسألة العري و التعابير الجنسية، و هي بذلك تضيف عنصرا جديدا إلى موضوعة الفيلم عن الحياة و الموت.

و بشهادة أحد النقاد إن " دور آيريس تم تمثيله بامتياز، و أنت بحاجة إلى فترة من الزمن قبل أن تدرك أنه كان فيلما عن وباء آخر خاص انتشر هذه الأيام و لكن، ربطا، مع قصة حب ".

هذه النعوت لا توفي الفيلم حقه من الثناء.

فالزهايمر ليس مرضا وبائيا آخر انتشر منذ حوالي أسبوع، و ذلك ببساطة لأنه ليس مرضا مختلفا و حسب. لقد أصبح كناية عن انهيار كل ما هو بشري في حياتنا، و أنا أتحدث هنا من منظور روحاني. إن آيريس " ليس عبارة عن فيلم تسجيلي تسنت له قدرات استثنائية. يسأل جون الشاب آيريس الصغيرة في الفيلم : أنت تعقدين علاقة غرامية مع الكلمات، أليس كذلك ؟.

فترد عليه بقولها : الكلمات هي الطريقة التي يفكر بها المرء.

بالضبط.

لو أن هناك حاليا " ملكة للعلوم " ذات سلطة عليا في الجامعات (و هذا بهتان ثيولوجي تنفيه تجربة عمرها تسعة قرون) لكانت جدلا الألسنيات. فاللغط يعلو و ينخفض في عدة حقول معرفية حول ميزة اللغة و التي هي أكثر أهمية بين أفراد الجنس البشري.

و لكن خلاصة القول إن ما يؤهلنا لنكون بشرا بالفعل يعود إلى نقطة تحول في سلم التطور حين اندمجت الأفكار مع المفردات.

يقول جون، في سياق حديثه عن آيريس التي انحدرت إلى هوة عميقة من مرض الزهايمر : كانت الكلمات تعني كل شيء بالنسبة لها.

إن الكلمات تعني كل شيء لنا جميعا أيضا.

و التأملات الثيولوجية الراهنة تؤكد على أهمية اللغة في وجود الإنسان. و الفكرة الإنجيلية عن ازدواجية الصورة في الحياة البشرية يمكن تفسيرها كما لو أنها تمثل قدراتنا على الكلام ثم التوظيف الإبداعي للمحادثة – التفكير.

نحن مثل الله، بخلق المفردات التي نتصورها نعكس مرآتيا وقائع حياتنا الجماعية.

و لكن الزهايمر يرمز إلى ردم الصورة الإلهية للرب التي تنطوي عليها مخلوقاته.

و هذا يفسر بالنسبة لمعظمنا لماذا كان الزهايمر هو التحدي الخطير الأهم المسلط على رقابنا و ضد المغزى العام المناط بنشاطاتنا في الحياة.

على ضوء ذلك يصبح الزهايمر هو الشكل المرعب الذي يمكن تصوره عن الموت، لأنه موت نوعي يدركنا و لكن قبل أن توافينا المنية. و أعتقد أنني لست وحدي في مضمار هذه الأفكار الكارثية.

إن كل من يقوم برعاية أحباء له مصابين بالزهايمر، يجب تذكيرهم أننا نبذل لهم الرعاية حتى لحظة النهاية، فقد أخذنا على أنفسنا ميثاقا بهذا الخصوص، و به نحفظ لهم كرامتهم بالمستويات الممكنة. نحن نمحضهم الرعاية، كما فعل جون مع آيريس، كي تبدو الحياة البشرية في صورة تليق ببني بالبشر.

 

..................

* هوامش المترجم :

1 – جودي دينش (1934 - ؟) : ممثلة إنكليزية تلعب أدوارا كلاسيكية و أخرى معاصرة. حصلت على لقب الزمالة التقديري من المؤسسة البريطانية عام 1988 .

2 – شكسبير عاشقا : فيلم من إنتاج عام 1998، حازت به جودي دينش على جائزة أفضل ممثلة ثانوية من الأكاديمية السينمائية.

3 – السيدة براون : فيلم من إنتاج عام 1997، ظهرت فيه جودي بينش.

4 – و هي الروائية آيريس مردوخ طبقا لترجمات متعددة ظهرت في بيروت. اسمها الفعلي آيريس جين مرداك، المولودة عام 1919 و المتوفاة عام 1999. مسقط رأسها كان في دبلن – إيرلندا. و أول مؤلفاتها هو (سارتر العقلاني الرومنسي) الصادر عام 1953 . من كتبها الناجحة أيضا : الميتافيزيقا كدليل للأخلاق : تأملات فلسفية، صدر عام 1992 . أما أول رواياتها فهي (تحت الشبكة) و هذه صدرت عام 1954 . و فيها ظلال باهتة من وجودية عبثية و غير منتمية، حيث أن شخوصها يكتشفون الواقع و الحياة من خلال تأملاتهم و تجاربهم. من أهم أعمالها الأخرى : الفتاة الإيطالية (1964)، البحر - البحر (1978)، و حازت بها على جائزة البوكر. ثم الفارس الأخضر (1994)، و سواها... توفيت تحت العلاج من مرض الزهايمر في الولايات المتحدة الأمريكية. و تعتبر آيريس مارداك روائية استثنائية و من خارج دائرة القصة البريطانية. لقد أضافت إلى الواقع عناصر هدم و تركيب بقدر ما اقتبست منه الروح التراجيدية العفيفة و الجهود الضائعة. و ذلك من خلال شخصيات تفتقد إلى الهوية و الملامح. و تجد أمثلة على هذا الاتجاه في روايتيها الأخاذتين : حلم برونو، و الجرس.

5 – كايت وينسليت : ممثلة أدت أدوارا أساسية في أفلام مثل : مخلوقات من السماء، المشاعر و المنطق، تيتانيك و سواها . كما أنها لعبت أدوارا كلاسيكية و منها أوفيليا في مسرحية هاملت.

6 – الإيروس و الثاناتوس هما غريزتا الحياة و الموت عند فرويد. و تعزى إلى الأولى السادية و إلى الأخرى المازوشية في علم الأمراض.

 

...............

* نبذة عن الكاتب ليو ساندون:

أستاذ الدين و العقائد الأمريكية في جامعة فلوريدا الحكومية، الولايات المتحدة. كان مديرا لبرنامج تطوير الدراسات الأمريكية. حصل على درجة امتياز عن عمله كأستاذ جامعي عام 1991 . له حوالي (150) بحثا مطبوعا. و يكتب زاوية منتظمة بعنوان " الدين في أمريكا " لمجلة " الديمقراطيون في تالاهاسي " التي تصدر في عاصمة ولاية فلوريدا. و هو عضو في جمعية الكنيسة كأداة للتغيير الاجتماعي.

 

...............

* مصدر هذه المقالة :

مراسلة شخصية مع الكاتب. نشر النص الأصلي في صحيفة :

Tallahassee Democrat, Thursday issue, 14

 

كما يلي : Deeper Meaning Leo Sandon : Alzheimer's Tale In " Iris " Has

-الترجمة بإذن خطي من الكاتب.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1108  الثلاثاء  14/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم