قضايا وآراء

الدراسة الاندماجية للعقل (4)

دون اضطراره للفظ كل جملة يتعلمها، فكل لغة تحتوي عدد لانهائي من الجمل ولا يمكن لأي إنسان أن يقوم بواجب لفظها جميعاً، إنه يتعلم الطريقة المؤدية إلى لفظ هذه الجمل بما يعزز لديه مقدرة لفظ كم عائل من هذه الجمل بدون تعلم مسبق وينطق الإنسان بكم هائل من الجمل بدون معرفة سبب نطقها بهذه الطريقة لأن طريقة التعبير عن الوعي تتم بشكل كيفي مرافق لغاية واحدة هي توصيل الأفكار إلى الآخرين بشكل مفهوم يؤمن الانطباع بأن المقصود بالمعنى وصل وبشكل مطابق لوعي الموضوع ذاته.

فالعمليات المعرفية الجارية في الدماغ هي عمليات نشطة بشكل غير عادي وقادرة على تامين التفاهم والتواصل بين البشر.

يعمل العقل على اختصار المعارف على شكل مفاهيم لينفتح عل المعرفة المتوسعة في بنيته ويقوم بإدراج المسميات وتجميع محتواها الضمني فالقرية مثلاً تمثل تجمع سكاني مكونة من بيوت وأشجار وحيوانات وطرق كلها تشكل قرية والعقل ليس مجبراً أن يجزئ كلمة القرية والمجتمع المدينة أو الدولة إلى عناصرها الأساسية المكونة منها، إنه يقوم بدمج الوجود في كلمات تعبر عن توسع حيوي ومادي في ماهيتها وبالتالي يستطيع العقل تأمين مساحات أوسع للربط بين الأفكار ويضع كم هائل من الاتساع في كلمة تحتوي الكثير من الشروط والقوانين والمواد وغيرها فكلمة الكون تعبر عن الاتساع اللانهائي في مضمونه الكلي تصوره كما يعنيه تماماً وكلما توسعت المعرفة العقلية للكون توسعت الصورة المعبرة عن هذه المعرفة في نظام العقل.

وكلما توسعت المعرفة توسعت الصورة عن هذه المعرفة والفرق بين العقول التاريخية هو الفرق بين التطور المعرفي لها فعالم الذرة قادر على تشكيل صور للذرات بتفاصيلها الدقيقة ومن خلال معرفته للتفاصيل يكون قادر على إجراء التفاعل والتداخل فيما بينها بما يمكنه من كشف القوانين الناظمة لوجودها .

كل شيء في هذا فريد في ذاته والاختلاف يعمم وجوده على كامل الوجود الحي وغير الحي ومن النادر أن تتشابه شجرة مع شجره أو صخرة مع صخرة أخرى غير أن العقل يهمل هذه الفروق ويصنفها تحت كلمة أشجار أو صخور لأنه قادر على التعامل مع كل ظاهرة منفردة وتشكيل انطباع عن فرديتها فالبشر مختلفون إلى حد عجيب والعقل قادر على التعامل مع شخصية يعرفها بما يتفق مع خصائصها والمعرفة المشكلة عنها في بنية العقل نفسه.

إن اندماج التنوع في بنية العقل يرفع جاهزيته الدائمة للتلقي المبرمج وصياغة ما يتلقاه على شكل على شكل مفاهيم ومعارف متنوعة وبالتالي فإن العقل قادر على التعامل مع المعطيات بنوعية فريدة وعميقة المدلول فيكتسب لغزاً بنيوياً هاماً يضاهي في أهميته لغز تشكيل الوجود ذاته لأنه الطاقة الحيوية المعبرة عن طبيعة الوجود في بنيته وارتباطاته وكافة الأنشطة الداخلة في نظامه . ويمتلك مقدرة على تصنيف المدلولات وفق مفهوم واحد حتى يوسع بنيته التفاعلية مع الوجود ويكتسب مقدرة على التعاطي مع معارف متوسعة باستمرار.

يحتوي العقل في بنيته تاريخ بنائه لأنه يحمل ما يراه ضرورياً لاستمراره ولو لم تمتلك اللغة قدرة إمداد العقل بنظام المعارف المتغيرة لأهمل وجودها وفتش عن طريق آخر يؤمن له التكيف الأوسع مع المحيط . إن قدرته الضمنية قادرة على غربلة المعارف المتعارضة مع نظام الوجود لأنه يدرك المراحل الضرورية والهامة لما يريد التخلي عنه ووضع البدائل الضرورية لبقائه النشيط في هذا العالم.

يتكيف العقل مع نظام تواجده لأن المفاهيم القسريِّة الصادرة عن نظام موجه تقيد أفكار العقل وتربطه بسلوك لا يخدم الطاقات الخلاقة للعقل ويحرّفها لخدمة أطماعه الخاصة ويعمل على تقييد أي نشاط معرفي متحرر من الإملاآت القسرية وينخرط ضمن أهداف مبرمجة تقلق الحرية العقلية للبشر وتعتقل طاقاتهم بما يجعل هذا النظام متحكم بمصير وجودهم فتنشأ عندهم أفكار مخادعة لوجودهم يستخدمها العقل للحفاظ على سلامته وينقسم العقل إل عقلين والشخص إلى شخصين والمجتمع إلى لونين ليخدع العقل المتسلط بأنه استطاع أن يخلق واقع منسجم مع وجوده. غير أن الواقع المخالف لطبيعته مخادع لذاته ولغيره فيظهر النسيج الاجتماعي وكأنه تخلى عن رسالته العقلية وسخرها بما يعاكس طبيعتها المتحررة من الإملاآت القمعية لأن العقل يعمل لتأمين تواجده مهما كانت طبيعة نظام الوجود الداخل في حياته وعندما ينقلب هذا النظام المعادي فإن العقل سرعان ما يتخلى وبسرعة عن جميع المكونات السلبية في وجوده وتنقلب طريقته في التعامل مع الحياة بما تمليه الحياة من مهام لتطوير وتعزيز طاقة التحرر في ذاته .

يرتفع العقل إلى مستوى الإبداع الخلاق عندما يشع بومض الحركة الفاعلة في صميمه لأن الطاقات الخلاقة الكامنة في وجوده تنبعث وقت الضرورة ويستمر في حل المشاكل المعترضة ويضع المهام في طريقه حتى تصبح المشاكل معارف عقلية والمهام تتحقق ويستمر التطور.

فالبحث الدءوب والهادئ عن المعرفة يفتح أمامه طريق العبور إلى القادم متحدياً جميع الإعاقات مهما بلغت من الضخامة لآن مهامه تندرج في صيانة وجودنا من الأخطار المحدقة بالجنس البشري . فالطاقة الخلاقة للعقل تنبعث عفوياً لتحمي الوجود من الانحراف المضلل لغاياتنا في هذا الوجود ويمكن بمثال توضيح الطريقة التي يتم بها إخراج هذه الطاقات (( عندما انحشرت شاحنة تحت جسر ولم يستطع السائق إخراجها تم استدعاء الخبراء والمهندسين المختصين في بناء الجسور وقرروا فك الجسر من طرفي الركائز ورفعه بواسطة رافعة ضخمة بالقدر المؤدي إلى تحرير السيارة المحتجزة غير أن بائع الصحف الموجود في المنطقة اقترح فكرة بسيطة وخلاقة تقوم على مبدأ تفريغ العجلات من الهواء إلى الحد الذي يسمح بتحرير الشاحنة من تحت الجسر فكان لفكرته وقع الصاعقة على الخبراء والمختصين لأنها فعلاً أدت إلى تحرير الشاحنة دون القيام بالأعمال الضخمة والمجهدة.

فالطاقات الخلاقة للعقل تنبعث ذاتياً لتحرر الوعي البشري من مشاكله سواءٌ كانت مشاكل يصنعها بنفسه أو مشاكل قائمة في الوجود من حوله فالبحار والمحيطات تغلب عليها العقل بصناعة السفن ليؤمن الاتصال البشري بين القارات المختلفة وأبدع ما هو أسرع من ذلك بكثير بعد أن توصل لصناعة طائرات نقل جوي تفوق سرعة الصوت فتقلصت المسافات بين الشعوب بما يكفي لقيامه بأعمال متعددة في جميع أنحاء المعمورة . فالطاقة الخلاقة للعقل ستجعل من عالم المستقبل كياناً موحداً في ذاته يؤمن الاتصال والتواصل بين البشر ويرفع قدرة الحياة لخلق عالم متوافق مع وجوده. فالانبعاث الخلاّق للطاقات تمكن الوعي من إخراج نفسه دون قيود واشتماله فترة حضانة نسبية ينظم إبداعه لاشعورياً وكأنه يعمل على مستويين من الفاعلية، فاعلية تواكب العلاقات والتغيرات في حياة الفردية وفاعلية ثانية تقوم بتجميع ما يتحتم القيام به لإخراج الطاقات الخلاقة إلى الوجود وكأنها إلهام قادم من السماء.

غير أن الفروق الفردية والفكرية تختلف في إنتاج الطاقة الخلاقة للوعي العقلي فيمكن لطاقة خلاقة ما أن تعبر عن اتساع الخيال القادر على الإبحار في مجاهل المعرفة فجميع الناس يرون العالم من حولهم بشكل متشابه تقريباً غير أن بعض الفنانين والرسامين يرون فيه أشياء تبهر العقل نفسه وكأنها قادمة من المجهول.

وبعض الناس يملكون طاقات خلاقة في صنع أجهزة ومعدات معقدة توفر للحياة بعداً إضافياً وقدرة على التكيف بما يفوق الوصف  كالمجاهر الاليكترونية والمعدات السمعية والبصرية وغيرها، فالطاقات الخلاقة للعقل تنبثق عن أي شيء في المدار الإنساني حتى العلاقات الشخصية والاجتماعية تنتج أحياناً عن طاقات خلاقة ومبدعة وطاقة المبدعين القادرين على جعل المجتمع يتخطى  أزماته ومشاكله تكون الحلول عندهم على شكل طاقة خلاقة تنقل المجتمع إلى مستوى جديد ونوعية جديدة في بنائه الداخلي.

والطاقة الخلاقة ترتبط بمراحل العمر كافةً غير أنها تكون في أوج نشاطها في منتصف العمر بعد نضوج المفاهيم واكتمال تجربة اكتساب الوعي من المحيط . فالطاقة الإبداعية ترفع الوجود لمستوى المهام الواجب حلها حتى يرتفع التواجد مع الوجود بما هو أفضل، لأن الميزة الأساسية للأفراد المبدعين انشغالهم الدائم بما هو مفيد وجديد لأن الطريقة التراكمية للوعي الخلاق لا يقبل العكس حتى عندما نكتشف فكرة أو خاصية مرتبطة بأزمان موغلة بالقدم فإن العقل يقوم بتوظيفها بما يخدم تطلعاته المستقبلية .

العقل بداية المعقول والإدراك هو نظام وعي الوجود كما الوجود نظام للوعي التكاملي خلّد وجوده بوعي ذاته فلا وعي خارج الوجود ولا وجود خارج الوعي نظام التفاعل الحي في بنية الكينونة الواحدة فكل المتغيرات الجارية في نظامها نابعة من تأثيرات متبادلة ومهما حاولنا الخروج من ذات الأشياء فإننا نحتاج لوعي ما نقوم به من أعمال ومعارف نحن ندرك أن أعمالنا عبقرية لأنها تعيد تنظيم الوجود بأعمال مرتبطة بالطبيعة الإنسانية غير أن أعمالنا ستغير بعض الملامح في طبيعتنا العقلية .

اللامعقول خارج طبيعة العقل المدرك لوعيه كنظام موحد والعقل مرتبط بالوجود يقتضي بأن اللامعقول غير مرتبط بالوجود وخارج نظام الكينونة إنه الوهم والوعي الخاطئ لطبيعة الحياة في الوجود إذا انطلقنا من السؤال الأساسي للعقل منذ أن تعقّل ذاته تاركاً معناه يلامس وجودنا في كل لحظة وفي كل علاقة وموقف ويعلن بشكل دائم، بأن للكون بداية عقلية مرتبط في عمق الوعي منذ بدء الوجود. ونظراً لارتباط العقل الإنساني بنظام الوجود فإنه حامل وعي الوجود في ذاته في بنيته . توصل العقل البشري إلى أن كل غرام من(( DNA )) مادة الحياة قادرة على حفظ ما سطره البشر من معارف منذ بدء الخليقة أن جسم الإنسان يحتوي على ((128غ)) من ((DNA ))بشكل وسطي فلا شك بأن هذه الكمية قادرة على حمل معلومات الوجود الكوني بالكامل.

والعقل البشر هو الجزء الأكثر حيوية في نظام الأرض قادر لعكس بنية الكون بشكل واعي ومفهوم، ونظراً لتغيّر الطبيعة العقلية للبشر يمكن أن نتوصل إلى استنتاج بأن الطبيعة المادية للوجود متغيرة بما يوافق تغيرات العقل في نظامها الكلي غير أن كمية الوجود المدرجة في ذاته هي واحدة بشكل دائم لأنها مقياس دقة السلامة الكونية ومقياس دقة السلامة العقلية .

فالعقل مرتبط بالوعي والوعي مرتبط باللغة واللغة وسيلة لنقل الأفكار في نظام العقول يقودنا إلى تحليل يفرض وجوده حتماً مع وجود اللغة بأن اللغة سهلّت نظام اتصال العقول وتواصلها نعم إنه كذالك حقاً ..! غير أن وجود اللغة قضى على الكثير من الخصائص العقلية غير المرتبطة باللغة.

يدرك العقل أهمية اندماج مكوناته المعرفية حتى يتوافق مع نظام الوحدة الشاملة للوجود الكوني فالترابط الكوني منسجم مع ذاته يؤمن التوافق الفاعل في نظامه الكلي حتى يكون قادراً على تأمين توازنه العميق في الوجود وتأمين العطاء المنسجم مع بنيته لأن جميع العناصر الفاعلة والمنفعلة مندمجة في نسق أبدي تؤمن العلاقة التبادلية بين مكوناتها الكلية باعتبارها معجزة تفوق قدرتنا على التصور العقلي والعقل البشري يعاني التباين والانشقاق والصراع ويطرح قسم من مجهوده العقلي نحو تهديم ذاته وتفعيل وجود عدائي في بنيته، فجميع النشاطات المكرّسة في سبيل النزاع تلغي فعاليات متوافقة لتأمين الترابط بين البشر والعقل مجال لخلق التوترات والنزاعات ليفرض وجود علاقات هدامة وبالتالي فإن الكل منحرف عن هويته الكونية ومهما بلغ حد التدمير في المجال الحيوي للأرض لن يؤثر قيد شعرة على الطبيعة الجوهرية للكون، فالكون محصن غريزياً ضد شرورنا الضمني وفاعليتنا التدميرية للوجود الحي من حولنا وإن كل ما نقوم به من تخريب يؤثر على نفوسنا والطبيعة من حولنا وعائقاً أمام نشاط أطفالنا فالسلام الإنساني مبني أساساً على طبيعة الوجود الإنساني، ومهما كانت الفروق والاختلافات في الأوضاع والثقافات وطبيعة البناء العقلي لا تؤثر عملياً على أوضاعنا البشرية عندما يسود السلام وعينا ويدرك العقل أهمية وعيه لبنية الكون فالعقل المتحد يتصدى الأخطار المحدقة بالجنس البشري وقادر على صيانة هذا الوجود من الانهيار، لكنه غير قادر تخطي أزماته البنيوية والمعرفة الكونية صيرورة متوافقة مع الطاقة الخلاقة غايتها حب الوجود.

والعقل البشري كينونات مجزئة مبنية على التنافر والمنع والكف لأنه عقل منهزم أمام التغيرات الجارية في بنية الوجود البشري والبشرية بكل تبايناتها تنطلق نحو بنية مغايرة لطبيعتها التاريخية فالتغيرات الجارية في بنية الوجود البشري ليست عبثية إنها ضرورة مرحلية للانتقال نحو أوضاع متوافقة مع بنائها بدأت دعائمه تستقر في النظام البشري والعقل الإنساني بدأ في التقدم نحو معرفة طبيعته وفهم ذاته وجميع الأنظمة المعرفية الداخلة في بنائه العقلي بدأ يدرك أهمية وجود عقل إنساني متفق مع إنسانيته لآن الإنسان إنسان كيفما كان وأينما كان عليه أن يدرك قيمة غيره بقدر إدراكه لقيمته الإنسانية.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1128  الاثنين 03/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم