قضايا وآراء

انطباعات زائر الى العراق (3) كيف تفكر القواعد الصدرية؟

والحق ان المرحوم علي الوردي جهد عقودا من الزمن وهو يحاول فهم وتحليل هذه الظاهرة في العراق لانها مثار دهشة وتساؤل، بل ان الجاحظ وابو حنيفة لاحظا ذلك من قبل، كلا من زاويته الخاصة، فالعراق مهد المدارس والمذاهب والتيارات،  ترك لمستوطنيه ارثا من المساجلات والمجادلات اورثهم لاحقا مشكلة الفكر المتعارض الذي يحبط أي شكل من اشكال الاتفاق وتقديم الاولويات والضروريات للعمل والتاسيس عليه، بدل الانشغال بمجادلات لاتنتهي واتفاقات يصعب العثور عليها وتوافقات تعسر ولادتها.

فبحوار بسيط مع البائع وسائق التاكسي والشيخ الجالس في المسجد والعامل الذي يتصبب عرقا وصاحب الحظ من التعليم، تكتشف ان ازدواج الاراء وتعارضها هي سمة بارزة في التفكير، وهذا التعارض يلقي بثقل كبير على طبيعة التعاطي السياسي مع الامور وتحليلها، بالشكل الذي يعقد أي محاولة لبلورةمخارج وحلول للازمات يكون الدعم الشعبي وتضافر جهود الشعب شرطا للتغلب عليها، فانت تجد من يطالب بالامن لكنه يعترض على زيادة سيطرات التفتيش، ومن يريد القضاء على البطالة ويرفض الاستثمار ودخول شركات اجنبية، ومن يريد انتعاشا اقتصاديا ويرفض الاستعانة بالاجانب لزيادة انتاج النفط واستثمار الغاز.ومن يريد استقرارا سياسيا و يريد استخدام العنف ضد كل صوت لايلتقي معه في الراي.

هذه امثلة سريعة يمكن القياس عليها لمعرفة حجم المشكلة الموجودة في العراق والتي تعكس في بعض جوانبها الحاجة الملحة الى حوار وطني شامل يتعاهد فيه العراقيون على اهمية الاتفاق على الحد الادنى من الضروريات التي هي مقاصد اساسية للشريعة الاسلامية، وهي التي يتوقف عليها حياة الناس ويقوم عليها امر الدين والدنيا وتستقيم بها شؤون الجماعة والفرد.

ان عدم اتساق التفكيروتعارضه اصبح احد مسببات شقاء العراق والعراقي عامة، وترك اثره السيئ على الوعي الاجتماعي والسياسي،  ولاشفاء من هذا الداء الا بحراك ثقافي فعال يلامس المشكلة من وجوهها المتعددة لاعادة ترتيب مصفوفة العقل العراقي بحيث يتجاوز معضلة التفكير بقضاياه الحياتية من زوايا لاهوتية ودينيةووضعية جملة واحدة بلا فرز بين القضايا ولا حدود منهجية بينها، اذ يستحيل ايجاد صيغة لوعي مقبول بين فئات وجماعات يريد كل منها ان يجمع مصالحه الدينية والدنيوية ويعيش العصر ونقيضه، يفكر بالمستقبل وهو يعيش الماضي ومشاكله، يستخدم الدين وهو دنيوي حتى النخاع، وقد يكون علمانيا وهو يعيش الطائفية هاجسا دائما، فكل هذه المظاهر اعراض لمرض خبيث اسمه المتاهة العراقية

التي لاتكاد تعثر على تاريخ لنهايتها، مالم تتظافرجهود ضخمة يتشارك فيها علماء نفسانيون واجتماعيون وخبراء في التربية والثقافة وجهود حكومية ودعم جهات روحية ، يجمع بين هؤلاء جميعا علم غزير وقراءة واعية لتاريخ العراق وتجربة اجتماعية وافرة تبدا من الناشئة الصغار وتنتهي بالكبار، لترسم لهؤلاء جميعا منهج تعلم الجمع بين الاراء والفكر العملي المنتج بديلا عن الجدل النظري المعيق لكل برنامج والمحبط لكل الخطط والمشاريع.

جمعني حوار مطول مع افراد ينتمون الى التيار الصدري اقرباء لي من الدرجة الاولى وقد كان الغضب والاعتراض سمتهم الدائمة، هكذا وجدتهم منذ عام 2003 ولغاية الان، الملاحظة البارزة عليهم انهم غير راضين عن الاداء الحكومي جملة وتفصيلا، يتظلمون من اعتقالات زملائهم ومن قسوة الاجهزة الامنية، يطلبون الامن والاستقرار وتحسن اوضاعهم المعيشية والاجتماعية، يريدون ان تتحسن خدمات الكهرباء والبلدية والهاتف، يرفضون الرشا والمحسوبية والفساد الاداري، ويطالبون في نفس الوقت بانصافهم باعتبارهم الطبقة المحرومة التي وقع عليها ظلم النظام السابق والحالي، فلم تختلف عندهم الاحوال الاقليلا كما يقولون، ولازالوا يدفعون الثمن في الزمنين الماضي والحاضر.

سالتهم تريدون اصلاح كل هذه الامور دون ان تساهموا في هذا الاصلاح ؟قال قائلهم :كيف نساهم ولااحد يسمح لنا بذلك؟

قلت له الم ترفعوا السلاح تريدون اخراج المحتل وقتلتم من سميتموهم عملاؤه ؟، قال نعم قلت اذن عليكم الاختيار بين خيارين فمن غير الممكن الجمع بين الحرب والسلام، الجهاد والاستقرار فلكل ظرف شروطه واستحقاقاته وضرائبه، اذ لايجتمع تحسن الاحوال المعيشية والخدمية وانتم تهددون الاستقرار قولا وفعلا، فالعمران رهين الهدوء والسلام، وكان بالامكان ان تكون اوضاع مناطقكم الجغرافية اقضل حالا من حيث العمران والخدمات لو لم تستخدموا السلاح حتى لو كان عدوكم يستاهل رصاصكم، فكان عاقبة ذلك ان بقيت مناطق الجنوب والوسط محرومة من النشاط الاستثماري، فلااحد ياتي البصرة مثلا كمنطقة استثمارية وانتم تخيفون المستثمر الاجنبي والمحلي برصاصكم وصواريخكم على مطار المدينة بين الحين والاخر، وكيف يدخل راس المال الى الناصرية ومطارها العسكري عرضة للصواريخ وفرق الاعمار تتعرض الى العبوات الناسفة في شوارعها، كيف تتحسن الاحوال والعالم يراقب حصول اغتيال هنا وعبوة هناك في مناطق يفترض ان تكون امنة ومستقرة، الا تعلمون ان حادث اغتيال حلاق او قتل امراة حتى لو كانت ساقطة ينال من الامن وينال من هيبة الدولة ويصنف المنطقة باسرها انها غير امنة ويبعد عنها أي احتمال للاستثمار ودخول الخبراء ؟، الاتعلمون ان احجام الشركات والدول عن ارسال خبرائها ساهم في عدم نجاح خطط تحسين انتاج الكهرباء في العراق؟، كيف يبنى العراق ونحن بحاجة الى خبرات العالم ومساندته وانتم لاتساعدون على الاستقرار؟قال وهل تريد ان نسكت عنالاحتلال وعن وجود بعثيين قذرين او لانامر بمعروف او ننهى عن منكر فنحاسب المتبرجات ونطارد المخانيث أالاترى ان الشارع صار مستباحا لكل هذه الموضات ولااحد يتصدى لهم؟

قلت له انت تريد ان تامر بالمعروف وتنهى عن المنكر ولاتعرف مراتبه الفقهية المسطورة في كتب الفقهاء، وتريد مصلحة ناسك وفي نفس الوقت ترى نفسك فوق الدولة والقانون وتتدخل في كل شيئ بدعوى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر؟من اباح لك ذلك؟، كيف يجوز لك ان تستخدم العنف بدون اذن من احد لامن دولة ولامن فقيه؟ اليس المحافظة على امن الناس واستقرار معاشهم مقدم على الكثير من الدعاوى المطروحة؟ثم الا تلتقي معي ان احوال البصرة وكربلاء وغيرها تحسنت كثيرا بعد ان فرضت الدولة الامن بقوتها، قال ان (صولة الخرفان!)كانت موجهة ضدنا وان احداث الزيارة الشعبانية في كربلاء لم تكن من صنيعنا ولكن انجر اليها بعض المحسوبين علينا لغبائهم واضطرارهم؟قلت له في كل الاحوال لاينبغي ان تكونوا طرفا في مشكلة امنية او سياسية رحمة بالبلاد والناس ودرءا للفتن وحماية لحقوق افرادكم، بدل ان تكونوا حطبا لجهات تتربص بكم الدوائر كما تقولون، ثم لايجد ممثلوكم في البرلمان سوى مواقف متشنجة وخصومة مع الحكومة التي يفترض بكم تسهيل مهمتها لتتحسن احوال طبقاتكم المحرومة؟

قال ان الحكومة تتعمد ايذائنا وبعض اجهزتها تقوم بذلك بشكل مدروس كما فعل الرائد علي في كربلاء وفلان وفلان، قلت له ان الاجهزة الحكومية كثيرة الخطأ وبعضها مخترق من جهات لها اجندات سياسية، ولكن لماذا تضعون رجلا مع الحكومة واخرى ضدها ؟، وتطلبون الامن وتخطأوون في التعامل مع شروطه؟، لماذا تجعلون اعدائكم يستفيدون من اخطائكم ليتعاملوا معكم كمعارضة مسلحة مع انكم جزء من العملية السياسية؟، لماذا يدعي عليكم البعض بانكم افشلتم الكثير من مشاريع الاعمار بسبب اتاوات تفرضها لجانكم الاجتماعية والاقتصادية؟، كيف تسمحون لبعض افرادكم بابتزاز المقاولين والمستثمرين بحجة ان الاخرين يستفيدون ونحن نريد الاستفادة ايضا ؟قال ان الكثير مما يثار ضدنا غير صحيح ولكن لماذا لايتذكرون اننا من حمى بغداد من هجمة التكفيريين والقاعديين والمتضامنين معهم؟ لماذا يستكثروا علينا اخطاء افراد وانت تعلم اننا لسنا حزبا سياسيا منظما بل حالة شعبية متفاوتة الوعي وغير خاضعة لشروط الانضباط؟

قلت: اذن انك تتفق معي ان جهودكم ستذهب سدى ان لم تحسنوا من مستوى الوعي والانضباط لدى قواعدكم، وتدافعوا عن انفسكم بتحسين خطابكم السياسي والاعلامي وتكفوا عن حالة الازدواج في تفكيركم وسلوككم فمن غير الممكن الجمع بين

حالات متعارضة في توليفة صعبة فانت تريد المقاومة وافشال المشروع الامريكي وتريد المكاسب السياسية والامنية وتطمح الى الاستقرار والعمران والنمو الاقتصادي، وتغالي في شعاراتك الدينية والمذهبية، ولديك خصومات مع قوى سياسية ودينية او لنقل تنافسا ارتقى في بعض الحالات الى الشتائم والقتال، كل ذلك لايسمح بتصنيفكم ضمن وجهة دينية وسياسية محددة، فالاضطراب وقلة الخبرة السياسية والثقافية وحتى الفقهية واضحة على مشروعكم ان كان لديكم مشروع محدد؟

قال مشروعنا هو مشروع السيد محمد الصدر رحمه الله، قلت له ان مشروع السيد الصدر الثاني هو في احسن التوصيفات

امتداد للاصلاحية الشيعية في حوزة النجف العتيدة وكانت لهذه الاصلاحية وجوه متعددة فكرية ومنهجية ومؤسساتية وحتى سياسية، فمنذ السيد هبة الدين الشهرستاني ومرورا بالميرزا النائيني المناوئ للاستبداد السياسي والديني ووصولا الى الفقيه محمد رضا المظفر ورفاقه، الى السيد الشهيد الصدر الاول، سعت هذه المدرسة الى اصلاح متعدد الجوانب وقد كان شغلها الشاغل النهوض بالواقع الرتيب والساكن من خلال اصلاح مناهج التفكير والمؤسسة الدينية ومؤسسة المرجعية والارتقاء بحالة الناس فكريا وسلوكيا وثقافيا وسياسيا، ويفترض بمن ينتمي الى هذه المدرسة ان يدرس ويعي اهدافها ويحتذى خطواتها ويفهم شعاراتها جيدا فلايكفي انك تغالي في الانتماء الى رمز اصلاحي وتعوض كسلك وفقرك الثقافي من خلال ثقافة التمجيد وتضخيم الانتماء الى الرمز، ثم انك لا تحسن غير الشعار الذي اطلق لغايات في ظرف خانق واذا بك اصبحت اسير شعاراتك! وقوتك الاكبر في قدرتك على التعبئة الواسعة وانت لم تبذل جهدا في تثقيف هذه القوة الجماهيرية العظيمة وتحويلها الى اداة في خدمة المشروع الاصلاحي الذي ناضل من اجله الرموز الخالدون، قال اعترف اننا ضعفاء في هذا المضمار ولكنكم انتم المثقفون والمدعون لم تمدوا لنا يد العون وبقيتم تتفرجون على جراحاتنا واخطائنا !! اجبته بانكم كنتم في غاية النرجسية والتعالي ولم تكتشفوا حاجتكم الى الاخرين الا في هذه المرحلة، لقد اسر لي احد قادتكم السابقين في البصرة بان اخطائكم كانت نتيجة ضعف الجوانب التربوية والثقافية ورغبتكم العارمة في ترسيم خط متفرد عن الاخرين من اخوانكم الذين مابرحتم ترشقونهم بشتى التهم، قال لاطاقة لي على جدالك وانتم تحسنون التنظير .

فارقت محاوري وبعد ايام اسر لي صديقا مشغولا بالهم الثقافي بان مؤسسة ثقافية للتيار الصدري على وشك الظهور وقد اختار لها زعيم التيار مثقفا من خارج صفوف التيار لادارتها بصلاحيات كبيرة من اجل ان ترفد التيار بالرؤى والمناهج على امل ان نرى افقا ثقافيا وسياسيا لدى هذه الشريحة المهمة عسى ان يتجاوز العراقي انشقاقاته وازدواجياته ويستفيد من حصاد تجاربه ليقوده وعيه الجديد الى العمل بدل الاكتفاء بالشكوى ومضغ الكلام!!

 

ابراهيم العبادي

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1120  الاحد 26/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم