قضايا وآراء

عبد الرزاق الربيعي .. "وصايا العودة المميتة" / حسين سرمك حسن

 صوب البيوت

والمدن

 والحدائق

اعط وجهك المقبرة

هناك

هناك

 ستجد الكثيرين

ممن تود أن ترى

ويودون أن يروك

ولو من تحت

 تراب الذكريات ...)

 عبد الرزاق الربيعي

 قصيدة (عندما تعود إلى الوطن)

 

 

(لقد أنزل البحّارة الفياكيون أوديسيوس النائم من السفينة، وأرقدوه فوق الرمل، ولايزال النوم يغلبه على أمره . لقد وضعوه على ساحل (إيثاكا)، وطنه، الذي قاسى أهوالا لا توصف من أجل العودة إليه ولأكثر من عشرين عاما . استيقظ أوديسيوس من نومه في أرض آبائه ولكنه لم يعرف في أي مكان هو فانتصب واقفا يطلّ على وطنه، وضرب فخذيه براحتي يديه، وقال وهو ينتحب:

(ويحي، إلى أي بلد من بلاد البشر قد وصلت الآن ؟ أأهلها قساة وشرسون وظالمون ؟ أم إنهم يحبّون الغرباء ويخشون الآلهة في قلوبهم ؟ إلى أين أذهب أنا نفسي هائما على وجهي ؟ ليتني بقيت هناك وسط الفياكيين، حقا إنهم وعدوا بأن يذهبوا بي إلى (إيثاكا) الواضحة المعالم، ولكنهم لم يفوا بوعدهم ..)

,,, لقد أظهرت له (إيثاكا) وجها غير مألوف فلم يستطع معرفة الممرات الطويلة والخلجان التي تُستعمل كمراسي آمنة، والصخور الحادّة الناتئة والأشجار المورقة . وكونه قد غاب طويلا جدا ليس هو السبب الوحيد لكونه لم يتعرّف على مدينته . لقد نشرت الربّة " بالاس أثينا " سحابة حوله حتى لا يتعرف عليه أحد في حين جعلته أكثر حكمة في فهم الأشياء . هكذا يروي لنا " هوميروس " قصة العودة الأكثر شهرة في الآداب العالمية ..) (1)

لكن يبدو أن العودة العراقية صارت شيئا لا يمكن أن يتصور عذاباته ومفارقاته المدمرة حتى هوميروس نفسه . العودة العراقية الآن فريدة .. واستثنائية ومدمّرة . عودة لا أعتقد أن أي مبدع في التاريخ السابق كان من الممكن أن يتخيل ابعادها المهدّدة وتفصيلاتها السوداء المرعبة . هذا ما يقرره الشاعر المبدع (عبد الرزاق الربيعي) في قصيدته (عندما تعود إلى الوطن) . القصيدة التي صاغ فيها حزمة تعليمات لمن يرغب في العودة غلى وطنه / العراق بعد غياب طويل . إن العائد وفق تعليمات عبد الرزاق لن يكون مثل الأخ أوديسيوس في عودته المستريحة .. يُلقى نائما على رمال وطنه ثم يفتح عينيه فيحيره الضباب المحيط بالمدينة .. فيبكي لانه يعتقد خطأ أن الفياكيين لم يبرّوا بوعدهم في أن يوصلوه إلى وطنه . بعد قليل سيفرك عينيه بقوة ويتعرّف على أرضه ويحتضن أحبته .. أصدقاءه وزوجته المخلصة . لكن العائد العراقي عليه، وحسب أول تعاليم الربيعي، ان لا يتوجه نحو أرضه حيث الحياة والنماء .. بل – وهذا ما لا يُعقل – أن ييمم وجهه صوب أرض الموت والخراب .. شطر المقبرة:

(عندما تعود الى الوطن

لا توجه وجهك

 صوب البيوت

والمدن

 والحدائق

اعط وجهك المقبرة

هناك

هناك

 ستجد الكثيرين

ممن تود أن ترى

ويودون أن يروك

ولو من تحت

 تراب الذكريات ...)

لن يرى أوديسيوس العراقي أحبته الذين غاب عنهم طويلا .. لن يدخل البيوت التي افتقد دفئها عقودا .. لن ينعم بشذى الأزهار في الحدائق ابدا .. لن يكون مسرح تجواله الملتهب شوقا على أرض العالم العلوي كما سيحصل لقرينه اوديسيوس هوميروس .. مسرح تجوال أوديسيوس الربيعي هو ظلمات العالم الأسفل .. المقبرة .. حيث تتحقق الوصفة العلاجية السومرية العراقية الأكثر غرابة للكآبة في العالم: علاج ضيق الصدور زيارة القبور !! . هناك حيث انقباض الروح المهلك يجلس أوديسيوس الربيعي كسيرا اسفا ليتواصل مع خلانه من تحت تراب الذكريات . وفي العادة يفكر أغلب العائدين بعد غياب عن أوطانهم بزيارة ملاعب صباهم .. حيث ذكريات الطفولة الآسرة .. ذكريات تستعاد رغم مراراتها من فقر وقهر .. بل إن حلاوتها تكمن في تلك المرارات اللاذعة . وأوديسيوس الربيعي ممنوع عليه أن يفتش عن مدرسته الأولى .. حيث رحلته الخشبية الصغيرة وصدى زعيق حناجر رفاقه في القراءة الخلدونية: إلى متى يبقى البعير على التلّ ؟ .. إلى المساء .. لن يجد ذكريات مدرسته الأولى على أرض الحياة .. على مسرح العالم العلى البهيج .. عليه أن يفتّش عنها في مكان آخر .. مكان هو من تمظهرات مكان الموت الأم .. العالم السفلي .. في ثكنة عسكرية حيث سيجد دم طفولته مسفوحا تحت سرف المجنزرات القاتلة . ولأن عبد الرزاق " مهندس " في إخراج نصّه فهو " يخطط " لكل طابوقة يرصفها على جدار نصّه المحكم .. فلأن هذه الوصية تتعلق بكيفية التعامل مع ذكريات المدرسة الأولى حيث عماية الكتابة ودور القلم، فإنه يجعل عملية سفح دم الطفولة الذي تقوم به المجنزرات تتم بـ " القلم العريض " . كما أنه قابل بناء المدرسة كمكان ببناء الثكنة العسكرية ليخلق درجة قوية من التقابل " الجناسي" في الظاهر و " الطباقي " الكارثي في الباطن:

(عندما تعود الى الوطن ويقودك الحنين الى مدرستك الأولى لا تبحث عن رحلتك المدرسية تلك التي تآكل عليها الوقت وجدول الضرب والقمع وسروالك الموشى بخرائط الفقر بل أذهب الى أي ثكنة عسكرية ستجد دم طفولتك مسفوحا تحت المجنزرات بالقلم العريض)

.. ثم تأتي الوصية الثالثة متواشجة مع الوصية السابقة حيث يحذر الربيعي أوديسيوسه العراقي العائد من مغبة هدر جهده وتضييع وقته في البحث عن رفاق الصبا حيث ذكريات المراهقة النزقة اللذيذة في الأماكن التي ضمته بهم سابقا كالأزقة الحامضة وحانات الذنوب المباركة .. هذه ليست مخصصة لأوديسيوس العراقي .. يمكن لأوديسيوس هوميروس الأغريقي " الفايخ " أن يفتش فيها عن رفاقه وأحبته .. فهذا الأوديسيوس الأغريقي مولود في عالم الحياة ولعالم الحياة .. ومن الطبيعي أن يكون مكان بحثه على سطح مسرح عالم الحياة .. العالم العلوي البهيج .. أما أوديسيوس الربيعي العراقي فعليه أن يفتش عن أصدقائه في خارطة المنافي .. فقد تمزّقت تلك الصلات الحبيبة شرّ ممزق ووصل بعض العراقيين حتى إلى " جبل طارق " (2) . والمنفى هو، من جدبد، مظهر من مظاهر العالم الأسفل .. فـ " الرحيل يعني قليلا من الموت " كما يقول المثل المأثور . وثانية تتجلى الصنعة الاحترافية لدى الشاعر حين يخلق مناخا تصويريا متجانسا حين يقابل بين الأزقة الحامضة والمنافي المعلقة، وبين حانات الذنوب وطاولة القيامة:

 

(عندما تعود الى الوطن

وتشتاق الى رفاق الصبا

فلا تبحث عنهم في الأزقة الحامضة

ولا في حانات الذنوب

بل تتبع آثارهم

في خارطة المنافي المعلقة

 على طاولة القيامة ...)

 

وفي العادة يفكر أوديسيوس الناجي أخيرا من رحلة العذاب الطويلة في أن يقدم باقات زهر لمن ينتظره من أحبته .. وهو أمر عادي ومألوف تماما . لكن هذا محرّم على أوديسيوس العراقي . فهذا الأخير ستصدمه أولا معضلة أنه لن يرى من ينتظره وسط دخان الحرائق وأنقاض الغد . فكيف سيرى المنتظِر المحاصر باقة العودة ؟ .. سيجد أوديسيوس هوميروس شوارع آمنة يسير فيها وهو يحمل باقة الورد بين يديه .. الضباب الشفيف والرطب المنعش يحيط بحضور من ينتظره، وسيتبيّن ملامحهم قريبا ويهديهم ورود عودته .. لكن أوديسيوس الربيعي لن يجد ورودا في بلاده اصلا .. فالرياح المفخّخة تجتث سيقانها الغضة .. لا أوديسيوس هوميروس مهدّد عند العودة ولا وروده .. لكن ليست ورود أوديسيوس الربيعي هي المهددة بالموت حسب بل أوديسيوس نفسه حيث يمكن لانفجار لغم يستهدف " حشرة " أمريكية حديدية أن يجتث العائد ذاته ويمحق وجوده ليسقط مضرجا بدمه، في حين يكون مثوى جثامين زهوره قطرات دمه التي تتسلق الشبابيك البلاستسكية .. يُقتل أوديسيوس الربيعي العائد بساطة هائلة .. وتفلت "الحشرة " الأمريكية .. فحسب المثل المعروف عندما تتصارع الفيلة في الغابة لن يتأثر سوى العشب المسكين .. ومن جديد فإن هذه الوصية الرابعة ليست وصية عودة لأوديسيوس أغريقي أو حتى بشري عائد من المنافي حيث شكل مخفف من أشكال العالم السفلي، إلى وطنه حيث الحياة المتفتحة القوى على سطح العالم العلوي حيث الرجوع من الموت إلى الحياة .. إنما هي – أي الوصية الرابعة – وصية لعائد من عالم سفلي إلى عالم أشد إيغالا في أعماق العالم المظلم حيث الخراب والموت المحقق:

 

(عندما تعود الى الوطن

لا تحمل ورودا لمن ينتظرك

وسط دخان الحرائق

تحت أنقاض الغد

فالورود معرضة للرياح المفخخة

وقد تجد مأوى لجثامينها

فوق قطرة دم تسلق

الشبابيك البلاستيكية

عند انفجار أقرب لغم

تتقاسمه مع حشرة أمريكية

فتسقط مضرجا بالشظايا

و بـ "الله اكبر".....

وتفلت الحشرة ..)

وهنا أيضا تتحقق مقابلة " طباقية " باهرة بين البنية الهشة الرخيّة للوردة والبنية الحديدية العملاقة للـ " الحشرة " الأمريكية التي تستطيع الإفلات حتى من الألغام المدمرة، رغم أن الشاعر قد خلق تعادلا " جناسيا " في الحجم بين الوردة والحشرة، عندما قام بتصغير صورة الدبابة الأمريكية .

ولكن ثمة فارقا فادحا آخر بين أوديسيوسهم وأوديسيوسنا ؛ أوديسيوس هوميروس وأوديسيوس عبد الرزاق الربيعي، فنحن مميزون في كل شيء .. كل شيء . فمن المفروغ منه أن أوديسيوس الأغريقي سوف يحتفي به أحبته وأخلاؤه ويمضون معه الليالي الهانئة في سمر حرّ .. يسرد عليهم رحلة ضياعه الموجعة في المنافي القصيّة .. يتحدث معهم عن الأهوال التي واجهها .. والمخاطر الماحقة التي واجهها .. إنه قادر تماما على أن يتحدث مع ذاته في أي مكان عام بلا رقيب ولا حسيب كما يقال . لكن أوديسيوس العراقي محرّم عليه كل هذا، فهو لا يستطيع الحديث مع أصحابه إلا في المقابر ومن تحت رماد الذكريات الثقيل الجاثم على صدورهم .. هذا خطاب الخارج المتاح للعائد الأغريقي والممنوع على العائد العراقي .. لكن هناك حرمانا مضاعفا تكشفه وصية العودة الخامسة التي تأمر العائد بأن لا يكلم حتى نفسه . لأن الملثمين يتشممون الذكريات تحت الأظافر . وعندما عاد أوديسيوس إلى إيثاكا اقتص من " الخاطبين " الذين ضايقوا زوجته الصابرة " بينلوبي " . لم يجد " ملثمين " في إيثاكا .. اقتص من الأشرار وانتصر عليهم .. وحصلت المواجهة مع بشر من هذه الحياة على حلبة العالم العلوي العادل .. لكن أوديسيوس الربيعي عاد ليجد وطنه وقد اكتظ برسل من العالم السفلي .. ممثلون لسلطة المثكل كما يصف جدنا جلجامش الموت بدقة .. رسل يتشممون حتى الذكريات تحت الأظافر .. أشاعوا القتل والدمار بين أحبابه .. وأثخنوا جسد وطنه الممزق اصلا بالجراح العميقة: (عندما تعود الى الوطن

وتريد أن تكلم نفسك

فلا تكلمها في المقهى

أبدا

فالملثمون يشمون الذكريات

تحت الأظافر

لذا حاول أن تكلم نفسك

عبر(الإنترنت) ...)

 

ثم تأتي خاتمة الوصايا المميتة، الوصية السادسة لتشرخ المسافة بين أوديسيوسهم وأوديسيوسنا إلى الأبد . فقد عاد الأغريقي الغائب إلى وطنه جسدا وروحا .. كلّا متكاملا .. أما العائد العراقي فإن من الممنوع عليه أن يعود بجسده المادي، الوعاء الذي يحفظ روحه .. الربيعي يوصيه بأن يدع روحه تذهب إلى " هناك " .. وهي وصية لسلامته ن فجسده يمكن أن تخطفه موجة سوداء في أية لحظة . كما أن روحه قد تُمحق فيفقدها إلى الأبد .. وهذا تهديد لم يواجهه العائد الأغريقي .. على العكس من ذلك فقد انتعشت روح الأخير وتفتحت طاقات جسده . أما العائد العراقي فإنه يواجه خطر المحق في كل لحظة لأنه سيهبط إلى ظلمات العالم الأسفل في الواقع .. والأخطر هو أن الأغريقي عاد ليجد وطنه مكانا للحرية والإنطلاق .. مكانا من عالم الحياة العلوي .. كان يحلم بالحرية فوجدها في غيثاكا الحرّة .. أما العراقي العائد الذي عاش طويلا وهو يحلم بتحرر وطنه العراق فإنه سيواجه معادلة غريبة ومزقة .. معادلة فظيعة .. فالوطن يريد أن يتحرر، والمحررون الغزاة يريدون أن " يحرروا " له شهادة الوفاة .. أي أن يصبح هذا الوطن عالما أسفل إلى الأبد .. لا مكان لعالم الحياة الأعلى فيه مطلقا .. وهذا هو الفارق الأعظم بين أوديسيوس هوميروس وأوديسيوس عبد الرزاق الربيعي .. فالأول، الأغريقي، عاد من الموت إلى الحياة .. من الموت الأصغر إلى الحياة الكبرى . أما الثاني .. العراقي، فإنه يعود من الحياة (حياة معلقة في المنافي) .. أي من الموت الأصغر إلى الموت الأكبر:

(عندما تعود الى الوطن

لا تعد بجسدك كله

لكي لا تخطفه موجة سوداء

بل أترك روحك

تذهب وحدها

الى هناك

لكي لا تفقدها للأبد

في وطن

أراد أن يتحرر.....

وأرادوا أن يحرروا له

........... شهادة وفاة)

ولو راجعنا وصايا العودة المميتة الست من جديد، سنجد أن بنيتها اللغوية المفتاحية تقوم على حرف النهي الجازم " لا " حيث ترتكز كل وصية على الأمر القاطع الموجّه للعائد بأن لا يقوم بكذا وكذا . في حين أن كل هذه الأفعال حين تُوجّه إلى أي عائد بشري آخر في أي مكان من المعمورة ستتم بلا " لا " الناهية .. بل بأمر معاكس تماما: (إبحث أيها العائد عن أحبتك في البيوت والحدائق لا المقابر .. فتّش عن ذكريات طفولتك في مدرستك الأولى لا في الثكنة العسكرية، وعن رفاق صباك في أزقة الصعلكة الجميلة وحانات الآثام وليس في خرائط المنفي الجحيمية، إحمل ورودا لأحبتك، وحدّثنفسك بحرّية كاملة في المقاهي .. وعدْ بجيدك وروحك إلى وطنك الرحم الفردوسي المنعم ..) .. وهذه هي الوصايا التي تكقل عودة صحية ومعافاة نفسيا . أما العائد العراقي فإن عليه أن يضع علامة النهي قبل كل وصية وإلا فستبتلعه غيلان العالم الأسفل المتوحشة وتمزّقه .. ولا يكمن الخلاص الذينيتنتجه أخيرا من إيحاءات وصايا الربيعي سوى أن يبقى هذا العراقي معلقا في جحيم المنافي الصغير .. أن يتمسك بأذيال الموت الأصغر هربا وجزعا من الموت الأكبر الذي ينتظره ويا للعجب والخيبة في وطنه الرحيم ذاته . بالنسبة لأوديسيوس هوميروس العودة حياة .. وبالنسبة لأوديسيوس عبد الرزاق الربيعي فإن العودة موت ..

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1586 الاربعاء 24 /11 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم