قضايا وآراء

غاستون باشلار Gaston Bachelard .. الجنة مكتبة كبيرة

وقصديته حاضراً أو رجوعاً نحو الماضي أو حتى امتداداً لما هو آتٍ، يجدها (باشلار) متمترسة في مجال اللغة، واللغة الشعرية حصراً.

الحلم ينأى بصورة مفارقة عن ظاهراتية الصور الخلاقة، واللاوعي هو غير المخيلة، عندما يريد المحلل النفسي وثائق معينة يجدها في سردية الحلم، أما الفيلسوف فأنه يجد ضالته في فينومينولوجيا المخيلة، وشاعرية أحلام اليقظة، التأملات تنشد حياة ومستقبلا في الكون، ومن هنا تتوسم الكينونة في كون نعيش فيه.

يرى (باشلار) أن اللاوعي يفقد كينونته في حالات التأملات الشاردة، وهي(التأملات)مادة ليلية منسية في عز الظهيرة، ولكنها عند المحلل النفسي مادة غامضة دون تركيب أو تأريخ وبدون ألغاز، وبالتالي فأن مجال النفس الإنسانية وبهذه الثنائية المتصادمة قد تشجع المحلل كي يزعم بأنها تحت سيطرة يده، إلا أن الفيلسوف الظاهراتي يجد أن القضية أعمق من ذلك بكثير، فالتأملات لديه ظاهرة روحانية وطبيعية ولايمكن تحليلها بوصفها تفرعاً عن حلم، بل للتمييز بينهما أي بين الحلم والتأملات الشاردة، وهنا لابد من توظيف الظاهراتية لكونها حاسمة بفض الاشتباك بينهما.

يرى( شيلي) أن المخيلة بإمكانها أن تجعلنا نخلق ما نرى، ويرى (باشلار) أن مقولة (شيلي )هذه تمثل مبدأ أساسياً في فينومينولوجيا الرسم، ولتكون ممكنة التطبيق على فينومينولوجيا الشعر ستحتاج المزيد من التوتر، إن الانعزالية الحالمة تعزز ثقتنا بالكون وهي ظاهرة تنمو جذورها في روح الحالم وهي تنفي الزمن، حيث تمسك الروح على طمأنينتها في العوالم التي تتخيلها التأملات الشاردة، الروح إذن سوف تلح في طلب العوالم التي ترتاح إليها، والعوالم التي تستحق أن تعيش فيها من خلال نشاط مخيلتها ومن خلال رحلاتها ومعاريجها، المخيلة النشطة تجلب عوالم مختلفة والروح المتلهفة تلهب حماس مخيلتها في تنوع تأملاتها،التأملات العميقة تعني عوالم بعيدة واحة للوح وتفتت للزمن.

اللغة عند (باشلار) حالمة، بل هي تستفزه نحو الحلم، والقراءة عملية مضنية، متعثرة، وطالما ما تستوقفه كلمة تمنعه من إكمال القراءة والانغماس في تأملات تلهث إليها روحه، لذا لا نتفاجأ عندما نسمعه وهو يقول:(أنا في الحقيقة حالم كلمات، حالم كلمات مكتوبة، أعتقد أنني أقرأ فتوقفني كلمة، أترك الصفحة، فتدخل في هيجانها أجزاء الكلمة، تنعكس الحركات الصوتية فتترك الكلمة معناها كحمل ثقيل يعيق عملية الحلم، وتأخذ الكلمات معان أخرى كما لو أنه يحق لها أن تكون في ريعان الشباب، عندها تروح الكلمات تفتش في أدغال اللغة وكلماتها عن رفاق جدد، عن رفاق السوء).

إن القراءة عنده ليست خطية، بل هي دخول في عالم مجهول، كما أن الكلمات تغدو بوابات لعوالم مختلفة تصنعها المخيلة،الكلمات هنا تغادر مداليلها القاموسية وترميها جانباً وكأنها حمل ثقيل، كما أن الفونيمات تتوتر وتنعكس الأصوات بحركة ارتدادية، مبتعدة وخالقة معنى آخر، وكأن الكلمة قد خلقت من جديد باحثة عن كلمات أخرى لتكوين جمل جديدة، إنها تجربة غير عادية تلك المتولدة عن القراءة وعن ميوعة الكلمات ورجراجية المعنى، والعودة ثانية من هذه التأملات إلى عقلانية اللغة، تبدو وكأنها عودة المسافر الذي عاد محملاً بالحقائب واللقى والأعطيات والهدايا.

تقودنا التجربة أعلاه إلى تجربة أخرى أكثر تعقيداً هي تجربة الكتابة، حيث يقول (باشلار) بخصوصها:(والأردأ هو عندما أبدأ بالكتابة عوضا عن القراءة، تدور أمامي وببطء عملية تشريح أجزاء الكلمة، فتعيش الكلمة جزءاً فجزءاً في خطر التأملات الشاردة الداخلية).

إذا كانت القراءة تعود بالكاتب إلى تأملاتٍ بواباتها الكلمات، فإن الكلمات هنا ستكون عصية على الاصطفاف، بل هي في مرحلة طفولة وولادة، وهنا ستكون الريشة التي يكتب بها الشاعر هي من يتكلم، يساعدها في ذلك بياض الورقة، إن قدر الكاتب هنا هو أن ينحت ويخيط ويزخرف كي تكون أفكاره متناسقة، حيث ستتكلم التأملات والكاتب هو من سيحلم في هذه التأملات بالرغم من أنه هو الذي سيقوم بنقلها ونسخها.

حسب (تشارلس نوديه) أن ملفوظ الروح في لغات الشعوب المختلفة مرتبط بالفعل تنفس أو ملفوظات لها علاقة بصوت عملية التنفس(في العربية هنالك ملفوظي نفـْس ونفـَس)، ورغم ذلك فأن (باشلار) يؤكد أن ملفوظي الروح والعقل غير متمايزين في لغة الفلسفة الفرنسية المعاصرة، وهذا الترادف بين الملفوظين سيجعل من الصعوبة بمكان أن تترجم نصوص ثمينة، وبالطبع هذا سيكشف عن طبيعة الصعوبات التي يواجهها (باشلار) وهو يدرس الوثائق الشعرية بوصفها سجلاً لانثيالات الروح ومجالا لدراسة ظاهراتية الصورة في ملفوظ بدا غائماً وبعيداً وربما مهجوراً هو(الروح)، إن تمييع هذا الترادف عن طريق التمييز بين العقل والروح والذي يلح عليه (باشلار) ويؤكده في دراساته الظاهراتية، سيساعده في بحثه عندما يتتبع الصورة الشعرية، حيث سيكون العقل هو من يضع المشاريع الأولية لقصيدة مكتملة إلا أنه سيبقى مستغرقا في حالة خدر تطلق الروح إلى حالة من اليقظة الهادئة النشطة ولكنها يقظة دون توتر أو انفعال.

يرى (باشلار) أن الكلمات تحلم، بل هو يرى أن جنون تأملاته يقوده إلى حقيقة غير عادية وهي وجود ملفوظ مؤنث لكل ملفوظ مذكر، وهو إذ يجد في المؤنث وظيفة فرعية أو ثانوية فهو يعزوه إلى سلبية اللغة فهي التي تعطي الانحياز للمذكر، إن وظيفة التأملات أوربما جوهرها هو في واقعه جوهر أنثوي، وهي إحدى حالات الروح الأنثوية، وهنا نلحظ وكأن (باشلار) يقر من حيث لايدري أن الإنسان مذكرا كان أو أنثى ينشد عالم الآلهة الأم التي سادت سابقا قبل سيادة الإله المذكر، فالعالم الأول كان آمنا وهادئا وشفافا وأكثر راحة للإنسان، عكس عالم الإله الرجل والذي كان عالم الحروب والقلاع والحروب والموت، وهو عالم عدائي وغير آمن.

إن الشاعر هو من يقودنا إلى تلك المتعة البعيدة من خلال نصوصه وصوره الشعرية، وهو حسب (باشلار) لا يقول ما يكتب، بل هو دخل في مملكة النفسية المكتوبة، ونحن كقراء نجد في القراءة بعدا ًللنفسية الحديثة، إذ يتكلم الكتاب معنا فسنكون نحن بحاجة إلى مزيد من الكتب وسنردد مع (باشلار) ونحن نصلي لإله القراءة"أعطنا كفاف يومنا..."وستكون أمانينا هي نفسها أمنياته عندما يتمنى أن تسقط عليه من السماء سلال مليئة بالكتب‘ فهناك أي في السماء توجد الجنة، والجنة لدى الإنسان القارئ مكتبة هائلة، وهذا ما تساءل عنه (باشلار) عندما قال"أليست الجنة، فوق السماء، مكتبة هائلة".

 

أبوظبي

12.01.07

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1114  الاثنين 20/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم