قضايا وآراء

الذات المتكلمة بين جوليا كريستيفا وميرلو بونتي

غرار"فرويد"عندما قال:"أنا أفكر حيث لا أوجد،إذن أنا أوجد حيث لا أفكر"وبعمله ذاك كان قد قوض محور الفلسفة المثالي (التي تدعم وتؤكد على الذات المستقلة والمفكرة).

ولكن هذا الانشطار بين ذات واعية وأخرى لا واعية بدأ يجد صداه في ميادين أخرى كالسيميولوجيا والظاهراتية وغيرها ولكنها ذاتا ً متكلمة، وحول ذلك يقول سلفرمان:"الذات المتكلمة متجسدة، ولكن هذا التجسد يمكن أن يقرأ كنص، فالذات المتكلمة مركوزة في اختلاف ٍقائم بين السيميائي والرمزي، أو بين لغة مباشرة ولغة محضة".

وهذا يعني أنها (أي الذات المتكلمة) تمثل علامة تجمع إليها بين ما هو قصدي أو هو غير ذلك أو مابين اللامباشر والمحض، وهي ذات مرجعية لنشاطين مختلفين هما كل من نشاط (جوليا كريستيفا) و(ميرلو بونتي) الفلسفيين.

صدور كتاب "جوليا كريستيفا"(سيمياء (semiotike في العام1969 كان قد جاء بعد سنتين من كتاب "دريدا"(الكتابة والاختلاف)، كما أن كتابها "ثورة في اللغة الشعرية"يعتبر مساهمة كبيرة داهمت به المشهد الفلسفي في العام 1974 سوية مع كتابها الأول، وفي كتاباتها عن الذات المتكلمة ترد أسماء ً من مثل (دريدا، هوسرل، فرويد، سوسور)ولكنها عندما سئلت في إحدى المحاضرات عن ورود الذات المتكلمة عند "ميرلوبونتي" دعت إلى فحص ضافي لنشاطها حول الذات المتكلمة ونشاط "ميرلو بونتي" وكأنها كانت تلمح إلى وجود اختلاف بين النشاطين.

وفعلا في كتابها سيمياء تقترح (كريستيفا) قراءة جدولية للنصوص ويتعلق الأمر هنا باكتشاف الفونيمات (الحروف) المنتشرة في النص والتي يشكل اصطفافها الخطي (الزمني) الكلمة – الموضوع، وهي فيه تعتمد التحليل النفسي إذ أن ظهور الكلمة المحتجبة يعبر عن عودة المسكوت عنه والمغيب والغائر في اللاوعي.

علاقة السيميائي بالرمزي عند (كريستيفا) علاقة جدلية وتتجسد من خلال ما يؤديه كل منهما من وظيفة في الخطاب سواء كان نظرية أو نصا ً سرديا ً أو شعريا، قد يجد أحدهما نفسه مستلبا ًمن الآخر إلا أنهما يعملان متعاضدين ولا يقصي أحدهما الآخر وهذا يبدو جليا ًمن خلال التاريخ الطويل لمصطلحي (السيميائي والرمزي)، وهي أيضا تحاول أن تقارب الرمزي من خلال علاقة الدال (الكلمة) بالمدلول (التصور) حالها حال (سوسور)عندما تجمع الإشارة اللغوية لديه بين الملفوظ والفكرة إلا أن الإشارة اللغوية كما هو معروف اعتباطية عنده بينما العلاقة رمزية لدى( كريستيفا).

كلامنا أعلاه قد يبدو للوهلة الأولى وكأنه بعيد عما هوفلسفي ولكنه حقيقة لايبتعد عن الفلسفي إذا لم يكون في واقعه مفعما ً بالفلسفي ولكنه مسكوت عنه وبذلك يقول (إيكو) عن العلامة:"إشارة واضحة تمكننا من التوصل إلى استنتاجات بشأن أمر خفي" وهو في الواقع ينتقد صمت الآخرين حول حقيقة أن علم العلامات يمثل خطابا ًفلسفياً بحد ذاته، وكأن العلامة حديث عن أعراض طبية أو معالم جريمة أو حتى مؤشر عن الأحوال الجوية.

تجد (كريستيفا) في تحليلات "جاك لاكان" مجالا في إبداء تصوراتها عن الرمزي في العلاقة بين الدال والمدلول، وتجد في الجانب التحفيزي لها ما هو كامن في دوافع لاشعورية خالصة، وتستعين بمقولات (لاكان) حول (الإزاحة)وكذلك (التكثيف) وعلاقتهما بمقولات بلاغية معروفة هما الكناية (علاقة تجاور) والاستعارة(علاقة توازي) وهو ما كان قد استخدمه (لاكان) لتفسير لغة الحلم، وإذا كان (لاكان) قد اعتمد في تحليلاته تلك على كل من (جاكوبسن) و(فرويد)، فإنها (أي كريستيفا) تجد في تلك المقولات ما ساعدها في انتشال الرمزي من الاعتباطية السوسيرية، فعندما يزاح الدال(الإزاحة) إلى آخر مجاور(الكناية) أو عندما يتضمن (التكثيف) تعدد المدلولات في دال معين وهو ما يسمى بالاستعارة وهذا يقود بالضرورة إلى الجوانب البنيوية في اللغة والذي يحيل الى الدلالة وهو ماتدعوه (كريستيفا) بالرمزي.

إن اللاشعور كما هو معروف مكان الرغبة والأحداث المكبوتة، وبالتالي سيكون الرمزي نتاج لما هو اجتماعي على مستوى العلاقة بالآخر متأسسا من خلال الاختلافات البيولوجية(الجنسية مثلا ً) والبنى الاجتماعية والتاريخية للعائلة وكذلك ما تفرزه من اشتراطات وحدود مو ضوعية، وكأننا أمام لغة ثانية تحددها الظروف الأخرى التي يجد الكائن فيها ذاته وسيكون الرمزي هنا أداة لهذه الأطر وسيكون متداولا ً بين أفراد هذه البيئة.

إن الرمزي عند (كريستيفا) مرتبط بقانون الأب كما عند (لاكان)، حيث ترى أن الأم كانت تضطلع بالمهمة القضيبية وعندما أصبحت هذه الوظيفة رمزية فقدت الأم منزلتها الأولى، وبالتالي فقدت الذات الإنسانية ما كانت تعتمد عليها لتصبح الوظيفة القضيبية وظيفة رمزية وهذا جعل الرمز يستكمل تشكله الخاص به ويجعل الذات وكأنها شيء ٌ تحت التجربة، ولنجد التداول قد نـُمـِّط من خلال الرمز معضدا ً العلاقة بين الدال والمدلول من خلال التوليد السيميائي أو السيميوزيس.

نستنتج من أعلا ه أن الذات المتكلمة عند (كريستيفا) هي ذات نصية تنهل من اللا شعور وتتناص مع ذوات الآخرين، وهي تتعامل مع الذات بوصفها نصا ً قائماً بذاته وهي بذلك تتقاطع بحق مع الذات المتكلمة عند (ميرلو بونتي) والتي هي صامتة عندما يقول:- "إذا أردنا أن نفهم اللغة باعتبارها عملية أصلية، فعلينا ألا نتظاهر بالكلام مطلقا ً، وأن نخضع اللغة لاختزال ٍمن دون أن نجعلها تروغ منا بأن تحيلنا على ما تدل عليه وأن ننظر إلى اللغة بوصفنا صـُمـّا ًينظرون إلى أولئك الذين يتكلمون، وأن نقارن فن اللغة بفنون التعبير الأخرى، أو أن نجرٍب رؤيتها باعتبارها أحد الفنون الصامتة.

ومن الكلام أعلاه نجد أن (بونتي) يريد السيطرة على اللغة بوصفه ذاتا لاتريد أن تسمع ما تقوله اللغة ولكنها ذاتا ترى ما ترسمه اللغة وكأنه يحاول أن ينتمي إلى الكتابة وليس إلى القراءة في مستويات اللغة وظائفيا ولكن يبدو لي أن هذا غير مضمون لأن لا سبيل من الوقوع في فخاخ اللغة من ميوعة ورجراجية وهو رغم أختلافه عن (كريستيفا) إلا أنه يلتقي معها في إنتمائها للنص والكتابة ولكن يبقى كل منهما يفهم اللغة سواء مايسميه (بونتي) باللغة المباشرة أو ما تسميه (كريستيفا) بالرمز كوظيفة شعرية أو تصويرية دون محددات أو اشتراطات سواء أكان ذلك توكيدا ًأو تنظيما ًأو شكليا ًحيث يبقى هذا الفهم هو جزء من تبديات اللغة المختلفة والتي لا يمكن الفكاك منها.

  أبو ظبي

‏25‏/07‏/2009

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1119  السبت 25/07/2009)

 

في المثقف اليوم