قضايا وآراء

اندماج العقل بالدماغ

أو ربما غيّر مساره التطوري من تطور عضوي وراثي إلى تطور ثقافي وراثي، نشّط ملامح نوعية في بنائه العضوي مما غيّب نظام بنائه العضوي، مع المراحل الهامة المؤثرة في بنائه. من بناء طبيعي إلى بناء اجتماعي ثقافي من خلال طفرة حاصلة غيّبت الذاكرة الطبيعية من بنائه، وبدأ وجوده النوعي يفترق عن نظام الكائنات الأخرى، فأعطت القابلية الدماغية مهارات مخالفة لبداياتها، لأن طريقة التجاوب النوعي مع عصر الدماغ الحديث أظهرت تفوقاً في نظام الاستخدام، نظراً لظهور مجال أوسع في نظام اللغة والبحث الفكري، بما يظهر الواقع العقلي للبشر بفضل الثقافة كبنية دماغية موجهة نحو مجالات مرتبطة بنظام اللغة، فتكيّف الدماغ معها بطريقة تلازمية، ومع ظهور الأدب والفن والفكر بكافة أصنافها المرتبطة بنظام الحياة البشرية ومجال العلم بكافة مجالاته،  ليعطي الدماغ نظاماً للتوجه نحو التقدم في مجال الحياة العقلية للبشر، وتوظيف جميع التقنيات الناتجة عن تجارب العقل في خدمة الواقع الإنساني ، للوصول إلى بنية مطابقة لماهية التقدم العلمي في كل مجال له علاقة بالحياة الإنسانية ، كنظام لوجود قائم على بنية فوقية قائمة على نظام من المعارف المتطورة، وبنية تقنية تحتية تدعم النظام الفوقي ونظام الوعي الإنساني بكافة أبعاده الثقافية والعلمية.

فالبنية الإنسانية المتداخلة مع نظام العقل بما يمتلك من مهام يدرك مجالها في نظام الكينونة القابلة للزوال، وبهذا يرتبط العقل بواقع الكشف عن مكوناته الدالة على بقائه في نظام الوجود، والمستمر خارج حياة العضوية، كوجود لمعرفة متجولة في نظام الكون ومرافقة لتبدل العضوية الإنسانية ، لأن أي كائن إنساني في نظام الزمن يرغب في إحداث بنية باقية من أثره في نظام الحياة، وهو يعرف تماماً بأنه كيان عضوي محكوم عليه بالموت، فيرفع من قدرته للارتباط بنظام وجود الحياة بطريقة عضوية من خلال النسل، وبطريقة غير عضوية من خلال معرفة، تتخذ من جاهزيتها العالية وإبداعها الفائق ضماناً لبقائها في ذاكرة الوعي الإنساني القابلة للتعاقب في نظام الأجيال المتتالية، لتأمين حضورها في نظامهم العقلي، فالشخصية القادرة على ربط وجودها في هذا النظام، تظهر من خلال جهدها المتواصل كوعي قادر على رفد نظام الدماغ بشيء من الارتباط بنظامها الفكري، وهكذا تتخذ من بقائها في الذاكرة كرمز لبقائها قي نظام عضوي متغيّر في ميدان التعاقب الجسدي المرتبط بالمسيرة النوعية للبشر. ويمكن لأي معرفة تمثل خدمة أو كشفاً أن تلتصق بالوجود، ويصبح من الصعب إخراجها منه، لأن البنية الداخلية في نظامه تمثل قوة معرفية غير مسبوقة في نظام الوعي الإنساني ، ومن واجب الخلود النوعي الحفاظ على هذا الإنتاج كرمز مطبوع في الذاكرة الإنسانية، وهذا ما يربط الوجود العضوي بنظام البقاء المعرفي للبشر، لأن العقل الإنساني غير قابل على نسخ جميع العقول في نظام الحياة، ولأن الحياة العقلية كبيرة التنوع في الوجود والعدد، وهذا ما يمنع بقائها في نظام الذاكرة الباقية للوعي، وفي مرحلة الطفولة البشرية كان الوعي محدود قي إطار طبيعي مغلق وخاص بكل مجموعة بشرية، كانت الذاكرة الجماعية تحتفظ بنسخة عن طبيعة وعي الأفراد في نظامها، لفترة عدة أجيال حتى يصل الوعي إلى نظام أكثر تحكماً في طريقة التعاطي مع الوسط، إنها ذاكرة قابلة لتمثيل وعيها المتابع لنظام التشكيل والتكيف في الحياة البدائية للبشر ، فالطفل يحمل ذاكرة والديه لأنها الطريقة الأقرب لتلقي المعرفة الأولى والضرورية لتشكيل المعرفة الموضوعية في القشرة الدماغية، بما يجعلها متأثرة بالخصائص السلوكية والمعرفية بنظام الحياة الأسرية، والذاكرة توجه المعرفة المتواترة في طبيعة التوالد التفريقي،  بحيث تحمل نسختين لخصائص الدماغ من الوالدين يما يفتح مجال أوسع للمعرفة في نظام الأبناء.

والتطور التدريجي يرتبط بوعي الوليد من خلال مراحل الطفولة الخاصة به، ومع تطور بنية الإدراك في ذاته يبدأ في وعي وجوده المستقل مع تتابع نظام الخبرة باكتمال النمو، عندها يتوجه إلى تنظيم بيئته البيولوجية والمعرفية بطريقة فاعلة واصطفائية، لأنه يدرك أن ما يعطيه لأبنائه من نظام للحياة يجري بدون تدخل وعيه، وكل ما يريده هو تسجيل صفاته الوراثية في نظامها، وهذا ما يعطي الطبيعة العضوية أهمية كبيرة في الحياة، بما يظهر النظام العشائري والقبلي ملتصق بنظام القرابة البيولوجية .

وقد استمر الاهتمام بنظام القرابة البيولوجية كنظام لفهم الحياة الإنسانية من خلال دراسة العصور التاريخية بدلالات تاريخية مميزة، أعطت الحياة شعوبا مؤسسة على طبيعة نمطية خاصة بكل مجموعة سكانية، وأظهرت أنظمة من الحياة تختلف في تفاوت ارتباطها بمسارها البيولوجي والوراثي لطبيعتها الإنسانية، لآن كل نمط من الشعوب له طبيعة متأصلة في وجوده الإنساني، وقد بدأت الحياة تعطي نظام توارث أقوى من نظام البيولوجيا المحدود بالخصائص الشكلية والذاتية للأفراد، بعد أن كدست كمية هائلة من المعارف العقلية القابلة لتأكيد حضورها الدائم في بنية العقل الإنساني، غير أنها لم تنفصل بعد بشكل واضح وجوهري عن بقية الأنظمة السابقة ، والطريقة القائمة هي توريث الاتجاهين في نفس الوقت، دور الوعي المرتبط بنظام القرابة يتابع حضوره في نظام الوعي ، ودور أخر يتوسع أكثر في بنية العقل لأنه أكثر توافقاً مع نظام الحياة في المستقبل الإنساني ، إنه نظام لعلاقة مرتبطة بالطبيعة النوعية للمعرفة الإنسانية بدأت تفرز وضوحاً هاماً في الوعي للتوجه نحو حقيقة مضامينها الكاملة .

فالمرحلة القادمة تلقى توسعاً في الارتباط الواعي لنظام العقل، لأن الفكر يربط الوعي بمصيره، ويحرص على ما هو فاعل في نظامه، ويتوسع الإنسان مع تزايد المعارف والمدارك العقلية ، وبدأ الإنسان يميل نحو الارتباط بما هو عقلي أكثر مما هو عضوي، وهذا ما يؤكد بداية انتصار العقل الإنساني المتمرد على الثوابت الوراثية للتبعية العضوية.

فالمنظومة العقلية للمعرفة هي نظام تطور اصطفائي في الحياة القادمة للبشر ، لأن ما هو عقلي بدأ يتغلب على جميع الاعتبارات الأخرى، بالرغم من محدوديته في العصر الراهن، وإذا كان البقاء يرتبط دائماً بالأصلح والأفضل لنظام الوجود في الحياة، فإن ما هو أفضل بالنسبة لحياة العصر الراهن المعرفة والعلوم العقلية ، بكافة أبعادها المنهجية وتنوع أبحاثها ومجالاتها ، لأنها تؤسس بنية عقلية فاعلة ومتوافقة مع نظام الوعي، القادر على استدراك وفهم ما هو قادم وقابل للتداول العقلي، وهذا ما يعطي الانتماء طريقة إنسانية جديدة تجعل من نظام العقل أساساً للتوافق في المراحل القادمة. 

 

حسين عجمية

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1123  الاربعاء 29/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم