تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

القاص المغربي سعيد رضواني يلهب الساحة القصصية العربية باصدارمجموعته: "مرايا"

يقع العمل القصصي في 73 صفحة، ويضم 11 نصا قصصيا، يتسم بغلافه المزخرف بمرآة لوجهين متماثلين يمثل لا - محالة -  كل  واحد منهما عالما متقابلا في المعنى، وفي الوقائع المتشابهة التي تخلق ندا مشابها للند الأول والثاني وباقي البقية في تجربة المبدع سعيد رضواني، المتسمة بالخروج عن المألوف في الصياغة والتأويل لوقائع الأحداث والقضايا المطروحة ،كما يزخر العمل بمفاهيم فلسفية عمد الكاتب الى تخطيطها  في مرآته التي تعكس أوجها ومرايا تتماثل وتتعدد حسب طبيعة ونوعية كل "مرآة"، وكل شبه جديد استنبطه رضواني من مخيلته التي استطاعت أن تخلق لنا أوجها متعددة من كل شخصية على حدى . وقد خص شيخ القصاصين المغاربة أحمد بوزفور هذه المجموعة القصصية بمقدمة رصد فيها معالم "مرايا"، وكيفية  الكتابة عن صاحب هذه المرايا ، بقوله:  "  "مرايا" تتميز بخاصيتها الفريدة: (المرآة). كل قصة من قصصها تنسج في وجدان القارئ هذه الإمكانية الخارقة التي يتمتع بها خيال الإنسان: إمكانية مضاعفة العالم، إمكانية أن تخلق لكل شيء ندّا، ولكل حيوان شبيها، ولكل إنسان قرينا. أن تخلق في السماء سماء، وفي البحر بحرا، وللصورة صورا، وللصدى أصداء لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد. هذه الأرجوحة اللغوية تدوخ القارئ، ولكنها دوخة ممتعة إلى حد الأوركازم. أليس الجنس مضاعفة للخلق؟

(مرايا) ليست مجموعة قصصية، إنها كتاب قصصي، ولكنه كتاب أَزلي سرمدي لا ينتهي، لأنه يتضاعف في كل صفحة، في كل جملة، في كل كلمة، كأنه التحقيق العيني لذلك الكتاب الذي كان يحلم به بورخيس.

2452-marayaوربما كان مما يضاعف متعة هذا الدوار اللذيذ في (مرايا) لغةُ الكتاب الجميلة الكامنة خلف هذا العالم المتعاكس المتصادي، إذْ كلما تضاعفت تفاصيل هذا العالم، كلما توارت اللغة التي تعبر عنه. لغة شفافة كصباغة التشكيلي المحترف، تبرز الموضوع وتختفي وراءه. لا تهتم بالبلاغة لأنها مشغولة بالتعبير، ولا باللعب اللغوي لأنها تلعب بالأشياء وصور الأشياء. لكنها وهي تطرح مساحيق التجميل، تحرص كل الحرص على اكتمال أدواتها، حتى لا يُشَتِّتَ ذهنَ القارئ (الملعوب به) تجميل ولا نقص.

هل يمكن أن نقول إن (مرايا) تطرح في العمق فلسفة الخلق الفني التي لم تنفد مقارباتها المتضاعفة منذ محاكاة أرسطو؟

هل يمكن أن نقول إن (مرايا) تعيد إلى القصة المغربية خصوبة الخيال وألعابه الممتعة بعد أن كاد يطغى عليها اللعب الشكلاني بالألفاظ؟

هل يمكن أن نفرح بميلاد كاتب حقيقي، وأن نهنئ به هذه الأم الولود المنجبة التي تفاجئنا باستمرار، بأبنائها وبناتها المتضاعفين: القصة المغربية؟

أترك الجواب| الأجوبة للقارئ العزيز.   "

و لعل العنوان الطافح بالأسئلة والمشاكسات في الغوص بالاستفهامات الذي اختاره الكاتب لمجموعته القصصية "مرايا" ، فان امتاز بشدة اختزاله، فهو يحمل في طياته دلالات وانسياقات في العمق محتملة العديد من  أسئلة الملاحظة والتفسير والتأويل الى كل الأشياء المتماثلة  في الأفكار والتجارب والرؤى، فهو في الحقيقة اسم لجسم حساس قبل كل شي ، يقبل كل شيئ، ويغازله القبيح والجميل من الأشياء التي تخالطه وتخالطنا في حايتنا اليومية ، وخاصة منها التي تقع أثناء فعل الكتابة ، وهذا الاختيار ، بقدرما يثير الدهشة لدى المتلقي ، فانه يبدأ في اللحظة الأولى بولوج عمق المجموعة القصصية. فمنذ القصة الأولى الموسومة ب" مرايا الأحلام"  يجد القارئ نفسه في عالم تتضح جوانبه بالتماثلات  المتقاطعة ، في عالم تتماثل فيه  الأفكار والرؤى، فيصبح الانسان وليد اختلاطات وايديولوجيات تحكمت فيها وقائع سابقة.

كما تتناول باقي المرايا القصصية في المجموعة الواقع الحقيقي، بل تشخصه في عدة أصوات تلعب أدوارها الرئيسية في كل قصة من المجموعة، والتي يمكن أن تكون شاهدة على أحداث واقعية، وأخرى ربما تخيلها الكاتب، فجعلها تمشي وتجري في فضاءات وأزمنة خاصة بالكاتب، والتي أضحت وليدة أخرى وسابقة بكيفية برع في ثمثيلها في كل قصة على حدى  .  هذه النمطية الكتابية التي نقش من خلالها سعيد رضواني  عمله الأول، ذات أبعاد تأويلية مختزنة لمفاهيم وأبعاد متخيلة، تنبني على  أسلوب يتميز بالبساطة القادرة على السيطرة على المواقف الصعبة ، التي تتشظى فيها الذات، وتصير متعددة الوجوه الى مالانهاية من المرايا... فالكتابة في المجموعة القصصية عند القاص المغربي المتميز سعيد رضواني تنطلق من مغامرة البحث عن الحدود القصوى، عن تخوم المعنى فيما وراء الذات، فالأمكنة والأشياء البسيطة مثلا التي  نسجها ولا يعيرها بقية الناس اهتماما، هي التي تمنح العالم قيمته، وتملأ فراغاته بالدلالة، ومن هذا التشظي تبرز الشخصيات ككائنات شفافة، يستطيع  كل واحد منها أن ينظر الى ذاته فيرى الآخر، أو ينظر الى الأخر فيرى ذاته، مع مايتطلبه ذلك من اشتغال على الرمز والتكثيف، على اعتبار أن القصة القصيرة هي مغامرة محفوفة بكل المخاطر التي تعترض سبيل المبدعين الراغبين في قول العالم بأقل ما يمكن من الكلمات والتعابير التي تفنن سعيد رضواني في أبرازها واخراجها الى الوجود، في مجموعته الباذخة تعابير تحتم على القارئ أن يشاكس بالأسئلة عبر الإجابة المتعددة التأويل والاحتمال ، مما جعل النمط الذي انساقت معه المجموعة  يطغى عليه السحر اللغوي والتأويل الجمالي الفاتن والمنساق مع الفرضيات المتعددة، على نحو ما نجد في روايات أمريكا اللاتينية على شاكلة كتابات  باولو كويلو وخورخي لويس بورخيس،  أو على نحو ما عبر عنه الروائي المغربي رشيد الجلولي حين قال عن "مرايا": لقد استطاع سعيد رضواني أن يحشرنا في فضاءات بورخيسية بامتياز، أقل مايمكن القول عنها بأنها زاخرة بالمرايا العاكسة لبعضها البعض، بحيث تشكل متاهة مفتوحة من الصور والكلمات والكائنات، التي تعكس بعضها البعض، كأنها ظلال شفافة لنفس الشيئ."

 ويمكن القول أن المجموعة القصصية أو الكتاب القصصي السرمدي كما عبر عنه أحمد بوزفور : "مرايا " لسعيد رضواني، صورة تختزل عدة صور، تتأثر جميعها بتصادم التماثلات في الأشخاص و الحضارات والقيم والأخلاق والانسانية، في ظل التغيرات الفكرية والايديولوجية الطافحة على مرايا العالم وانعكاساتها ، مرايا من جهة البحر، وأخرى قابعة في لب الماء،  الماء الذي يخمده الكاتب ويزيد من وهجه كلما اراد في كلمات مجموعته القصصية. وهو نفس السياق الذي يذهب اليه خورخي لويس بورخيس في جميع كتاباته العاكسة للتماثلات كما  في ديوانه الرائع : "مديح العتمة"، حين قال في قصيدة "أعمى ":  " لست أدري كيف يكون الوجه الذي يراني

عندما أنظر وجه المرآة

لست أعلم أي عجوز يتقلص على انعكاس محياه

بغيظ صامت واهن

أتحرك في ظلي ببطء

متلمسا بيدي ملامحي اللامرئية

يمسني وميض فألمح شعر رأسك

الذي من رماد... بل من ذهب "

أو في خطابه للمرآة في قصيدته الرائعة: " الى مرآة"، حين يقول في عظمته المعهودة: " تبحثين عني في الماء القلق 

و البلور السرمدي

وليس مجديا أن أكون أعمى

فحين أعلم  بوجودك ولا أراك

أتخيلك كائنا مرعبا

انه لنوع من السحر أن تجرأي

على مضاعفة رقم الأشياء

التي هي نحن

والتي تواكب مصيرنا “

وبناء على التشبيهين السالفين، أجد الكاتب أيضا انحنى في سياقات أخرى من جهة الأدغال الإفريقية العظيمة بشعرائها والعاكسة لمرآته الطافحة على الغرابة في الكتابة التي بات الكتاب المغاربة  أو العرب يكتبون بها في السرد أو في القصة خاصة، فالتجديد راهن عليه  سعيد رضواني في تحديث كيفية استخراج الكائنات الحية من المرآة أو الأشياء التي أخرج منها سعيد كائناته، لتصير كائنات أخرى هي نفسها بأوجه متعددة ومختلفة، تجري وتركض صيفا وشتاء كلما الحر، كما ذهب الشاعر السينغالي العظيم" بيراغو ديوب" في كلماته الرائعة: " الأموات ليسوا في الثرى

انهم دم الشجر في الغاب

الهامس

وفي المياه الصاخبة

والمياه الهادئة،

 وفي المكان المنعزل

وفي الجمهور،

الأموات ليسوا موتى..."

 

ان مجموعة" مرايا"، بطريقة ة كتابتها وأعماقها  التي تتقاطع مع كتابات رائدة كما سبق الإشارة إلى ذلك، هي مجموعة جامحة تنفتح على كل الرؤى الانسانية حيث يتقاطع ويتماثل  فيها الواقعي بالذاتي، البيت   بالشارع، وأيضا بالتخييل الذي برع في ترويضه صاحب هذا العمل القصصي الذي يستحق كل المتابعة والقراءات النقدية التي ستزيد حتما من وسامته، في الساحة القصصة المغربية والعربية. انها مرايا لمرايا كائن سمي قديما بالابداع الحقيقي، حيث كائن آخر سمي بالماء من جهة المرآة العاكسة لشجوننا..

أنس الفيلالي

شاعر وباحث

 في التاريخ والأدب

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1590 الاحد 28 /11 /2010)

 

 

في المثقف اليوم