قضايا وآراء

(الحفيدة الأمريكية) .. محاولة جريئة للأمساك بالوطن / وائل المرعب

على صلتها الحميمة بالوطن رغم مرور أكثر من ثلاثين سنة هي عمر إغترابها .

لعلّي لا أبالغ إذا قلت أن (الحفيدة الامريكية) إحدى أهم الروايات التي انتجها الأبداع العراقي النسوي خلال ربع قرن الأخير، وقد تكون مع (الرجع البعيد) للراحل التكرلي و (ما يتركه الأحفاد للأجداد) للراحل غازي العبادي، مستوفية كل الشروط الفنية التي تتطلبها الرواية المعاصرة، من حيث البناء السردي وحركة الشخوص ضمن ثنائية الزمان والمكان، واللغة الرصينة وعنصر التشويق والحوارات التلقائية، وصحة الأمتدادات الأفقية والعمودية للأحداث ممّا جعل الخط البياني للرواية لا يشهد تعرّجات وإنكسارات حادّة تفقدها الكثير من إستقرارها ممّا يُحسب لها وليس عليها .

أنا على ثقة تامّة إن الكاتبة إعتمدت على قصة واحدة من الفتيات العراقيات الأصل أمريكيات الجنسية التي تطوّعت كمترجمة للخدمة في الجيش الأمريكي بالعراق بعد سقوط نظام القمع لتجعل منها مادتها الروائية، وهذا ما أكدته بعض التفاصيل الدقيقة التي وردت في متن الرواية والتي لا يمكن أن تمر في بال كاتب إذا لم يعشها بنفسه أو تنقل إليه بدقة فائقة، وكذلك ما نقلته لنا الرواية نفسها إن أحد شخوصها هي روائية تتقصّى حياة هذه المجندّة وتلازمها كظلّها مما جعل الأخيرة في حالة خصومة معها متهمة إيّاها بالتلصّص على خصوصياتها .

إن الشخوص الفاعلين في الرواية لا يتعدّون العشرة .. هم مادة الرواية وأبطالها الرئيسيون ..

اولا ــ زينة .. العراقية الأصل الأمريكية الجنسية المجنّدة للعمل كمترجمة في صفوف الجيش الامريكي بالعراق .

ثانيا ــ الروائية / الظل .. شخصية زرعتها الكاتبة في أرض الأحداث وكأنها إعتراف بحقيقة إعتمادها على قصة واقعية جرت لهذه المجندة .

ثالثا ــ رحمة .. جدّة زينه من أمها، الشخصية المحورية وتكاد تكون هي البطلة الحقيقية للرواية والتي ظلّت وحدها تعيش في بيت العائلة ومتمسّكة بجذرها الأوّل رافضة مغادرة العراق ورافضة في نفس الوقت الأحتلال وناقمة علية رغم كل ما لحق بعائلتها من ظلم وجور النظام الأستبدادي السابق .

رابعا ــ طاووس .. المرأة الشيعية المذهب ومن مدينة الثورة التي عاشت في كنف هذه العائلة المسيحية لسنوات طويلة، وهي تقدّم خدماتها العديدة تسعفها شطارتها وإتقانها لأكثر من مهنة إضافة الى إنها أرضعت زينه من حليبها بعد أن مرضت والدتها .

خامسا ــ مهيمن .. أحد أبناء طاووس الذي كان شيوعياً ثم تأسّر في إيران ليعود إسلاميا متطرفا وينتمي الى جيش المهدي، وهو أخ زينة بالرضاعة ويساعد والدته في تقديم الخدمات لرحمة الجدة .

سادسا ــ حيدر .. شقيق مهيمن كان يعمل في جهاز مخابرات النظام السابق .

سابعا ــ الأب .. كان يعمل مذيعا معروفا وقد قبض عليه رجال الأمن لا لشيء سوى إنه أبدى ملاحظة لصديقه حول المادة الأخبارية، وتعرّض الى عملية تعذيب أنتهت بتكسير أسنانه، مّما عجّل في اتخاذ قراره بمغادرة العراق، حيث صدر حكما غيابيا بإعدامه .

ثامنا ــ بتول .. الأم التي لم تجف دموعها على فراقها الوطن رغم كل ما جرى لزوجها .

تاسعا ــ كالفن .. صديق زينه الامريكي الذي لم تعد تقتنع به بعد تجربتها في العراق ولقاءها بمهيمن .

عاشرا ــ يزن .. شقيقها المدمن على المخدرات .

تمكنّت الكاتبة من أن تجمع الضدّين بحيث تقنع القاريء بعلاقة من الصعب تحقيقها في الواقع، حينما جعلت زينه الفتاة المسيحية التي قضت فترة شبابها كلّه في امريكا والتي تمثّل الجانب العصري المتحضّر والمتمدّن من طرفي العلاقة تقع في حب مهيمن الشاب الملتحي المنحدر طبقيا من مدينة الثورة والعضو الفعّال في جيش المهدي والذي يمثل الجانب الديني السلفي المتطرّف، رغم علمها بانها أخته بالرضاعة .. وهذه معادلة شائكة .. فزينة مجندة ومطلوبة من جيش المهدي الذي أعلن مقاومته المسلحة ضد قوات الأحتلال، ومهيمن مطلوب من هذه القوات بإعتباره إرهابياً شيعياً، وهي بهذا كأنها تروم المحافظة على النسيج المجتمعي العراقي الذي أصابه التهتك من شّدة التطرف الطائفي، رغم تنافر خيوطه التي تأبى أن تكون سدّته ولحمته .

كما نجحت الكاتبة أيضاً في إبراز دور رحمة، جدّة زينه من أمها، الباقية الوحيدة من كل العائلة بالعراق والمتشبثة الى آخر يوم في حياتها بالتقاليد والاعراف التي نشأت عليها، والتي لم تتحمّل فكرة أن حفيدتها مجنّدة مع قوات الاحتلال، وبقت مصرّة على ذلك حتى يوم وفاتها ودفنها في أرض الوطن، وصورة بدلة زوجها الراحل العقيد المتقاعد معاون آمر تجنيد الموصل هي آخر صورة وقعت عليها عيناها، وكم كانت الكاتبة ذكية في عدم إغفال حالة تعلّق رحمة ببدلة زوجها العسكرية التي تقوم قبل حلول كل عيد الجيش في 6 كانون الثاني، بتلميع نجماتها وتعديل قيافتها وكأنها تهيأها له لأرتدائها، وهي بهذا تؤكّد على عمق إحترامها للجيش العراقي الوطني ذو التقاليد العريقة .

وجعلت حتى بتول أم رحمة ترفض أن تردّد قسم الولاء لأمريكا أثناء منحهم الجنسية الأمريكية وتكتفي بأن تولول مع نفسها (سامحني يا أبي) ودموعها لم تنشف على وجنتيها ما دامت بعيدة عن الوطن رغم كل الذي جرى لزوجها، وهي بهذا تضعنا نحن كقارئين أمام نموذج مثالي للأم العراقية التي فرضت عليها الهجرة والتي لا زالت تحلم بالعودة الى الرحم الدافيء الأوّل .

لقد إستفادت (إنعام كجه جي) من قدرتها على توصيف بعض الحالات بحيث تضع القاريء في دائرة الدهشة وحتى الأنبهار كقولها وهي تصف أسنانها (كاشفة بلا خجل عن أسناني السفلية المعوجّة التي وصفها كالفن بأنها تشبه مقهى شعبي تشاجر روّاده بالكراسي) !! .. أو قولها بعد أن أخذت معها ثمرتين من (النومي الحلو) الى والدتها لمعرفتها بحبها لهذه الثمرة حين دسّتها بين يديها (حياة مغدورة تكوّرت في ليمونتين) !!

إن رواية (الحفيدة الأمريكية) الصادرة من (دار الجديد ــ بيروت) هي واحدة من ست روايات اختيرت على اللائحة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2009 .. وقد دشّنت الكاتبة بها عهداً جديداً في تناول موضوعة الحرب الأمريكية على العراق وإسقاط نظامه الدكتاتوري، وأظن إنها ستستفز قريحة الكثيرين من الروائيين العراقيين للتصدّي لهذا الحدث الدراماتيكي العاصف الذي جرى في التاسع من نيسان 2003 .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1582 السبت 20 /11 /2010)

 

في المثقف اليوم