قضايا وآراء

الدراسة الاندماجية للعقل (2)

وفقاً لانعكاس الذبذبات الارتدادية كالخفاش ومنها ما يتكيف مع طبيعة الألوان كالحرباء،و كيفما كانت علاقة الأحياء بالوجود يبقى أساس الضمان متوفراً لمجمل الخصائص النوعية للأحياء، إنها علاقة ليست مرتبطة بمصير الأحياء فقط بل مرتبطة بمصير الكينونة الكلية للوجود أيضاً .

فالتنوع الحسي يؤدي إلى التنوع الحيوي الإدراكي المطابق له ليتعمق الوعي في بنية الحياة، لأن الاختلاف والتنوع ظواهر منسجمة مع بنية الوجود وكلما زاد التركيز لتعميم سمات وخصائص مشتركة ومتماثلة ينحط الوجود أكثر ويتراجع عن فاعليته في إحداث بنية نمطية متجددة وتنحسر موارده في جميع المجالات .

فالتباين في الاختلاف على نوعية الفهم والتعلم يعمق التنوع العقلي ويخلق التفاعل بين جميع العناصر البشرية لتأمين بناء قادر على تركيب الحياة بما يجعلنا غير قادرين على التنبؤ بمسارها الطويل والقفزات النوعية الجارية لتحسين مردودية الأعمال البشرية على المستوى الكلي قد يفاجئ الوجود البشري بأزمات نوعية تربك مسيرة تقدمهم .

و مهما تعددت طبيعة الفهم لظواهر الوجود والمعارف ومختلف أنماط الطقوس والعقائد فإنها لا تغير من بنية الأشياء وحقائقها لأن الحقائق في ذاتية الأشياء مكتملة بذاتها وإن اختلاف في وعينا لها وكل الاعتبارات المنوطة بوجودها لا تغير من طبيعتها وإن طبيعة وعينا لها هو المتغير باستمرار، ويمكن أن نذكر مثالاً للدلالة على ذلك فالرعد كظاهرة يمكن أن تكون ناتجة عن تفاعل قوى فيزيائية وجوية عند بعض البشر ويمكن أن يفهم بأنه إنذار من السماء لدى البعض الأخر ويمكن أن يفهم بأنه موسيقى الطبيعة عند غيرهم وغير ذلك من التنوع في الأحاسيس العقلية عند البشر .

فالتنوع يجري على كل شيء، إن لطريقة الاستماع نوعية وللنظر نوعية وللذوق نوعية ومادام البشر يعيشون عالماً مختلفاً مليئاً بالأجسام والأشياء والحوادث وغيرها الكثير وهم ملزمون بفهمها والتعرف عليها والتفاعل معها يتحتم عليهم أن لا يستغربوا طبيعة المفاهيم المشكلة عنها، لأن المعرفة بحد ذاتها لا تمتلك خصائص تكوينية ثابتة ومعممة على كامل الوجود البشري . إن الطبيعة اللاتكافؤية للمعرفة تجعلها قادرة على الاستمرار بحيوية فاعلة مهما كان العصر الذي تعبر عن محتواه موغلاً في القدم أو قادماً من المستقبل المجهول ولا يزال الوعي العقلي شغوفاً بمعرفة جميع التغيرات الجارية في بداية الخلق ويزداد اشتياقاً لمعرفة الحقائق والأفكار وكل ما هو صادر عن الحضارات القديمة ومعرفة طبيعة المفاهيم التي تتحكم بعلاقاتهم وفالمعرفة العقلية نظام غير موجه يمكن أن يشتمل على القديم والجديد والبعيد والقريب بنفس الاهتمام ونفس التركيز . ولا يقتصر الوعي على الوجود المحيط بالبشر بل يتعدى إلى ما بعد هذا الوجود من قوى ودلائل يرى من خلالها تأثيرات واضحة على وجوده، فقد عمق معارف عن التكوينات المعرفية نفسها واكتسب طقوس ذهنية للإبحار خارج إطار الوجود لكي يوفر لنفسه استعداداً لوجوده في أي وجود افتراضي يراه أكثر أماناً وأكثر استقراراً ولإيضاح ذلك يمكن أن نقول بأن شحن النفس بمجموعة من التعزيزات يحقق رؤى عقلية قادرة على التحقق فعلاً فالكثير من النساك البوذيين والرهبان المسيحيين والنساك الصوفيين اليهود ودراويش الذكر المسلمين حصلوا على رؤى خارقة من خلال ذلك، فالمعلومات الواردة إلى الوعي تتأثر تأثيراً بليغاً بما يعرفه العقل، مما يؤكد بأن العقل لا يعتقد بما يرى فحسب بل وقادر على رؤية ما يعتقد به أيضاً .

لم تزل الطاقة العقلية المتحررة من السكون ملتزمة بحاجات الحياة والتغيرات الجارية على بنيتها وتزاحم الوعي المنبثق عن معارف علمية وتكنولوجية تطبيقية تساعد العقل البشري على تخطي محيطه والجوانب الغامضة في وجوده وكشف القوانين المرتبطة بالظواهر وخصائص المادة الحية وغير الحية إنها معرفة قادرة على كشف الأشياء في ذاتها، فالقوانين والمنجزات العميقةُ المدلول في مجال العلم والتقنيات المرتبطة به تساعد الإنسان في بناء وجود أكثر تحكماً وسيطرة على الطبيعة من حوله ومعرفة تتحرر أكثر فأكثر من القيود الشكلية المرتبطة بواقع مرتهن لمعارف نمطية لعبت دوراً في تقليص قدرته على الانفتاح وأعاقت خروجه من التبعية المقيدة بسلاسل الوهم بما حدده السلف من أساليب ربط المعرفة بوجودها . لقد فهم العقل حقيقة جوهرية بأن انتصار معرفة ناتجة عن العقل في مجال ما أو نمط لوعي معين بأنه خسارة للعقل إذا لم يستطع وعيه أن يتخطاه، لأن المعرفة المستقرة تقيد العقل بمحتواها ويستطيع القائمون على حمايتها تجديد كل شيء ما عدا الوعي أما المفكرون فلا يمتلكون غير تجديد الوعي وعندما لا يستطيع العقل تغيير بناءه المعرفي يصاب بالجمود . فالتطور أساس بناء الوعي العقلي يعمق محتواه ويعطيه فاعلية النماء وبقدرة ما نضع أمام العقل من مهام يتوسع في إدراكها ويلتزم بإنجازها لأن طبيعته قادرة على ذلك .

إن قدرة العقل قادرة على تعميق بنية ترافق تغيرات جارية في طبيعة البشر والمهام المطروحة أمامهم لتخطي الواقع وتأسيس وجود نوعي يعاكس التقييد الحاصل من خلال تزايد الضغوط، وعندما تعجز بعض العقول عن إدراك وفهم المتغيرات الجارية في طبيعة الوجود يلفظها الوجود ذاتياً ليتابع الوعي تجديد ذاته وعندما يُفرط العقل في تحميل  تجديد مفاهيمه ووعيه أكثر من طاقة على الاستيعاب ينهار العقل وينفصل عن محيطه وقد يستقر في الجنون . فالعقل يحمل في داخله نظام بناءه وطبيعة تشكله وصيرورته ويكتنز الوجود في ذاته، فالطاقات الخارقة للعقل في أنشطة مختلفة ومتغيرة شكلت مجالاً محيراً للعقل في فهم ذاته، والتاريخ الفعلي للبشر يحمل في صفحاته نماذج مختلفة عن طاقات خارقة لعقول بشرية متغيرة في الزمن وضمن عصور مختلفة مثل قراءة الأفكار عن بعد والاستبصار عن بعد وإدراك أجسام لا يمكن إدراكها بالحواس والمعرفة المسبقة ( وفانكا البلغارية ) نموذجاً لذلك، فالعقل البشري بكل أجناسه يحتوي الكثير من القصص والأمثال عن خوارق العقل عند البشر . وإذا ما اتخذنا من وعينا قدرة التحليل لذهب وعينا بعيداً في نظام الاستقراء لمعرفة نظام الوجود بما يؤكد بأن العقل يعمل بطاقات أقل من نظام احتواءه بل يعمل بالطاقات الملائمة لوجودنا في نظام الحياة . فالتجارب العقلية الخارقة والمتميزة المدرجة أمام مهام العلم لكشف القوانين والخصائص المميزة لطبيعتها لم تكتمل بعد وقد تجاهلها العلم فترة طويلة من الزمن لكونها تقع في أماكن متفرقة وغير منتظمة من العالم ولكونها حالات نادرة وفريدة لا يمكن اعتبارها مقياس أو قانون وأمام العلم مهام أهم لتأمين تقدمه .

غير أن العلم لابدَّ أن ينخرط في تحليل الظواهر الخارقة للعقل كلما دعت الحاجة إلى ذلك وقبل أن يقول العلم رأيه في الظواهر الخارقة للعقل يمكن أن نترك لوعينا حرية البت بما ينتابنا من أحاسيس وأفكار حول قدرة العقل في إدراك مبتغاه في عالم البشر .

فالعقل هو طاقة معرفة وطاقة خلق يرتفع في الوجود إلى مستوى وعي الوجود بكل أبعاده وغنى طاقته الكاملة والكلية لم تظهر بعد على لائحة العقل، ولكونه عطاء طبيعي مرن وحيوي يمكن أن يخترق الحواجز ويسجل في ميادين التجربة الإنسانية ومضة مشرقة تبشر بقلب وتغيير جميع الأطماع الشريرة في هذا الوجود .

استطاع العقل أن يتجاوز وضعه الطبيعي إلى وضع مغاير جوهرياً لطبيعته من خلال الاعتماد على وسائل تقنية تفوق دقة الحواس في إدراكها لطبيعة الأشياء ومكوناتها وارتباطاتها بما يعمق وعينا لها أكثر نظراً لمعرفة مكوناتها الداخلية والقوانين التي تتحكم بها.

فالوعي ينفتح على المحيط من خلال الحواس وهي أعضاء وأجهزة قائمة على تكيف الكائن مع وجوده لتجعل من الإنسان كائناً واثقاً من نفسه وهو يتجول ضمن بيئته، ويتفاعل مع موجوداتها ومُوجِداتها بتفوق يغذي روح التبادل مع محيطه نظراً لامتلاكه قدرة التحليل والتركيب قادرة على تأمين وضع فاعل ومؤثر في الأشياء المحيطة بالإنسان تجعله قادراً على تخطي محيطه الحيوي بالاعتماد على وسائل وأساليب من المحيط نفسه . بنى مساكن وغرس أشجار دجّن حيوانات وأبدع فنون وعلوم واحتفظ بكل ما يكرس وجوده بفاعلية أكبر، وإن جميع ما صنعه وصاغه وحصل عليه لم يتجاوز حدود الحواس إلا بعد تجاوز الحواس نفسها في الكشف عن ماهية الأشياء ومكوناتها، فالكثير من الظواهر تقع خارج نطاق الحواس دون أن تكون قادرة على إدراكها، فالذبذبات ما فوق السمعية وما تحت السمعية لا يمكن للأذن سماعها وجميع الكائنات الحية الدقيقة لا يمكن للعين رؤيتها وغير قادرين على الإحساس بالطيف المغناطيسي ولا موجات الراديو والأشعة تحت الحمراء وغيرها.

ومن خلال الاستعانة بوسائل سمعية وبصرية وأجهزة قياس مختلفة تفوق طاقة الحواس بشكلٍ هائل انفتح العقل الإنساني على العالم غير المحسوس وبدأ يدرك معارف دقيقة عن وجوده وطبيعته الداخلية وأنظمته المختلفة ونقل كل ما حصل عليه إلى العقل، ومن خلال الترابط الوثيق بين المحسوس واللا محسوس استطاع أن يرتقي أكثر في نظام الوجود وأنجز مجموعة من الوسائل والأساليب تخطى بها محيطه وشق طريقه في نظام الكون الواسع عملياً. فالتوسع المطرد للعقل البشري في مختلف ميادين المعرفة غيرت طبيعة تواجده وبدأ ينخرط في البحث أكثر عن قضايا أكثر أهمية  وأكثر اتساعاً  من خلال التراكم الهائل للتقنيات الناتجة  عن العقل .

لقد وسعت طاقته في التحكم وبدأت طاقة  التوجيه تتجاوز حدوده بما يخلق طاقات جبارة تعمل لتغيير الطبيعة العقلية للبشر وتجعلهم يعملون بالتوافق مع الطبيعة العقلية المعبرة عن هذه التغيرات .

فالانطباع المتولد عن منجزات العقل بأنها خارج دائرة التأثير لكونها ناشئة عن طبيعة تاريخية وملتزمة بثوابت غير قابلة للتبدل ومكتملة نصاً وروحاً بما يربك العقل وينخرط ضمن نظام  من التشقق والضياع  عند انهيار الأجزاء الغير متماسكة  من بنيته المعرفية ليحل محلها تدريجياً واقع عقلي مخالف لطبيعتها ومدلولاتها فيجعل الانفصال وارد لا في العقل فحسب بل في السلوك أيضاً، مهما تعززت قدرة الحماية لتحصين العقل من تغيير بنيته لا يمكنه أن يفلح أمام التبدل السريع في مجمل البنى الكونية، وإنجازات العقل القادرة على تغيير بنية العالم .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1125  الجمعة 31/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم