قضايا وآراء

الدراسة الاندماجية للعقل (5)

عقلي ملتبس إلى حد بعيد ولم يزل الفكر البشري غير منسجم مع وعيه لهذه النقطة الجوهرية في الطبيعة البشرية . فالفكر نظام متغير ومتوافق مع معطيات متغيرة تندرج بنيتها في كيفية استقراء الفكر البشري لوعيه عبر الزمن،أما العقل فإنه كلي وشامل يرتبط مع الوجود بحقائقه القطعية، فالنظام العقلي مرتبط بماهية وعيه لذلك تصنف العلوم بأنها علوم عقلية لأنها تبحث عن حقائق الوجود والقوانين المرتبطة به وكلما توصلنا إلى حقيقة علمية دامغة وأساسية في نظام الوجود الكوني بما يحتويه فإنها ترتبط بالعقل مباشرةً، لذالك نقول أن الرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم الحيوية المختلفة بأنها علوم عقلية لأنها تبحث عن حقيقة الأشياء في جوهرها كما أن الأديان علوم عقلية لأنها تبحث عن سر الوجود في طبيعته العقلية على المستوى الكلي، ولم يزل الفكر البشري غير قادر على التفريق بين ما هو عقلي وما هو فكري في نظام الأديان وهذا ما يؤدي إلى طبيعة الاختلاف في فهم العقائد المتنوعة، فالعقائد على اختلاف أنواعها واحدة في نظام الحياة البشرية لأنها جميعاً مرتبطة بجوهر الماهية الكلية للوجود، ومرتبطة بالذات العقلية أللإلهية الداخلة في جميع المكونات الحية وغير الحية، إنها الطاقة العقلية المسؤولة عن حماية الوجود في ذاته ومن أجل ذاته،وبالتالي فإن كل كينونة عقلية ستكون مسؤولة أمام هذا الوجود، لذلك يتحتم على العقل البحث في الحقائق فقط دون غيرها لأنه عقل متفق مع ذاته وبنيته، فالعقل الإنساني عقل واحد لأنه يبحث عن الحقائق المتوافقة مع السمو الإنساني، إنه عقل منفتح على الوجود بعمق يوازي الوجود نفسه، فالعقل الإنساني لا يقبل التخريب والتدمير ولا يقبل بأي فعل لا يتوافق مع طبيعته،أما الفكر البشري فإنه يعمل بشكل مغاير ومسيء لوجوده أحياناً ويمكن أن يكون فكر سلطوي أو عنصري أو فكر مخرب لأنه يبحث عن مخارج لتبرير سلوكه مهما كانت هذه المخارج غير متوافقة مع بنية العقل الإنساني.

الفكر لبشري يبحث عن المساوئ الناتجة عنه أما العقل بحد ذاته هو الخلاص من هذه المساوئ.      

عندما يدرك العقل ذاته يرتفع من الضلال إلى الحقيقة لأن الحقيقة قائمة بذاتها تحمل صحتها في وجودها، غير أن الأفكار المدعّمة بالأدلة لإثبات مضامينها تخرج عن هذه المضامين بأدلة أخرى لأن الواقع البشري يغذي روح التناقض والتعارض في ماهية فكره ويكرس الاختلاف على كافة المستويات، لأن المعايير البشرية مرتبطة بوجود مصالح مترافقة مع وجودها وعندما تتغير هذه المصالح تتغير المفاهيم المعبرة عنها، لذلك نرى الفكر البشري دائم التقلب في مضامينه الفكرية، ولم يرتفع الوعي إلى مستوى حاجته لأن الدعاية القابلة لأن تحقق مصالح بشرية تستمر في إفراز ذاتها بشتى الوسائل حتى تحقق أغراضها أو تفشل في تحقيق هذه الأغراض، لذلك تنسحب الحقائق من أرضية الواقع لتحل محلها أفكار معادية للوجود الإنساني، ولم يستطع الإنسان بعد أن يرتفع في الوجود أكثر من مستوى مصلحته المرتبطة بهذا الوجود بالذات. ومهما تحمل الأفكار قوة التطبيق المعقول تظل مهمشة في الواقع البشري مادامت غير مرتبطة بالمصالح بشكل مباشر، فهي لا تمثل غير أفكار توصف بأنها موافقة للطموح البشري، وبالتالي يظل الطموح البشري بعيد المنال عن أرضية الواقع ومجرى الحياة.

فالكينونة العقلية للوجود مرتبطة فقط بطبيعة كونية وجميع العقول مدركة لحقيقتها، وكل الناس يعتبرونها خط الحماية الأخير لأن طبيعتها الكلية والمكونات الدالة عليها مرتبطة بكل وجود حي وغير حي متصل بالوجود الكوني الكلي بقوة عقلية لا يمكن التعبير عنها إلا بوعيها وبما أن وعيها لا يحتاجه العقل في التعامل مع البشر تبقى خارج الاهتمام وتدخل في إطار الطمأنينة الداخلية للنفس البشرية . فالوعي البشري ملتصق بذاته من خلال تكديس معارف خاصة بوجوده.

لا يرغب العقل الإنساني العيش مع وجوده بل يسعى للقفز خارج أسوار الوجود الأرضي ليبحث فيه عن وجود مطابق لماهيته ويسعى ليطابق وجوده مع النظام العقلي للوجود، لأن الحقيقة القابلة للتحقيق والتوافق مع الحياة الإنسانية حقيقة متوازنة ومنسجمة، والإنسان لا يرتبط بحقيقته كإنسان وإنما يصنع وجوداً مخالفاً لكل حقيقة ولكل واقع مرتبط بوجوده، إنه يبحث دائما عن المجهول في ذاته، ويرغب في تخليد هذه الذات ولو من خلال سفك الدمار وإشعال نار الحروب، لقد قسم الإنسان الأرض الواحدة إلى نتف مبعثرة وألصق كل ذرة من ترابها بدمه حوّل البحار إلى حصص والهواء إلى حصص والشمس إلى حصص ويسعى لتحويل الفضاء الخارجي إلى حصص، إن انغماسه في تقسيم الوجود مرتبط بوجوده المنقسم ويزداد التقسيم ليدخل كل نفس إنسانية فيتحول الشخص إلى أشخاص والبشر إلى أنواع وأعراق ومذاهب وأعراف وغايات ومصالح يخترعون الويلات تلو الويلات ضمن وجود منقسم قابل للصدام. لم يعد في إمكانهم رؤية وجود غير وجودهم ويتخبطون بالأفكار والغايات، ويعملون دائماً على إدراك معنى وجودهم من خلال وجود معنى غيرهم، وهكذا يصبح التقليد سمة أساسية من سمات هذا العصر، فالمخطئ يجر وراءه جيشاً من المخطئين والمصيب يراقب وحيداً انحراف الوجود البشري نحو القتل والتخريب والحروب وكأن الحروب قادرة على كشف ماهية الإنسان وإظهار جوهره الإنساني.

الجوهر الإنساني لا يمكن أن يكون واضحاً بدون عمل إنساني أو سلوك إنساني الجوهر الإنساني يحتاج إلى علاقات إنسانية بين جميع الشعوب القاطنة على هذا الكوكب، لأنه كوكب واحد ملتصق بوجوده الكوني والبشر وحدهم منقسمون إلى أشلاء متناثرة على سطحه كل واحد منهم يسعى لتقسيم إخوته في الوجود بمختلف الوسائل والسبل لغايات منحرفة عن طبيعة الوجود في ماهيته المرتبط بالوحدة الكونية للوجود الحي وغير الحي. بمختلف الوسائل والسبل لغايات منحرفة عن طبيعة الوجود في ماهيته المرتبط بالوحدة الكونية للوجود الحي وغير الحي.

يندمج الكون مع طبيعته المعرفية فلا شيء تأتي به المعرفة غير داخلة في بنيته، فالقدرة على الابتكار والاختراع مستوحاة من طبيعة العقل الكونية فالمكونات المعرفية والعلاقات وطريقة تفاعل العقل مع الكون قضايا مذهلة صاغها على ما هي في نظامه تحرض العقل البشري لعمل ما هو موازٍ لطبيعتها، ومهما امتلك العقل البشري قدرة التصميم لمكونات الأجهزة والأنظمة تظل صورة بدائية لطبيعة الصناعة الكونية، لآن المعرفة المتواجدة في بنية الكون يستقي منها العقل البشري نظامه المعرفي وطريقة نظام الابتكار، وكلما توافق العقل مع الوجود الطبيعي للكون زادت قدرته على الابتكار المنظم والمفيد.

فالعقل المرتبط مع بنية الكون منفتح على المعرفة المعبرة عنه بتوافق استدلالي كلي لأن الكون نظام موحد في قواعده وأنظمته الدقيقة لذلك يظهر الوجود الكوني بأنه لغز عجائبي، نظراً للمكانة البسيطة التي يحتلها العقل البشري في بنيته وعدم تدريب العقل لبشري على الانفتاح التوسعي في نظام الوجود الكوني، فالعقل يغلف وجوده بهالة من العجز أمام المعرفة المكتنزة في بنية الكون، وإن تقدمه مرتبط بتشكيل وعي قادر على الانخراط مع بنية الكون المعرفية، وكلما اقتنع العقل بإمكانياته القادرة على كشف أسرار الوجود وقوانينه الخفية يزيد من تقدمه المطرد وتتسع مداركه بما يتوافق مع اكتشافاته وابتكاراته.

كل شيء في هذا العالم ينبض بجوهرة وخصائصه المتميزة والفريدة لأن التعبير عن المكونات الدالة على الأشياء منبثقة من جوهر الأشياء ذاتها وكل ما هو منبثق عن هذا الوجود ضرورة حتمية للوجود ذاته لأنه التعبير عن الطريقة التفاعلية التي يتمم بها الوجود ذاته، ينظم مكوناته بما يجعلها وكأنها قائمة على طريقة مفارقة للعقل، لذا يفرز العقل البشري نظامه المعرفي بما هو معادي لوجوده أو ما يسيء لطبيعة الكائن الحامل للعقل،لأنه يعمل بتجرد عن ماهيته الكونية ويفرق في فرز مخلفاته المتشكلة من قوانين التعارض بين البشر، يعتبر أنّ ما هو مسيء لغيره مفيد لذاته إنها الخدعة العظيمة للعقل البشري، فهم يظهرون الأفعال والأشكال المعيقة لوجود غيرهم لتنسحب في النهاية إلى وجودهم وتشكل عائقاً أمام تقدمهم والحفاظ على واقع حققوه من خلال إفساد أنفسهم.

فالإنسان يفصل وجوده عن محيطه ويعتبر نفسه مغايراً لما يحيط به من الأحياء والطبيعة يحيط وجوده بهالة من الوهم المنفرد ويترفع من بقية المكونات الدالة على وجوده والمرتبط ارتباطاً وثيقاً به ومرتبط بها بنفس الطاقة، فنما في داخله حب الأنا والذات يعادي غيره كلّما توهّم أنه معادياً لها، فالعقل المنسق لمثل هذه المفاهيم هو عقل قاصر عن إدراك غايته في نظام الوجود،غير أن الوجود تابع لنفسه ولا يمكن أن يعادي طبيعة المتواجدين في نظامه الكلي، لأن الموجودات في بنيته مكملة لبعضها ولا شيء يذهب هدراً في نظام العقل عندما يصبح التعقل غايتنا في نظام الوجود فكل كينونة تنبثق عن العقل منذ وجوده في نظام الحياة يحتفظ بها كدلائل هامة في بنيته.

فالمعارف المنبثقة عن العقل تغذي في طبيعتها العقل المرتبط بها، ولا يمكن لأي نظام أن يكون مستقلاً عن بنيته العقلية لأن التغيرات العقلية مرافقة للتغيرات الجارية في البناء الاجتماعي والأنظمة المرافقة له. فلا يمكن للأنانية أن تكون معادية للحرية لأن الأنانية في الذات البشرية تطمح لإطلاق حريتها الكاملة على ما يحيط بها من وجود فإذا كان حب السيطرة قائماً فإنه يطمح لإطلاق حريته في ذلك إنها ترى ما هو موجود قائم لخدمتها وبالتالي تبيح لنفسها حرية التصرف لإشباع حاجتها الأنانية، من هنا يمكن للفكر أن يعادي حتى حريته نظراً لانشغاله الدائم بقمع كل ما يخالف وجوده، فيسود التناقض العالم ويتكاثر العداء في بنية الذات الفكرية للوجود البشري، نظراً لعدم الفهم الواضح لطبيعة الانخراط في مسار واضح يؤمن التفاعل والتبادل على جميع المستويات ويؤمن روح التعاطي الإنساني لكل نظام عقلي قائم في هذا الوجود المعبر في ذاته عن الوحدة الإنسانية في ماهيتها الحقيقية.

لا تنطبق المسافات الداخلية والخارجية للعقل على المقاييس المطبقة على السطوح المادية ونظام الأشكال وفق حجمها بالنسبة للمحيط والطبيعة،فالمقاييس والأبعاد المطبقة في عالم العقل هي مقاييس غير مادية مطابقة لماهية الوعي العقلي، فالبعد العقلي هو مقدار العبور والإحاطة بماهية الأشياء والأحياء المعرفية خارج أنوع القيم المضللة للعقل، إنه البعد المستوحي من وعي العقل بتجرد عن الارتباطات غير الدالة على المعرفة المطابقة لحالة وجودها ومغزاها العام في نظام الوجود . فالمساحة العقلية طاقة الشمول المعرفي الممتدة في نظام الوجود بالنسبة للوعي الشخصي . وكل وجود معرفي طاقة ممتدة ومعبرة عن طبيعتها، فالطاقة المعرفية للأشخاص في نظام الوجود البشري هي طاقة معبرة عن وعي الفرد مطابقة لنظام تفاعله وارتباطه بنظام الوجود والمجال المحيط بوضعه كفرد والخصائص الاجتماعية والثقافية المعبر عن هويتها، مسؤولية مناطة به كفاعلية فكرية وسلوكية . لأن وضع الأشخاص في نظام الحياة يعبر عن الدلائل المرتبطة بطبيعتهم العقلية، من هن يأخذ التنوع المعرفي في نظام الحياة الفردية أبعاداً عميقة المدلول تظهر وكأنها نظام من المعارف المتناثرة على كامل السطح المعرفي للبشر، لوحة معبرة عن جماليتها المعرفية عندما ننظر إليها كلوحة فنية أو منظر طبيعي فائق الجمال والتأثير، فالحس المعبر عن جمال اللوحة الفنية مطابق لماهية الأشياء المتداخلة مع بنيتها، فكل عقل لا يستطيع أن يستمتع بمنظر طبيعي أو لوحة فنية إلا بجانب جمالي منها هو عقل قاصر عن إدراك التداخل في بنيتها وقيمة التداخل إعطائها مسحة جمالية رائعة ومعبرة عن مكوناتها فجمالها نابع عن وحدة هذه المكونات.

أليس جمال الأرض تابع من تنوع بنيتها وتضاريسها العجيبة، كذالك الفكر البشري نابع من تنوعه الغريب، وإن الوحدة المعبرة عن هذا التنوع أجمل من التنوع ذاته عندما يعبر التنوع عن وعي منسجم مع بنيته الإنسانية. فالوعي المنبثق عن الجوهر الإنساني هو ما يعطيه مسحة جمالية شاملة وكل وعي مغاير لحقيقته يبقى مموهاً بألوان الظل القاتمة، فالوعي الإنساني يخفي ويحذف كل وعي غير معبر عن بنيته المتوافقة مع التطور، فالمظاهر اليابسة من اللوحة العقلية للوجود الإنساني سوف تتلف وتتآكل وتسقط من تلقاء ذاتها، لتعوض الطبيعة العقلية أغصان فكرية أخري أكثر حيوية وجمالاً من بقية أقسام اللوحة المتحركة لأن الفكر يجد نفسه نحو تكامل مكوناته الفكرية.

إن التوهم بإمكانية الوصول إلى طبيعة عقلية واحدة ونظام معرفة موحد سيخرج من بنية الوجود العقلي للبشر دون فاعلية في نظامه المعرفي لأنه خارج عن عقل يتوق للسيطرة والطغيان وسحب معارفه على الجنس البشري مهما كانت الطبيعة المعرفية التي يتبناها لأن أبعاده الفكرية غير حضارية ويجد نفسه في النهاية متخلفاً عن المسيرة العقلية للبشر وما يظل قائماً في العقل الإنساني هو الوعي المعبر عن التطلعات الحرة لجميع التواقين إلى المعرفة المتنوعة في بنية الوجود ذاته. فالحياة لا يمكن اختصارها بنوع واحد من الأحياء والطبيعة لا يمكن اختصارها بتكوين شكلي وبنيوي واحد فالمجال ألتنوعي للوجود الكوني يستحيل إدراكه بالماهية العقلية المرتبطة بالوجود الأرضي حتى المكونات الأرضية هائلة التنوع وبالرغم من كل هذا التنوع تشكل وحدة منسجمة مع ماهيتها الكونية والأنظمة المتوافقة مع وجودها، وكل عقل لا يفهم طريقة التنوع المنسجم مع وحدته في نظام الوجود يظل قاصراً عن مواكبة التغيرات قي بنية العقل البشري،لأن كل معرفة يجب إدراكها وفق بنيتها والقواعد المرتبطة بوجودها. علينا اعتبارها نوعاً من الوجود العقلي القابل للازدهار والتطور وفق المتغيرات الجارية على بنية العقل البشري كوجود غير منفصل عن طبيعته، لأن الطريقة التفاعلية بين العقول يجب أن تخرج عن الارتهان لنظامها التاريخي وتفهم أن العقل هو نظام مفتوح لكل معرفة متأصلة وقادمة من أجل الحياة الإنسانية في طبيعتها الكونية.

فالعقل القادر على الاستيعاب والتنسيق والابتكار هو العقل الفاعل في نظام الأبعاد المتوافقة والمرتبطة بنظام الوجود. وعندما تدرك البشرية أهمية هذا العقل وقيمته في نظام الحياة تتغير الملامح الأساسية لطريقة التفاعل مع هذا الوجود بالذات ويتم فهم العالم من خلال وحدته المرتبطة بنظام التنوع المنبثق عن كينونة الوجود الكوني.        

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1129  الثلاثاء 04/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم