قضايا وآراء

نظريَّة الشعر عند السيِّد الشهيد محمَّد الصدر

إلى درجة الإستيعاب الكامل، بالكثير من العلوم والفنون التي لا تقع ضمن دائرة اختصاص المجتهد، بل ربَّما اعتبر بعض المجتهدين الإهتمامَ الزائدَ بتلك العلوم والفنون والإختصاصات منافياً لوظيفة المجتهد، بل إنَّ منهم من ارتقى بذلك الشعور فاعتبر ذلك موجباً للنقص فيما يتعلَّق بما ينبغي أن يكون عليه المجتهد من الإبتعاد عن دائرة تلك الإهتمامات، وكأنَّ الإطلاع عليها يعدُّ في نظرهم علامةً بارزةً على تردِّي العلم العقائديِّ الدينيِّ لديه، فإن تنزَّل وشاء أن يطلع على طرفٍ منها اكتفى بالمعلومات التقليدية المتوارثة المتكلِّسة عما يدور في ساحات اهتمامها ودوائر الإبداع فيها، مما هو في معرض النقد والتجاوز عند ذوي الإختصاص فيها، وربَّما كان ما عليه الحال بالنسبة لها عند ذوي إبداعها هو النقيض تماماً لما يوجد في أذهان الغافلين عن التطوُّرات والتغيُّرات التي حصلت وتحصل في كلِّ آنٍ داخل منظوماتها النقديَّة والفلسفيَّة، وما يترتَّب على هذا التطوير والتغيير من انسلاخٍ كاملٍ أحياناً عن الطرائق القديمة في الكتابة والإبداع داخل كلِّ مجالٍ علميٍّ أو فنيٍّ على حدة.

ما نريد أنْ نسلّط عليه الضوء في هذا المقال البحثيِّ المتعلِّق بالتدليل على وجود مثل هذه السمة العامَّة البارزة في فكر السيِّد الشهيد محمَّد الصدرمعالجته الفقهيَّة الرائعة لذلك المجال الإبداعيِّ الذي استحوذ على الجانب الأكبر من اهتمام الذهنيَّة الإسلاميَّة بمختلف لغات الشعوب التي اعتنقت هذا الإسلام وهو الشعر، فليكن نظرنا مصوَّباً إلى ما كتبه السيِّد الشهيد من النظرات الفقهيَّة التي ساوقت ببراعة الطرح ما طرأ على هذا الفنِّ المهمِّ من التطوُّرات والنظرات الجديدة التي جعلت منه فناً إشكالياً داخل حلقات المختصِّين منذ هوميروس إلى أن هلهل المهلهل بشعره، وتبعه في ذلك الآلاف من المبدعين في الشعر، حتى وصل الأمر إلى مراحل تجديده القصوى في القرن الماضي، على يد أبرع كتاب الشعر الحديث من السياب حتى أدونيس، بحيث انَّ مسألة النظر إلى الشعر وما ينبغي أن تكون عليه القصيدة شكلاً ومضموناً هي من الإشكاليات التي لم يعد ممكناً النظر إليها على أنَّها قضيةٌ سطحيَّةٌ يمكن للمهتمِّ بهذا الفنِّ اعتبارها محسومةً باتجاه ما يراه هو شعراً، بناءً على نظرةٍ عامَّةٍ موروثةٍ تميِّزُ بين ما هو شعريٌّ وما هو غير شعريٍّ، دون أن يضطرَّ إلى الخوض في مساراتٍ واتجاهاتٍ مختلفةٍ ومتباينةٍ فيما بينها الى درجة التصادم أحياناً للتنظير حول مفهوم القصيدة، إلا أنَّ الفارق بين الطرح الذي يتقدَّم به السيِّد الشهيد والطرح الموجود في أرقى مناهج النقد الأدبيِّ هو الفرق المقرَّر في اختلاف زاوية النظر المحكومة بكون المعالجة النقديَّة عند السيِّد الصدر ليست مقصودةً لذاتها، بل هي مقصودةٌ بصفتها موضوعاً ينبغي للفقه - باستيعابه لكلِّ مفردات الحياة الإنسانيَّة، لا استحواذاً ومصادرةً لحقِّ الإبداع بالطبع، ولكن ترشيداً لمسارب الإبداع البشريِّ بحيث تكون متناغمةً مع المصلحة البشريَّة العامَّة، ولكي لا تكون وبالاً على الإنسان، خلافاً للغاية المرجوَّة من أيِّ إبداعٍ إنسانيٍّ في الوجود- أن يتَّخذ موقفاً منها من خلال منهجيَّته الإستدلاليَّة المعمَّقة وفقاً لمقرَّرات الدين الحنيف، بالرؤية المنفتحة، والمقاربة الصحيحة، التي لا تظلم إبداعاً ولا تحجِّمه بضيق أفقٍ شخصيٍّ قد لا تكون الشريعة مسؤولةً عنه فعليّاً، بل هو ضيق أفقٍ شخصيٍّ لدى بعض الفقهاء من ذوي الإطلاع القليل على أسرار هذا الفنِّ وآليات إبداعه، أوقعهم في مثل النتائج السلبيَّة في تأريخ الفقه التي اتخذت من الشعر ومنتجات الخيال مواقفَ اتسمت بالنكوص عن أخذ ضرورات الإبداع الشعريِّ في نظر الإعتبار.

بينما تكون زاوية النظر التي ينطلق منها الناقد الأدبيُّ عادةً متحررةً من هذا القيد، بل إنَّ كثيراً من النقاد يتخيَّلون أنَّ الشعر والضرورات الفنيَّة لإبداعه لا يمكن لها بحالٍ أن تقع ضمن دائرة الإستيعاب من الرؤية الفقهيَّة التي تتوخّى الإتفاق مع مراد الشريعة من البشر المتمثِّل بالإستقامة على الطريق، طريق الرحلة الإنسانيَّة الشاملة نحو الغاية المتعيِّنة بالكمال، شعراً وعلماً وإبداعاً بشرياً في مختلف المناحي والمجالات.

ما يلفت الإنتباه هو هذا التخلُّف الفظيع في فهم الشعر في أروقة المدن التي حملت مشعل الثقافة والفكر، سواءٌ ما كان منه دينياً أو غيره، فمثلاً لو أقدم الشاعر الحديث على نشر ديوانه في مدينة النجف، فإنَّ منجزه الشعريَّ مهما كان بارعاً ومتجاوزاً ومحققاً لأعلى مستويات الكمال، لا ينظر إليه بعين الأهمِّيَّة، بل سيعتبر شيئاً تافهاً لا ينبغي لذي الذائقة الشعريَّة الحقيقيَّة الجادَّة الإلتفات إليه أو الإهتمام بشأنه، وليس السبب في هذا إلا أنَّ الذائقة العامَّة عند الطليعة الفكريَّة في هذه المدينة العظيمة قاصرةٌ عن الإطلاع على المنجز الشعريِّ العالميِّ وما كتب حوله من الأطروحات النقديَّة والتحليليَّة العامَّة، بل إنَّك لتجد الكثيرين إلى الآن يعتبرون الشعر كلاماً موزوناً مقفّى وحسب، بناءاً على تعريفاتٍ موروثةٍ قرأوها في الكتب النقديَّة القديمة يوغل بعضها في القدم فيتماسُّ مع زمن الأراجيز الشعريَّة لرؤبة والعجاج، أو سائر الشعراء الذين اعتاد النحويون اعتماد أشعارهم كشواهدَ نحويَّةٍ في كتب النحو التقليديَّة داخل شرح ابن عقيلٍ أو ابن هشام.

حتى الجواهري وعلي الشرقي وأحمد الصافي النجفي وعبد الأمير الحصيري لم يحقِّقوا مستوىً من الحضور الفاعل في الساحة النجفيَّة إلا بعد أن حقَّقوه أوَّلاً في حواضرَ أخرى من العراق أو العالم، فالقديم يكتسب صفة القداسة في نظر متذوِّقي الشعر في هذه المدينة على حساب الحديث أياً كان نوعه، موزوناً مقفىً أو منفلتاً من القافية محتفظاً بالوزن، أو متجرِّداً من كليهما منحازاً إلى الشعريَّة المحضة الخالصة، ولكن تحقَّق الحضورُ فيما بعد للجواهري وزميليه في المثال بناءً على الحضور الذي حقَّقوه قبل هذا في أمكنةٍ أخرى قصيَّةٍ من العالم.

ولا يعزى هذا في رأيي إلا إلى عدم الإحتكام إلى نظريَّةٍ نقديَّةٍ متطوِّرةٍ تساوق التطوُّر الحاصل في الذائقة الشعريَّة الإنسانيَّة العامَّة، فيعود فقدان هذه النظرة المعياريَّة الصحيحة بالظلم الفاحش على منجزات المبدعين في هذه المدينة وغيرها من المدن التي تعاني نفس المشكلة من التردِّي والتخلُّف في نطاق التلقِّي الصحيح للمنجز الإبداعيِّ الشعريِّ عموماً.

بالإضافة إلى ما يتعرَّض له الشعراء أحياناً من الفهم القاصر لما ينسجونه من المجازات والإستعارات والصور الشعريَّة وسائر ما يتطلَّبه البناءُ الفنيُّ للقصيدة بمختلف أشكالها وأنماطها، فترى البعض يلصق بالشاعر تهمة المروق عن الشريعة لا لشيءٍ إلا لأنه استخدم مجازاً شعرياً، أو استعارةً شعريَّةً ترقى بالمستوى الفني للتعبير، أو لأنه نسج صورةً شعريَّةً اعتقد المتلقِّي بقصوره في فهم واستيعاب متطلَّبات القصيدة أنها خروجٌ على اللائق في الكلام قياساً على ما اعتاد تلقِّيه من الكلام المباشر غير الشعريِّ في المحاورات الخاصَّة والعامَّة، أو قياساً على ما اعتاد تلقِّيه أيضاً من الشعر المباشر الذي بمجرَّد أن تسحب منه جواز مروره المتمثِّل بالوزن أو القافية لا يعود شعراً، بل إنَّه سيعود كلاماً عادياً لا مزيَّة له على الكلام المنثور، بل ربما كان أدونَ بكثيرٍ من الكلام العاديِّ المنثور بفقدانه للمضامين الفكريَّة الناصعة في التعابير النثريَّة الفكريَّة المتنوِّعة.

لن يكون الشعر شعراً إلا متى ما فهم فهماً خاصّاً ولم يحكم بمعايير النثر، وإلا لكان الشعر جنوناً حقيقياً وليس مجازياً كما هو الشائع عنه، أو لكان أيُّ شاعرٍ لا مندوحة له من المروق الدينيِّ مهما كان حريصاً على سلامة عقيدته الدينيَّة، بل سيكون مارقاً أوَّلاً كشرطٍ لا بدَّ منه لكي يكون شاعراً.

إنَّ مزاولات الشاعر مجازيَّةٌ، تصويريَّةٌ، خياليَّةٌ بالضرورة، فلا ينبغي محاسبتها على أساس أنها مزاولاتٌ واقعيَّةٌ حقيقيَّةٌ منهجيَّةٌ، وإلا جرَّدنا الشاعر من كينونته شاعراً وحكمنا عليه بالإعدام.

 

تعريف الشعر عند السيِّد الشهيد محمَّد الصدر

قرَّر السيِّد أنَّ لفظ الشعر في الإستعمال التقليديِّ يطلق ويراد به الكلام الموزون المقفّى، ولا شكَّ أنَّ هذا المعنى هو المتسالم عليه من قبل المهتمِّين منذ قرونٍ قبل انفتاح التنظير النقديِّ على مفهوماتٍ جديدةٍ مبتكرةٍ للشعر في الأزمان المتأخِّرة الحديثة، فالشعر في النظرة التقليديَّة هو الكلام المنظوم ولا شيء غير ذلك فيقال: نظمت الشعر أو نظمت الخرز أي جمعتها في المسلك، ويراد به ترتيب الكلام طبقاً للوزن والقافية، وواضحٌ أنَّ النظام والتنظيم هو التأليف والترتيب، فإذ يؤلِّف الإنسان بين الكلمات ويرتبها فهو ينظمها "ومن هنا أطلق التأليف على كتابة الكتب وعلى كتابة الشعر أيضاً في اللغة الحديثة"[1].

لكنَّ الشعر في حقيقته مشتقٌّ من الشعور والإحساس، "وكلُّ كلام ٍ يعبِّر عن الشعور والأحاسيس النفسيَّة أو يكون سبباً لإثارتها، فهو شعرٌ. سواءٌ كان منظوماً أو منثوراً. ومن هنا قالوا: الشعر المنثور. فإنه شعرٌ من زاوية كونه ممثلاً للشعور والأحاسيس".[2].

فالشعر في رأي السيِّد بناءً على الأصل اللغويِّ الذي منه اشتقَّ لفظ الشعر متمثِّلٌ في التعبير الفنيِّ المكثَّف عن الشعور والأحاسيس الموجودة في خيال الإنسان وباطنه بلغةٍ مؤلَّفةٍ بأشكالٍ مخصوصةٍ يتكوَّن منها ما نطلق عليه لفظ الشعر.

فمن البداية يشعر القارئ أنَّ السيِّد ينقله دفعةً واحدةً إلى قلب الحدث الشعريِّ المعاصر بإطلاق سراح الشعر من الفهم الساذج الموروث المتمثِّل في حدِّ الشعر بما لا يمثِّل حداً أوتعريفاً حقيقياً له، حيث تمثل في اعتبار الشعر موجوداً في خصوص الكلام الموزون المقفى حتى وإن كان متوفِّراً على العنصر الأساسيِّ المقوَِّم له وهو التعبير الفني عن محتويات الشعور والإحساس، ويفسح المجال الواسع أمام القصيدة النثريَّة للولوج إلى عالم الشعر بهذا الإعتبار وحده، وهو التعبير الفنيُّ المتميِّز عن الخلجات الشعوريَّة ومضامين الإحساس، ولا يمنح الوزن والقافية تلك السلطة الإستبداديَّة التي تفرَّدا بها طيلة القرون في خيال المتلقِّين للشعر، فتراه يتبع القسمة فيه بناءً على النسبة الموجودة بين مفهوم النظم ومفهوم الشعر، وهي نسبة العموم من وجهٍ، الى أربعة أقسام:

"القسم الأوَّل: ما يكون منظوماً، يعني موزوناً مقفى، مع كونه معبِّراً عن الأحاسيس والشعور النفسيّ. فهو الشعر المنظوم.

القسم الثاني: ما يكون منظوماً بالوزن والقافية، إلا أنه لا يعبِّر عن الأحاسيس، بل عن بعض الجهات العلميَّة ونحوها كالتأريخ أو النحو أو غيرهما، وهو النظم، وليس هو بشعرٍ لفقدانه جانب الشعور وإن سميناه شعراً، إلا أنَّ هذا الإستعمال مجازٌ في الأصل. وإن أصبح حقيقةً بعد ذلك"[3].

فالقسم الأوَّل شعرٌ بالتأكيد، ليس باعتباره موزوناً أو مقفّىً، بل باعتبار أنَّه معبِّرٌ عن الشعور والأحاسيس، أما الوزن والقافية فهما مما لا دخالة له في جعل الكلام شعراً، وإن أضفيا على الكلام نحواً من أنحاء الإيقاع الوزنيِّ الخارجيّ، وأوجدا ضرباً من ضروب الإنسجام في الكلام المعدِّ لأن يكون شعراً.

أما القسم الثاني فليس شعراً في الحقيقة وإن تواضع الناس على تسميته شعراً، ولا يشفع له كونه موزوناً حسب التفعيلات الخليليَّة أو مقفى ليكون شعراً، مادام خالياً من المقوِّم الأساسيِّ للشعر وهو كونه معبِّراً عن الشعور والإحساس بلغةٍ استعاريَّةٍ فنيَّةٍ مناسبةٍ لهذا الغرض، بل قل عنه إنَّه مقالةٌ علميَّةٌ أو تأريخيَّةٌ أو نحويَّةٌ أو قانونيَّةٌ منظومةٌ بحسب قواعد العروض، ومقفاةٌ لا أكثر ولا أقلّ، فإن أطلق الناس عليه اسم الشعر واعتبر ذلك صحيحاً فلا بدَّ أن يكون ذلك مبنياً على نحوٍ من أنحاء المسامحة، إذ هو تعبيرٌ مجازيٌّ في الأصل بتنزيل ما ليس شعراً بمنزلة الشعر، وإن اعتبر بعد ذلك في عرف الناس تعبيراً حقيقياً.

"القسم الثالث: ماكان معبِّراً عن الأحاسيس من دون نظمٍ وقافيةٍ، وهو الشعر المنثور أو النصُّ الأدبيُّ ونحوه، وهو ليس في مصطلح الناس بشعرٍ إلا أنَّه في اللغة الأصليَّة كذلك"[4].

هنا بالضبط تقع منطقة الشعر، قبل أن يضيف له الإستعمال معنىً زائداً من خارج مقوِّماته الأصليَّة، فيتخيَّل الناس بعد ذلك أنَّ الشعر لا يمكن أن يكون شعراً إلا به، وربما زادوا فظنوا أنه هو فقط المسؤول عن إحداث النقلة في الكلام من النثر إلى الشعر، بينما يعود السيِّد الصدر إلى الأصل اللغويِّ فيستنبط منه بلا تردُّدٍ المعنى الحقيقيَّ للشعر، إذ الشعر طبقاً لهذا ليس إلا الكلام المعبِّر عن الشعور والأحاسيس الإنسانيَّة، ثمَّ يحدث التفاوت في قيمة النصوص الشعريَّة حسب قوَّة التأثير والوسائل التي يستخدمها الشاعر في إحداث هذا التأثير من الإستعارة والكناية والتشبيه والمجاز.

القسم الرابع: "ماكان فاقداً لكلا الجهتين يعني الإحساس والوزن، وهو كلامٌ اعتياديٌّ بليغاً كان أم اعتياديّاً".

هذا هو الكلام العاديّ، سواءٌ كان من اللغة اليوميَّة، أم من لغة الصحافة، أم من لغة الفكر والفلسفة والتأريخ... إلخ.

فحقيقة الشعر إذن قائمةٌ في أنَّ الشعر تابعٌ للشعور والإحساس، ولا عبرة بالوزن والقافية بعد ذلك، فما تكون العبرة فيه بالوزن والقافية هو النظم في الحقيقة وليس الشعر بالمعنى العميق.

هكذا استطاع السيِّد الصدر بنظره الثاقب أن يكتشف الجوهر الحقيقيَّ المقوِّم للشعر، فكان متقدِّماً ورائداً في فسح المجال أمام المحاولات التجديديَّة في مدارس الشعر الحديث لأن تأخذ مسارها في الوجود، بينما وقف أناسٌ هم من أرباب الفنِّ بزعمهم ضدَّ هذا النمط الحداثيِّ في كتابة القصيدة، فمع أنَّ السيِّد لم يقصد أن يكتب بحثاً مستقلاً في مجال النقد الأدبيِّ، ولم يقصد أن يتشعَّب في صياغة النظريَّة الأدبيَّة كما يفعل أرباب الإختصاص عادةً، إلا أنه بوثبةٍ عبقريَّةٍ واحدةٍ قدَّم أكبر الدعم والإسناد لقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، باستدلالٍ بسيطٍ إلا أنه عميقٌ جداً إلى درجة استحالة الردّ، بل أكاد أزعم أنَّ كبار المنظرين لقصيدة النثر رغم التعقيدات الكثيرة في تنظيراتهم للإنتصار لقصيدة النثر لم يستطيعوا أن يبسطوا كلامهم وأن يجعلوه مقنعاً بمثل هذا الأسلوب الذي تحدَّث به السيِّد، ولا ارتقوا إلى مستوى عمق الإستدلال لديه على شرعيَّة قصيدة النثر في الوجود.

 

رأي السيِّد محمَّد الصدر في الأدلَّة الواردة على مرجوحيَّة الشعر

سرد السيِّد أدلَّة القائلين بمرجوحيَّة الشعر وكراهته من زاويةٍ شرعيَّةٍ، ولخَّص تلك الأدلَّة والإستشهادات في كونها تتفرَّع إلى شعبتين:

 

الشعبة الأولى: الأدلَّة القرآنيَّة:

يستدلُّ القائلون بمرجوحيَّة الشعر وكراهته عادةً بالآية المشهورة من سورة الشعراء، ويعتبرونها العمدة في الدليل على ما يذهبون إليه، قال تعالى:>هل أنبِّئكم على من تنزَّل الشياطين. تنزَّل على كلِّ أفّاكٍ أثيم. يلقون السمع وأكثرُهم كاذبون. والشعراء يتَّبعهم الغاوون. ألم ترَ أنَّهم في كلِّ وادٍ يهيمون. وأنَّهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصّالحاتِ وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظُلِموا، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون<.

هنا يأتي من يتخذون من الشعر موقفاً سلبياً فيستخرجون من الآية وجهاً من وجوه الإستدلال فيقولون: إنَّ الآية قد ألحقت فعل الشعراء بالشياطين ونسبته إلى الإفك والإثم والكذب، كما قرَّرت الآية شيئاً آخرَ في منتهى الوضوح، وهو أنَّ الشعراء متبوعون من قبل الغاوين، وأنَّ من يتبعه الغاوي هو أولى بالغواية وأشدُّ فيها، وأنَّ الصفة التي جعلت مِلاكاً للغواية في حقِّهم إنما هي كونهم شعراء، فليس في سياق الآيات ما يدلُّ على وجود صفةٍ أخرى على أساسها تمَّ إلحاق صفة الغواية بمن يتبع الشعراء، وبالشعراء من بابٍ أولى بعد ذلك.

فلقد أجاب السيِّد عن الشقِّ الأوَّل من الإستدلال بما محصَّله: أنَّ الفقرة السابقة على الشعراء ليست مخصوصةً بالشعراء ولا علاقة لها بالإستدلال من قريبٍ أو بعيد، بل غاية ما يستفاد منها بعد الفراغ من كونها مستقلةً عن مقام الإستدلال، هو أنَّ الشياطين تتنزَّل على كل ِّ أفاكٍ أثيم، ومن البديهيِّ جداً أنَّ صفتي الإفك والإثم الدالَّتين على كلِّ ما هو باطلٌ ليستا منحصرتين في الشعراء وقول الشعر، بل يمكن للشعراء وللشعر أن يقعا مصداقاً لهاتين الصفتين، كما يمكن للآخرين من غير الشعراء وممن لا يهتمون بالشعر وبالشعراء لا قليلاً ولا كثيراً أن يكونوا مصداقاً لها بلا أدنى فرق، فما وجه تخصيصهما إذن بأن يكونا صفتين لازمتين للشعراء على وجه التحديد؟.

كما وضَّح السيِّد أنَّ الشعر سواءٌ ما كان منه نظماً بلا عاطفةٍ ولا خيالٍ ولا أحاسيس، أم ما كان منه عاطفياً مشحوناً بالمعطيات الخياليَّة والشعوريَّة والإنفعاليَّة، إنما هو كلامٌ في النهاية، والكلام فيه ما هو حقٌّ، وفيه ما هو باطلٌ بالتأكيد، وطبعاً لا تتنزَّل الشياطين إلا على ما هو باطلٌ، ولا يمكن لنا أن نتصور أنَّ الشياطين تتنزَّل على ما هو حقٌّ، فإذا فرضنا أنَّ السياق غير منفصلٍ، وأنَّ الشياطين تتنزَّل على الشعراء تحديداً في الآية، فلا بدَّ من تقييدها بما يفيد هذا المعنى حصراً، وهو كون الشياطين تتنزَّل على ما هو باطلٌ من الكلام الشعريِّ دون ما هو حقٌّ، وإلا وجب نسبة الحقِّ للشياطين، وهذا ما لا يرتضيه مسلمٌ على أيِّ حال.

ثمَّ إنَّ السيِّد لاحق الإستدلالات الأخرى للواقفين ضدَّ رجحان الشعر شرعاً، وهي قوله تعالى >ألم تر أنهم في كلِّ وادٍ يهيمون< إذ قالوا إنَّ "المراد من الوديان في الآية وديان الأفكار والمعاني، وليس الوديان الأرضيَّة. وتلك الوديان إما أن يراد بها خصوص الوديان الباطلة أو ما يشمل الحقَّ والباطل. وكلاهما فعلٌ باطل. إذ لا يحقُّ للفرد أن يفكِّر تفكيراً باطلاً لا قليلاً ولا كثيراً".[5].

والطريقة التي بها فنَّد السيد استدلال هؤلاء هي الطريقة الإستدلاليَّة المعهودة في الأوساط الحوزويَّة، إلا أنها ليست غريبةً مطلقاً عن الأجواء الحداثيَّة التي تفتح الفهم باتجاه استيعاب الشعر استيعاباً مفتوحاً بشكلٍ لا نهائيٍّ على الدلالات العميقة والمتعدِّدة، سواءٌ للنصِّ الإلهيِّ المقدَّس، أم للنصوص الفنيَّة الشعريَّة باعتبارها نصوصاً بلاغيَّةً لا يمكن استيعابها أو فهمها إلا بناءً على أسسٍ وقواعد خارج نطاق الأسس والقواعد التي يتمُّ من خلالها فهم النصوص غير الشعريَّة باعتبار سعة وتعقيد الشبكة التأويليَّة التي يتطلَّبها النصُّ الفنيُّ البليغ الذي يتخذ من المجاز والإستعارة وسيلةً قصوى لتحقيق الأثر المطلوب من الخطاب، فهو أوَّلاً لا يسلِّم معهم أنَّ المراد من الوديان هي الوديان الذهنيَّة، بل الأقرب أن يقال إنها الوديان الأرضيَّة ذاتها، لأنها بهذا المعنى حقيقةٌ، بينما هي في المعنى الآخر مجازٌ، ولا ضرورة تستدعي صرف العبارة عن المعنى الحقيقيِّ في الآية كما هو واضح.

كما إنَّ الهيام في الوديان الأرضيَّة بعد أن يتعيَّن حمل معناها على المعنى الحقيقيِّ ليس مذموماً "بل لا شكَّ أنَّ هناك وجوهاً عديدةً من هذا الهيام حقٌّ، أو أقربُ إلى الحقِّ، نذكر منها ما يلي:

أوَّلاً: انهم كانوا يهيمون من أجل التفكير والتنزُّه عن المشاكل والضيق، لأجل أن ينفتح لهم الوحي بنظم الشعر أيّاً كان مضمونه.

ثانياً: انَّ الهيام قد يكون لأجل الإعتزال عن الناس، نظراً إلى انغماسهم في المعاصي وارتكابهم للآثام، زهداً بالمجتمع والدنيا.

ثالثاً: انَّ الهيام قد يكون لأجل عاطفة الحبِّ، فإنَّ الدرجة القويَّة منها قد تحمل على الهيام كما هو معروفٌ، وقد حصل لعددٍ من الأشخاص خلال التأريخ المنظور. وأشهرهم مجنون ليلى. والحبُّ كما يمكن أن يكون لبعض البشر يمكن أن يكون إلهياً خالصاً مخلصاً[6].

 ووفقاً لطريقة السيِّد في التنزُّل على رأي المعارض، توخياً للإرتقاء بمستوى الإستدلال إلى أعلى المستويات وأقواها بياناً وحجَّةً، يبيِّن السيِّد أنه حتى لو قلنا بأنَّ الوديان في الآية إنما هي الوديان الذهنيَّة، فإنَّ النتيجة ليست إلى جانب المعارض، لأننا سنفترض "أنَّ لها >الوديان الذهنيَّة< إطلاقاً أوشمولاً لكلِّ أشكال هذه الوديان، وهي تنصُّ على ذلك: >في كلِّ وادٍ<، وعندئذٍ يمكن إخراج الوديان الحقَّة عن الذمِّ والمرجوحيَّة، واختصاص الوديان الباطلة لها".[7].

ثم يتنزَّل السيِّد أكثر لرأي المعارض، فحتى مع التسليم – طبقاً للسيِّد- بأنَّ الوديان ليست إلا الأفكار الضالَّة، فإنَّ خطور الفكرة الضالَّة بمجرَّدها على الذهن أو محاولة إخطارها، أو استعمالها التصوُّري الذهنيّ، ليس من باب الباطل ولا من باب الضلال، فإذ تخطر الفكرة الضالَّة أو يتعمَّد الشخص جلبها إلى ذهنه من أجل أن يدخلها في معادلةٍ ذهنيَّةٍ ما، يكون من نتائجها فكرةٌ حقةٌ أو يستنتج من خلالها ما هو صحيح. وليس هذا بالنادر، بل إنَّ مجمل العمليات الذهنيَّة التفكيريَّة إنما تتبع في الذهن البشريِّ هذا المسار.

فليس الباطل، وليس الضلال إذن، خطور الفكرة الباطلة أو الضالَّة في الذهن، بل الضلال والباطل أن يؤمن الشخص بمفرده أو المجتمع بالفكرة الضالَّة أو المنحرفة، ويحاول الفرد أو المجتمع إقناع الآخرين بها من خلال الدعوة إليها.

 وبالطبع، لا يمكن لأحدٍ أن يزعم أنَّ مثل هذا المعنى من اعتقاد الشعراء بالباطل والإيمان به والدعوة إليه مما تقرره الآية بحقِّ الشعراء.

أما عن الإستدلال بقوله تعالى: >وأنهم يقولون ما لا يفعلون< فليس وجه الإستدلال منحصراً في كون هذه الصفة في الشعراء مدعاةً للذمِّ باعتبارها رذيلةً، لأنَّ الوجوه المحتملة من هذه الصفة في الشعراء تتعدَّد:

الوجه الأوَّل: "أنهم بقولون الباطل ولا يفعلونه"[8] فالشعراء غالباً مايستعملون صوراً ومجازاتٍ واستعاراتٍ ليست بالضرورة أن تكون صادقةً، بل ربما كان كذبها-بالمعنى الفنيِّ طبعاً- وسيلةً لا بدَّ منها للنهوض بالكلام النثريِّ إلى مستواه الشعريّ.

 وليس خفياً أنَّ المجاز إنما هو كذبٌ مباحٌ باعتبار إمكانيَّة رجوعه إلى الحقيقة، لكنَّ الفرق بين المجاز الشعريِّ والمجاز في الكلام غير الشعريِّ إنما هو في اختلاف الغاية والدرجة، فغاية المجاز في القصيدة يتمثَّل في نفسه، أي إنه غاية نفسه في تشكيل عوالم وفضاءاتٍ شعريَّةٍ لا تحيل إلى الواقع الخارجيِّ، فإن أحالت إلى واقعٍ خارجيٍّ معينٍ فإنَّ هذا يحدث في الغالب من خلال مرور النصِّ الشعريِّ في عملياتٍ تأويليَّةٍ مكثَّفةٍ عديدةٍ، تختلف قوَّةً وضعفاً بحسب القدرات التأويليَّة، والمرجعيات الثقافيَّة للقراء أو المتلقِّين العديدين.

وتبعاً لهذه الغاية فإنَّ قوَّة المجاز وغرائبيته وغموضه هي أقوى وأبعد وأغزر من مثيلاتها في الكلام النثريّ، دون استثناءٍ للنثر الفنيِّ طبعاً، فإنَّ أمر إحالته إلى الواقع الخارجيِّ المعين هو من جملة مهامِّ هذا النصِّ دون القصيدة.

الوجه الثاني: "أنهم يقولون الحقَّ ولا يفعلونه لأنهم خارجون عنه موضوعاً. أو لا يحتاجونه في حياتهم الخاصَّة".[9].

هذا هو الوجه الآخر المحتمل من معنى الآية، فقد يقول المرء شيئاً ولا يفعله، لأنَّ ما يدعو إليه بالقول مثلاً لو تنجَّز على أرض الواقع، لاحتاج إلى تحقيق مقدِّماتٍ قليلةٍ أو كثيرةٍ تدخل بصفتها قيداً على الوجوب، فلا يكون ما يدعو إليه واجباً في حقِّه أن يفعله، كمن يدعو إلى أداء فريضة الحجِّ مثلاً وهو غير مستطيع، فلا يمكن اعتبار هذا الشخص متناقضاً لأنه يدعو إلى الحجِّ وهو لا يحجُّ، لأنَّ وجوب الحجِّ مشروطٌ بالإستطاعة، وهو فاقدٌ لهذا الشرط، فلا يكون الحجُّ واجباً عليه، وهو غير متناقضٍ في دعوته المستطيعين للإلتزام بأداء الفريضة، كذلك قد يدعو الشعراء إلى الإستبسال في المعارك، أو إلى العطف على الأرملة أو الفقير، أو إلى مختلف الفضائل التي تحتاج في تنجُّزها بحقِّ الشخص إلى حيثياتٍ وشروطٍ قد لا تكون موجودةً في حالة الشخص الداعي إليها فلا يفعل الكثير منها، فلا يكون مثل هذا الشخص متناقضاً بالتأكيد.

فليس هناك من معنىً للآية لو صحَّ هذا الإحتمال، إلا أنها تقرِّر حالة الشعراء في عملهم الإبداعيِّ الذي يقتضي منهم الدعوة إلى أشياء وأخلاقٍ وفضائل قد لا يفعلونها لقصورٍ فيهم من ناحية توفُّر ما هو شرطٌ في الإرتقاء بوجودها القوليِّ إلى مستوى الوجود الفعليّ، دون أن نفهم منها تقييماً سلبياً بحقِّ الشعراء بالضرورة.

الوجه الثالث: "أنهم يقولون الحقَّ ولا يفعلونه، لأنهم لا يحتاجون إليه باعتبار أنهم أعلى مستوىً أو أدنى مستوىً في مقامهم الإيمانيِّ من مقدار بيانهم وقولهم، وإنما ينفع قولهم من يناسب مقامه الإيمانيّ، وهم إنما ينفعهم أمرٌ آخر غير ما يقولونه".[10].

إنَّ الناس يختلفون من جهة استعدادِ كلٍّ منهم، ومستوى تكامله الإيمانيّ، وتبعاً لهذا الإختلاف، فإنَّ ما يناسب طائفةً منهم قد لا يناسب الطائفة الأخرى، وما يقع منسجماً مع مستوىً إيمانيٍّ معيَّن، قد يكون متنافراً مع مستوىً إيمانيٍّ آخر، وهذا الأمر معلومٌ ومشهودٌ بالنسبة لمن اهتمُّوا بمتابعة هذه الأحوال في نفوسهم. فلو كان مثلاً ما يناسبني في المقام الإيمانيِّ المعيَّن أن آخذ نفسي بالتكاليف البسيطة دون التكاليف الشاقَّة التي تناسب مقاماتٍ إيمانيَّةً أعلى، فأنا تبعاً لهذا، أتصرَّف بعين الحكمة، دون أن يقتضي مني هذا الوضع أن أتنكَّر إلى تلك التكاليف الشاقًّة أو أن أفتر عن الدعوة إليها لمن بلغ مستواهُ الإيمانيُّ منزلةً تناسبها تلك التكاليف، وهي بالنسبة إليها واقعةٌ في نطاق الحكمة، وهذا هو حال الشعراء من جهة أنهم يمدحون الأشياء في تخيُّل أنها بلغت الذروة والنهاية في الكمال شوقاً إلى تلك المنزلة، حتى لو لم تكن متحقِّقةً في الأشياء بالفعل، وما ذلك منهم إلا أنَّ نفوسهم طامحةٌ إلى الكمال، نزّاعةٌ إلى المثال، وإن فقدت القدرة والمرتبة التي تصبح بها تلك الكمالات أو تلك المثالات في حقِّهم ممكنة.

ثمَّ إنهم استدلُّوا بقوله تعالى: >إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا< المشعِر بأنَّ الممدوحين هم غير أولئك ممن سبق ذكرهم في الآية، والنتيجة هي أنَّ الشعراء ليسوا من الممدوحين، وإنما يكونون من الممدوحين فقط متى أعرضوا عن تلك الصفات التي ذكرتها الآيات قبلها وتابوا عنها.

 

فيكون ردُّ السيِّد الشهيد على هذا الإستدلال:"اننا عرفنا أنَّ للشعراء شمولاً وإطلاقاً لجانبي الحقِّ والباطل، فتكون هذه الفقرة التي ذكرناها الآن بمنزلة القرينة المتَّصلة المقيِّدة لذلك الإطلاق، وهو ما يدعم نفس الفكرة التي كرَّرناها في الجهات السابقة، من أنَّ الذمَّ مختصٌّ بالباطل ولا يحتمل أن يكون شاملاً للحقّ."[11].

ثمَّ إنَّ السيِّد أشار إلى نقطتين في الآية ينبغي الإلتفات إليهما:

النقطة الأولى: إنَّ الآية لم تشترط على الشعراء التخلِّي عن الشعر في مقابل استحقاقهم لصفة الإيمان، بل من البديهيِّ أن يقال: إنَّه من الممكن جدّاً أن يكون الإنسان شاعراً، ويستحقّ مع ذلك أن يوصف بالإيمان، وبأنه من الذاكرين لله كثيراً، بل قد يكون الشعر نفسه عاملاً مهماً في بلوغ المرء مراتبَ عليا في الإيمان وذكر الله تعالى، فلا وجه للتنافي والتضادِّ بين الشعر وهاتين الصفتين.

النقطة الثانية: قد يكون الإستثناء هنا في قوله تعالى >إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً< هو الإستثناء المنقطع، أي المنفصل عن الحديث السابق الخاصِّ بالشعراء، فيكون ما بعد الإستثناء مدحاً للذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً من غير الشعراء، دون أن يكون لهذا السياق الجديد علاقةٌ بالسياق السابق الخاصِّ بالشعراء، فلا يوجب لهم مدحاً ولا ذماً،لأنهم خارجون مصداقاً من هذا السياق.

أما السنَّة الشريفة، فيوجد فيها ما يدلُّ على أنَّ التفسير الصحيح لهذه الآية متَّجهٌ صوب اعتبار الصفات السلبيَّة التي تلحقها الآية الشريفة بالشعراء مختصَّةً بأهل الباطل منهم على وجه الخصوص، وهم الذين سخَّروا طاقاتهم الشعريَّة ومواهبهم البيانيَّة والخياليَّة لخدمة أعداء الحقِّ، أو أعداء آل محمَّد، أو أعداء الله على وجه العموم.

تابع القسم الثاني من الدراسة

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1121  الاثنين 27/07/2009)

  

 

في المثقف اليوم