قضايا وآراء

قراءة وتأويل لقصيدة: فضاء العصافير للشاعر محمد علي الخفاجي

 الزمان + المكان، اما العصافير فهي دالة متقلبة، بمعنى متحركة في لا زمان ولا مكان محدد بعينه . من هذا، يحمل / النصيص / سمة اللااستقرار، اللاثبات، التنقل، بيد انه لم يفقد سماته الاخرى : النقاء، الوداعة، التطريب، وبهذا تحقق / ثريا */ القصيدة نقلتها النوعية الاولى منذ البداية، وتخلق لنا وسطا" نستطيع التحرك فيه في ضوء معطيات زمكانية . القصيدة عبارة عن اربعة مقاطع طويلة نسبيا"، يبدأ المقطع الاول بتقديم الخبر على المبتدأ :

 

بيضة انا من بيضها

التوكيد هنا واقع على التوصيف الملحق بــــ / المبتدأ / وهذا يحقق كمال خلقة / البيضة/ في الوصف الخارجي . انه لايعني ان لااحد غيره قد اكتسب هذه الصفة لان ذلك يبطل الوصف في غيره، لكنه يريد ان يقول ان التصوير الحادث للشكل الذي صوره مقصور عليه . وانه ليس لاحد غيره مثل هذا التوصيف . فالتوصيف اللاحق توصيف مركزي في الشخصية والذي يتجلى في السمة الخارجية لوصف / البيضة/ . هذا هو كل ما يمنحنا الراوي، فسمة البياض سمة اساسية، كونها تتوخى كشف المستور الواقع في ما وراء القشرة الخارجية . اذن التأثير الذي تؤديه السطور الاولى متأت مما تؤديه من سلسة من الافعال المتوالية التي تزيد من سعة التأثير في تصغير المشهد الى الحد الذي يمكن ان ننظر اليه من خلال / بيضة / .

ان عملية/ الكسر / الحاصلة للبيضة طبيعية اذ ان من صفات / الحجر / الاستقرار والثبات والقوة غير ان الصفة الملصوقة به تحمل شحنة تضعيف التأثير الذي تتوخاها القصيدة منذ بدايتها . انها تدين زخم فعل التدرج، وتحاول اخفاء / الفاعل /في عملية الدفع مما يجعلنا امام حيرة اخرى، اذ ان الراوي يسعى الى بلورة رمزية (البيضة + العصافير) التي تتبادل البنى الاشارية التي تلتقي فيها كل معطيات (الفضاء) المشار اليها انفا" .

يستمر اللون الابيض في مرافقتنا على نحو غير طارئ، بل اضحى القاسم المشترك الاعظم في عملية رسم القصيدة برمتها 

 

فاستدارت إلي بجراتها

وارتني على الصدر كوزين من لبن

وعلى كل كوزلها وردة

هنا ثمة معطى يتداخل فيه اللون + الرمز . فالبن ذو لون ابيض غير ان هذا اللون لاينفصل عن كينونة اللبن التي مؤداها التغذية داخل مناخ / اللولادة / والتي لم تنفصل عن فعل الخروج الزمني من / البيضة / التي تحمل المعطيات نفسها.ولم يترك الشاعر هذا المعطى الاخير من دون ان يشكل فيه مناخا" يثير فينا البهجة بواسطة كلمة / وردة / اذ ان الصورة هنا قد اكتملت، اذ تحمل /لوردة/صفة تزييية

لذلك لم يشرالراوي الى نوعها ولا لونها لانها في حدود المألوف غيرانها داخل المحكي الشعري نقطة انحراف المسلك واشارة تنبيه الى ما سيأتي، لهذا يحرف الشاعر خط سيره ليفاجئ المتلقي بفعل حركي تنبيهي

فأتبهت

ان فعل /لانتباه / يؤشر سكونية ما قبله وهذا ما يوحي الى ان الراوي كان يرصد الاشياء من دون ان يتدخل فيما هو راصد . ويتولى فعل الحركة / سرت، سرى، سرت، السريان المتوالي باتجاه النسق الصاعد، هذا السريان يقع في حالات خارجة عن القصد العام المبيت في القصيدة لتوحي ان المنتوجات الدلالية تنبع من كفاءة التغيير الحاصل في النظام التشفيري، ومن ثم تغدو رموز ذلك النظام مبنية على اسس متينة من اجل ان يبقى النص منفتحا على تاويلات متعددة . هذا التغيير لنظام التشفير ميزة مهمة في الشعر الحديث،اذ انه يكسر قيود الدوران في مساحة ضيقة، ويتيح من اتساع رقعة الدلالة الناجمة عنه، وبهذا يحقق الخطاب سمته الابداعية .يستمر فعل الافتتان بالشخصية المغيبة في المقطع الاول، اذ يتخلى الراوي عن فضاءه متخذا من المكان وسيلة لانبثاق صيرورة جديدة

 

صار لي حضنها جنة

وفضاء له سعة الكون

كلما انشدتني

تطير الفراشات من فمها

لتغمرني بالحنين

 

ان الصفات انفا على الرغم من سماتها العامة الا انها لا تفضي الى ادراك ماهية الشيء المتحدث عنه الا اذا وضعنا الاهداء في الحساب . ان تغييب التوصيف يضفي اغراءا على التتبع وكنت اميل الى رفع هذا الاهداء كي تكتمل ماهية الاخفاء الذي يتوخى الشاعر منه دالة ضمنية تضفي ابهاما على تكوين، او مخلوق معروف . حملت بنية الخطاب رمزا محذوفا لكنه مصرح به ضمنا، لهذا فسر البوح يكمن في هذا التصريح الذي يكمن فيه فعل الدهشة المتحقق اصلا" من متعة التصريح .  يستمر الرصد الخارجي للراوي في المقطع الثاني، بيد ان البنية الداخلية تمنحنا كينونة الداخل الذي يتمرأى هذه المرة على شكل مغاير لما كان عليه في المقطع الاول . فالطير هنا طير ورقي، أي منتج صناعي، وهو هنا وسيط بين البنيتين، اذ يحمل سماتهما من حيث اللون والكنه السماتي، انه – هنا – يتوخى بنية العرض الكينوني المتحول، فوصف الطير بالورقي محاولة من الشاعر لخلق صورة محيية يترتب عليها شعور بشدة تعلق الام بهذا القائد بدليل القرينة اللاحقة / تبم جميع نفائسها حول اجنحتي / ويقتربالسرد في الوقت نفسه من تأسيس الية عاطفية تلم عن روح شفيفة تتوخى الحفاظ على ما تبقى

 

حين انام

اراها تنام على المهد

واسمعها تهمس: سبحانك الله

لااجد النوم الا هنا .

كأني بذلك اوقظ كل لقالق وحشتها

 

تتناوب في هذه السطور الخمسة تخريجات لافعال تنحو منحى" تراتبيا"، فنلاحظ ان الفعل / انام / يقابله الفعل تنام، وانام يقابله تهمس، وانام يقابلها لااجد النوم الا هنا . ففعل / النوم / المتحقق للطائر ينحت سياقيا" نوم الاخر / الام / . اذن حيثما يحل الطائر تنبثق كل احساسات المرأة / الام حيال طائرها بغض النظر عن كينونته الموصوفة داخل المحك الشعري

 

                                   واذا ما رأتني ابكي من الجوع

                                  تدخل في قلبها

                                 وتخرج لي كسرة من حنان

                      

ان الثيمة الفنية للاسطر الثلاثة تكمن في تلك الصورة الجميلة التي رسمها الشاعر بفرشاة فنان مبدع . فالصياغة الشعرية المتقنة متأتية من اختيار الفعلين (تدخل وتخرج) المكملان لبعضهما في دائرة البنية الخارجية والبنية الداخلية على مستوى الخطاب . فالرؤية فعل خارجي يتحقق بتحقق البعد الداخلي في الوقت نفسه، أي ان المنتج الزمني الذي اكتملت به الصورة قصير جدا" والذي يتم عن طريقه بناء الوجود المتجذر للام في الذات الانسانية كونها مركز الوجود

 

خذوني

ولو شمعة في صواني الثواب

خذوني لها

هنالك

لاترفعوا اثرا" تحت اقدامها

الم يجعل الله جنته تحت اقدامها !

 

ان الشمعة هنا فعل اضاءة حيث ما تنتشر ظلمة الروح، فالطلب محكوم بنزوع انساني شفيف، اذ ان الراوي يحاول ان يجعل ما حوله وسطا" مناسبا" يحقق له الوصول الى مبتغاه، فهو يتوسل بكل العناصر الايجابية التي تديم زخم مقصديته في تطوير البعد الدرامي الذي يغلف نفسيته نتيجة فقدان محور وجوده / الام / .

تتسارع في المقطع الاخير ضربات الفعل الدرامي بأتجاه الذروه. فالاشارة الحاصلة في السطر الاول من المقطع الاخير والمتمثلة بالظرف الزماني / الان / يعطي الجملة بعدين، اذ كان من الممكن ان يرفعه الشاعر ويقول / انا اذكرها / لكن حقق مقصدين اولهما انه اعطى الجملة بعدها الزمني المقترن بالحالة القائمة، والثايية التركيز على زمن اللحظة المقترنة بفعل التذكر، وهذا ما يوحي الى ان / الان /متعلقة بفعل ماض وان كان متحققا" زمنينا" في لحظته، وهذا مكا افاد التخصيص عن طريق اسناد الضمير / انا / الى الظرف الان واسناد الظرف الاني الى الضمير . هذا التلاقح الزمكاني بين الانا + الزمن + المكان (الذاكرة) يبلور لنا فكرة المحايثة المتشكلة في الوقائع التي يسردها الراوي والتي هي جزء من تكوينه .

في المقطع الاخير المتكون من سة سطور يتحقق وجود المرأة / الام / في نطاق ما هو زمكاني بنحو يبدأ في نقطة زمنية محددة هي / الان / وينتهي بنقطة مكانية تحل زمن لحظتها / الظل / . هذه المرأة مترادفة زمكانيا" على وجود الرواي / الشاعر / بواسطة عاملين :

 

هي باقية بعدها

كما هي باقية بعدها

 

اذا" المرأة / الام / تنسخ كل ما قبلها وكل ما بعدها من حيث وجودها الانساني داخل ذات الراوي، وهذا ما جعلها رمزا" ذا معان سامية متجسدة في كل ذات انسانية . فالام / الرمز / التي فاضت روحها لما يزل ظلها متحققا" زمكانيا" في كل ضمير حي .

 

....................

فضاء العصافير / قصيدة / لمحمد علي الخفاجي / مجلة الاقلام / العدد الثاني اذار – نيسان /2008

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1121  الاثنين 27/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم