قضايا وآراء

فقه الفتن وحكم التاريخ

فقيه العراق، الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود

 

أسباب الفتن

 لا يوجد تعريف شامل جامع مانع للفتنة، غيرأنها جاءت في كلام العرب حسب تعريف اللغوي الامام الأزهري بأنها:الابتلاء، والامتحان، وتأتي في الكتاب والسنة بمعنى الزيغ والخروج عن الحق والتنطع في الدين، والغلو فيه، واتباع المتشابه من القول.

 

وجماع القول، أن الأصل في نشوء الفتن في تاريخ الأمم واحد، وأن الفتنة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة سوى كونها جبلة متعفنة لرهوط من البشر تفتش لعمل الشرلا لدفعه ولا تفسير لها سوى الاستعداد الباطني والنفسي لدى البعض، تتجلى ( - سوسيولوجيا) - في شكل العسكر الذى تسوده بطالة الروح فيتفنن بدوافع النفس الأمارة بالسوء، والنزوع الى الشر، الىايجاد المشاغبات، واجادة التحرشات، بتسويغ اتهام العقل عندالاختلاف، ونداءات الرغبات الدنيئة، والمغالاة عند التعالي، والاسراف عندالهبوط، ونكث العهود، والنكوص عن التكليف، وتفريق الكلمة، والتولي عن الحق، سواء بالمبادرة المبيته الى غمطه، أوبالاستدراج بالكيد، وترجيح الزيغ والبطلان، واتباع كل ناعق،

 

و بدايات الفتنة يشمها من بعيد كل شريف نبيل نحرير، ويغمزها كل ضال أفاق مكير، ...، هي تأويل وتحريف الكلم الطيب عن موضعه، عندما تنكث النكثة السوداء في القلوب الظلمانية المفطورة بجبلتها علىالرذائل والشغب حتى تصيرفيها مثل الحصيرعودا عودا (برفع العين من العود) أوعودا عودا (بكسرالعين ونصب الواومن التعود) - كما ورد في الأثرالشريف -، ولكنها لا تظهرالاعندما تهيجها المهيجات، وتكتنفها الشبهات، مثل طغيان شهوتي السلطان أوالمال، أولمجرد ارضاء نزوات مرضية على سبيل المثال، فتنفضح عندئد وتنكشف، فيتعملق شنارها، حتى تصبح مثل النسافات، تجرف الأخضرواليابس، كما ينسف السيل الدمن، كما وصفها حذيفة بن اليمان مستشار الفاروق عمر رضي الله عنه وتلميذ الامام علي كرم الله وجهه عندما قال اياكم والفتن فانها مثل النسافات

 

 وتنتعش الفتن وتستشري عندما تروج لها الآراء المسخرة كيفما كانت دينية أو ايديولجية، كالفكرالمشترى، والقلم الأجير، والفتوىالجاهزة، كسلع بخسة تكون أتعس ما في الأسواق من بضائع، وهي نتاج قلة الورع في الدين، والسخف والخسة والاسترقاق واللاأخلاقية، وبئس الفتانون والمفتنون

 

 الفتن وحكم التاريخ

ان الأحكام في قضايا التاريخ الكبرى لاترحم، وكم دفعت أجيال لاحقة أثمان الخطايا التي تقارفها السابقون، فيأكل الآباء الحصرم (أول العنب) والأبناءيضرسون، ويتحكم الموتي في الأحياء من بعدهم وهم عنها غافلون

 

 وما ستشهده العواصم العربية والاسلامية، منالامزيد منت التصدع الحضاري والاجتماعي بسبب الفتن الحالية ليس عجبا، فقد تخلىأئمة المسلمين في مواقفهم عن غلق أبواب الشروالخطر، وسد ذرائع الفتن ومنافذهاومسالكها الضيقة الوعرة، بتكالب كبارهم وصغارهم باستصدارالفتاوي المجانية التكفيرية المغرضة المدفوعة الثمن، ولم يفقهوا بأن الورع في الدين هو تجنب أية فتوى درءاواتقاء للشبهات، وان الرؤية الربانية الصادقة هي حماية الأمة من التردي في هاوية القلاقل والشقاق، بالاختلاف حول آراء الرجال، كماكتب على أمم أخرى في الماضي البعيد والقريب مثل الأمة المسيحية التي انفصمت عراها ولم يبق منها الا الطقوسية,Ritualismeالفارغة و التدينية Religiosité الجوفاء بسبب الاخلافات حول آراء رجال الكنيسة

 

وقد علمنا التاريخ :

 - أن من الفتن ما يدفع الى الكفر:

كما حدث في المسيحية، عندما انقسمت الكنائس على نفسها واختلفت مجاميعها ابتداء من سنة 325 في مؤتمر نيقة وبعد القرن الرابع الميلادي ظهرالانشقاق بشكل جذري في مجمع خليقدونية ما بين الكنيسة في القسطنطينية، التي سميت في ما بعد ب الملكية أو الملكانية وهي عقيدة التثليث، فأمسي ملوك القسطنطينية يؤيدون، هذه العقيدة في خلاف عقدي مع كنيسة الأسكندرية، فأصبح في العالم المسيحي كنائس، أرثوذوكسية في الأسكندرية رأيهاهوالطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة، وأرثوذوكسية في القسطنطينية، رأيهاأن للأقنوم الثاني (الابن) طبيعتين ومشيئتين، تابعتهما في ذلك الكنيسة الكاثوليكية، اذ انقسمت الأمبراطورية الرومانية الى امبراطورية رومانية وشرقية، عاصمتها القسطنطينية، وأخرى غربية عاصمتها رافنا في عهد الأمبراطورين، أركاديوس و هنونوريوس وما تزال الكنيسة تحاول التوحيد بينهما على مرالعصور بدون جدوى، فسالت دماء الملايين حول تعاليم الكنائس، وآراء الرجال، لا حول تعاليم المسيح عليه السلام، فالمسيحية واحدة في الكتاب المقدس وانما الخلاف حول آراء الكنائس

  

 - ومن الفتن ما قسم القارات :

عندما انقسمت الكنيسة الأرثوذوكسية في مصر، وكنيسة القسطنطينية في أوربا لاختلاف الملكانيين و اليعاقبة في القرون الأولي للمسيحية الكنسية الغربية أي قبل قرن واحد من زمن خلافة الرشيد في الدولة العباسية

 

 وفي القرن الثامن الميلادي انعقد مؤتمربيزنطة (754م - 124للهجرة) يحرم عبادة الايقونات (التماثيل والصور)

 

 وانعقد مؤتمرنيقية (عام787) ليبيح تقديسها من جديد، فكانت حرب الايقونات ايذانا بالانقسامات بين كنيسة شرقية في الفسطنطينية، وكنيسة غربية في روما بتأييد شارلمان لها بحد السيف، ولسوف ينقسم المنقسمون منذ ذلك التاريخ

 

ولما احتج لوثر (1487 - 1546) على البابا وحوكم في مؤتمر ورمز ليقبل آراء البابا، فنتج على أثرها النظام البروتستانتي، أو (المحتجين) الذي كان نواة لميلاد ما سمي فيما بعد بالدولة الألمانية امؤدي الى انقسام اوروبا التي وحدها شارلمان بالسيف في يد والانجيل باليد الاخري بالتنصير القسري للقبائل الهمجية الاوربية من الساكس و الهون من آل الجرمان بعد توحيدها، ثم انقسمت بعد ذلك على نفسها سواء ما بين الكاثوليك والبروتستانت، أوحروب نابليون الكبرى التي أشعلها حربا شعواء دموية في كل ربوع أوربا من البرتغال الى سكندنافيا، وصولا الى روسيا شرقا مقتفيا خطا الأسكندرالأكبر، ثم اقتفي هتلرخطى نابليون في بداية القرن الماضي

 

 - ومن الفتن ما دمر أمبراطوريات :

عندما نشب الخلاف بين رجال الكنيسة، وبين الحكام في القرون الوسطى، فتم الاتفاق على أن ينفذ رجال الدين آية المسيحية فيتركوا ما لقيصرلقيصروما لله لله في مقابل أن يترك لهم ملوك الأرض ملكوت السماوات، ليبيعها البابوات فيما بعد لمن يدفع للكنيسة أكثر، في شكل صكوك أرضية للمغفرة السماوية !!! فتكون فضيحة رجال الدين حولها، لينقسم الرجال حول الباباوات أنفسهم،

 

ولم تمض قرون، حتى تتقاسم الكنائس المنشقة في القرن السادس عشر، بين كاثوليك، وبين بروتستانت، وانجيليكان، ويوسوعيين، وأرثوذكسّ، وغيرهم، لينفصلوا كلية عن البابوبة،

 

 ولماثم كان ما كان من محرقات، ومحاكمات تفتيش ابتداء من القرن السادس عشر، عندما أقر البابا انشاء غرفة برلمان باريس لمحاكمة الملحدين وهم في نظره البروتستانت الفرنسيون (الهيجينوت) فسميت ب غرفة الحريق لكثرة ما أحرق فيها من الفرنسيين بدون حساب.

 

 - ومن الفتن ما يؤصل للابادات في نفس العقيدةالواحدة :

 وبظهور زونجلي ( - 1546 - 1484) في سويسرا كالفان ( 1509 - 1564) في وفرنسا، حتى تكونت الفرق، وتبادل الأتباع تهم الهرطقة والتكفير، وبلغت فظاعة الكنيسة الانجليزية آخرالمدى في وحشية وبربرية تقتيل المناوئين لها، ولكن فظاعة الكنيسة الفرنسية فاقت التصورفي الوحشية، وكلتاالكنيستين تحتميان بالكتاب المقدس لاعلاء شأن عيسى عليه السلام

 

وقد نال المسلمون نصيب الأسد، من فظاعات محاكمات التفتيش، وما زال التاريخ الغربي صامت عن هذه المجازرالوحشية والمحرقات–في تاريخه المركزي -، ولاتذكرحتى في كراسات المعاهد والمدارس الرسمية خاصة في فرنسا واسبانيا الا باقتضاب وتزييف للأرقام لما لحق المسلمين من تعذيب وحشي، اكتشفه ضباط نابليون لدى دخلوهم اسبانيا، حيث عثرفي أقبية الكنائس والسجون على أشلاء الجثث (وأكثرها للنساء والأطفال والشيوخ لأن الشباب أبيدوا في الدفاع عن حصون غرناطة آخر معقل للعرب في الأندلس) كما اكتشف الفرنسيون وسائل وأدوات التعذيب التي يندى لها الجبين، اخترعت خصيصا لتعذيب المسلمات بتعليقهن من أثدائهن، ناهيك عن الابادات الجماعية، والحرق، والتنصيرالقسري، وتغييرالأسماء، ومسح اللغة التي تمت في الساحات الكبرى للمدن الأندلسية العربية باسبانيا، وتم طرد المتبقين والناجين في عام 1609 - 1610 الى شمال افريقيا، بلغ عددهم أكثرمن مليون مسلم، وهو رقم مهول بالنسبة للفترة التاريخية والزمنية، بينما يتم الترويج للمحرقة اليهودية بتضخيم الأعدادوفرضهاعن طريق الأمم المتحدة، والاحتفال بذكراها رسميا في كل بقاع أوروبا والولايات المتحدة

 

 - ومن الفتن ما يخلق الحروب المدمرة والابادات حتى بين العرق الواحد، والأمة الواحدةوالدين الواحد :

فبعد انقسام الكنائس حول آراء الرجال، بدأت مائة عام من الحروب في أوربا، اختتمتها حروب الأعوام الثلاثين (1618 - 1648) بين الأمم الكاثوليكية، والأمم البروتستانتية التي شملت أوروبا كلها لتأتي معاهدة وستفاليا عام 1648 لتكون نواة لبانوراما أوروبا المعاصرة حاليا، بعد مجازرداخلية بين الأمة الواحدة، في البلد الواحد والدين الواحد، والعرق الواحد كما وصف ذلك المؤرخ الانجليزي جبون في كتابه تاريخ اضمحلال وسقوط الأمبراطورية الرومانية

 

 - ومن الفتن ما يقسم الديموقراطيات :

كما أن انقسام الامبرياليات الأوربية على بعضها في مطلع القرن العشرين كان بسبب الفتن الدخلية على اقتسام كعكعة العالم في ما بينها، لاعلى صلاحية الثورة الفرنسية، أوالخلاف على قيمها ومبادئها، حيث تقلصت الفلسفات الطوباوية الأوربية، وتبخرت الأفكارالنبيلة، والمبادئ النيرة حتى في أوج تنويرأورروبا وديموقراطيتها و عقلانيتها حيث تجلت الفتن نشوء أكبر مجزرتين عرفتهما التاريخ البشري أدت بحياة أكثرمن ثمانين مليون نسمة ناهيك عن الاجرحي والمعطوبين وهدم المنشآت والمدن والآثار، وتم ذلك في العهد الجميل للحداثة الغربية عشية 1914وأمسية 1938بين الأمة الواحدة والعرق الواحد والدين الواحد والأهداف الكولونيالية الواحدة

 

 وأخيراوليس آخرا، فلا بد من التذكير بأن كل هذه الفتن التي أدت الى هذه الانقسامات قد حيكت كلها من طرف أحباروكهنة التوراة، ابتداء من بداية القرن الرابع والخامس الميلاديين - عمليا -، وان تم التمهيد لذلك منذ القرن الثاني للمسيحية بالقراءات التأولية للمقاربات الهيرمونوتيكية Hérmetisme التلمودية والخفائيات القبالية kabalstiqueللنصوص الدينية المسيحية لضرب الوثنية الاغريقية بالمسيحية من جهة ولمحاولة التخلص منهما، واستمر ذلك قرونا عدة الى تم التوصل الى ايجاد الصيغة الملائمة باسم اعادة قراءة و صياغة المسيحية بالنهج المسمى بالاصلاح الديني (الذي لم يأت هكذا بين عشية وضحاها وما اللوثرية والكالفانية اا محصلة جهود دامت عشرات القرون من طرف اليهودية ) و تمخض عن ذلك ظهور البرتستانتية التي قعدت لكل التنظيرات الفلسفية وتطاحن الايديولوجيات في القرن التاسع عشر، ذلك القرن الأكثراصطخابا وتوليدا للفلسفات، وسمي بعصرالايديولوجيا، حيث أفرز خاصة نظرية الاقتصاد الراسمالي الغربي (النفعية الانغلوساكسونية) التي مهدت لظهر الامبرياليات الكبرى المولدة للبراغماتية الأمريكية والصهيونية العالمية كمركب هجين للنظرية الفلسفية الألمانية والاشتراكية الفرنسية والاقتصاد الانجليزي والاصلاحية الكالفانينة والاستسرار التلمودي)

 

 وبعد هذا العرض البارونامي لفقه الفتنة بالمنظور (الأنثروبو - تاريخي) فماهي مقاصد زرع الفتن في عالمنا العربي والاسلامي؟

 

للاجابة بدقة علمية على هذا التساؤل، فلا أولا من الوقوف مليا قبل التسرع لاعطاء الحلول الجاهزة التبسيطية التي تتهاطل يوميا على صفحات الجرائد والمواقع

 

ففى غياب دقة المعلومات والمعطيات وتضارب الآراء، وعدم اكتمال عناصرالتحليل، والاصرار - خطئا على اختزال اشكالية العنف والفتن الى مجرد صراع عقائدي ( سني - شيعي)، فان المعضلة قد تطورت

 

الى ظاهرة متفردة - وهكذا أريد لها مخططوها منذ البداية - لعلمهم بأن لكل ظاهرة خصائصها – سوسيولوجيا - ويتخللها ما يتخلل كل الظواهرالاجتماعية (بمنظور علوم الأناسة) من تداخل عوامل ظاهرة وأخرى خفية، وهذه الأخيرةهىأخطرالعوامل (لأن العامل س الطارىء le facteur «x«intervenat يصعب تحديده ومحاصرته، أو الفصل فيه بجرة قلم بالمنظورالبحثي، وهدا العامل الطارئ هوالذي يشكل قطب الرحى فىدراسة أية ظاهرة، لكونه عاملا زئبقيا مستعصيا - بمنظور العلوم الاجتماعية - مما يجعل البث فيه محفوف بالمزالق والمخاطرعند نهج ممارسات ضروب التخمين و التعالم ، والاستنتاجات العشوائية،

 

كما أن هذه الفتن المستنبثة من وحي ما يسمى في (الأنثربولوجيا السياسية) بنظريات الثلاجة المغلقة التي طبقت بحذافيرها في المنطقة قصد تنفيذ أجندات سياسية ماكيافيلية، قد فجرت أزمات عميقة في المنطقة كلها (وذاك بيت القصيد لمن استنبثها) ، وخلقت بلبلة في التنظيرات السياسية الدولية الجديدة المنضوية تحت ما يسمىبمحاربة الارهاب ذلك المصطلح الهلامي الذي لا يملك أي خبير دولي في الاستشراق السياسي أو الاسلامولوجيا أي تعريف محددله، كما لا أحد يدعي أنه يملك –حاليا حلا لهذه الظاهرة الخفاشية (التي يقلصها الكثير من الجهلة والمغرضين الى جبلة العنف النتأصلة في نفوس العرب والمسلمين على جميع المستويات (دينيا وثقافيا وسياسا واجتماعيا) حيث تعمقت التناقضات الخطيرة، حيال هذه الظاهرة وأفرزت هشاشة التنظيرات المقترحة، مع نضوب معين آفاق النخب السياسية، والمثقفين، وعلماء الدين (الصادقين منهم والكاذبيين) ، لعدم امتلاكهم - مجتمعين - لأي مشروع قائم محدد، أو تحليلات استراجيتية ( سوسيو - ثقافية - سياسية - دينية) أو رؤية شاملة لامتصاص هذه الفتنة الجديدة

 

 د.الطيب بيتي / مغربي / باحث أنثربولوجي ومستشار / مقيم بباريس

[email protected]

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1118  الجمعة 24/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم