قضايا وآراء

يحيى السماوي ... براعة الإتقان والابتكار في "لماذا تأخرت دهرا" / صالح الطائي

ولم يعافوا منه مجرد هنة تخطر على البال، أو صورة تشبه المحال، حتى أشبعوها قولا ونظما، فارتوت ولم تعد تبحث عن مزيد.

لكن نفس الإنسان التواقة للتجديد والابتكار تأبى أن تقف عند حدود المتعارف لترفع رايات الاستسلام، وهي لو لم تكن بهذا القدر من الرغبة الجامحة لخلق الكمال في ما ترى أنه غير مكتمل الصنع ويحتاج إلى التشذيب والتزويق، أو أنه لم يخلق بعد  ويبحث عمن يبتكر هيئته وينفث فيه من روحه روحا ويبعثه سويا، لكانت قد استكانت وهجعت فماتت وانقرضت كما انقرضت الديناصورات وهي أقوى وأضخم وأشرس منا مئات المرات.

 ولا تجديد وديمومة بلا ابتكار وإتقان، فبين الإتقان والابتكار يولد التجديد الثر الذي يسبغ على الحياة جماليتها ويظهر براعة رونقها وجميل ما تنطوي عليه خلجاتها، ويفضح أسرارها ليخلق منها الحياة التي يتمنى أن يحياها هو والآخرون.

الابتكار هو خلق ما لم يكن موجودا، أو خلق موجود جديد من موجود قديم يختلف عنه كليا، أما الإتقان فهو ضبط الصنعة وفق مقاييس الكمال، فتأتي نتاجاتها وكأنها على أكمل ما تكون، فلا يضاهيها شيء من سنخها، هما أن تصنع النار الوهاجة المشرقة المبهجة التي تبعث الدفء في الحياة من بقايا جمر ضئيل مركوم عليه الرماد حتى كاد يختنق من ثمالة، لكي تستضيء بوهجه الأحلام وتبتسم الهواجس بغنج الصبايا عند ربيع الشطآن.

الابتكار والإتقان يتوقدان كما الجمر في ريح عاصف لكنهما لا يتميزان بأثرهما المدهش إلا إذا أضفي عليهما شيء من سحر البيان، ووشحا بقبس من أنوار العرفان، وخضعا إلى تمحيص الابتكار، وبعد العجب عن الإعجاب بالقرار

الابتكار والإتقان يعنيان قدرة المتمثل بهما على تسخير العناصر وربط الأواصر حيث تتوافد السجايا من كل فج عميق للتنقيب عن آثار الحقيقة في مدافن الروح المتشحة بالغربة لرفعها إلى علياء الواقع لكي ترمقها المقل وترنو إليها بحنان رطيب، فتحج لها الأمنيات والآمال.

والإتقان والابتكار لا يتوهجان إلا إذا أهديت قلبا لقلبك المعشوق فمثل هذا العمل الجبار لا يصدر إلا عمن يحمل قلبا حقيقيا نابضا بالتجديد ناصعا كبياض الثلج.

 ولقد تصفحت ديوان يحيى السماوي "لماذا تأخرت دهرا" فلم أجد قصائد شعر كما تعودت أن أجد الشعر، بل وجدت قلبا ينثر الأطايب مترعا بحب  الإبداع وعشق التجديد، وجدته يعيد ترتيب الأماني في كتاب العمر وهو يدري أنه كتاب المستحيل ويسأل من يحب "تستكثرين علي حزني؟" بعد أن شاخ الطريق واكتهلت الخطوات  فالمكان يعدو مفارقا الأقدام، وجيشان يشتجران في الجسد الذي أنهكته الغربة فلم يبق في بستان العافية إلا هشيم العشب والدغل، ليس لأنه عجز عن مسايرة المكان والزمان، وليس لأنه يتماهى مع الوجد فيقول: (لا تنتظر مني شراعا قادما فلقد غدوت مضرجا مشلولا) وإنما لأنه تأخر دهرا!

 ألا يحق  بعد  لسادن الروضة أن يبكي الأزهار التي شقت زيقها فارتدت الفراشات ثوب الحداد، وأقامت مجلس الصمت الربابات؟

ألا يحق بعد لسادن الروضة أن يتأوه  ويبكي زمنا ولى لم يفلح فيه بجمع عطر الحلم والجنة والشعر بوردة، زمن به العهر حلال والمروءات حرام، زمن أصبح فيه الصبح أدجى من عباءات الدراويش وأحداق المداخن؟

ألا يحق لسادن بستان النصوع فواح ضوع المشارق وألق أزاهير الفجر الفواحة، المتلفع برائحة الخبز وعذوبة الفرات ودجلة، حامل إرث أنكيدو وكلكامش، سليل بابل وآشور، باني زقورة العلوم، وهو يرى انبلاج الفجر في كل خرائب الكون  فلا يتذكر زوجة أو ابنا أو حبيبا بل يتذكر وطنا مستباحا سرقه اللصوص في وضح النهار أن يبكي هذا الوطن الجريح مسفوح الدم على يد العواهر وأبناؤهن: (مسكين وطني منطفيء الضحكة مفجوع الإنسان.. لو كان له مثلي قدم وجواز ولسان ..لمضى يبحث في المعمورة عن ملجأ أوطان!!)

يا باسقا مثل النخيل وماسكا عرف الصهيل دعها تحييك الخيول ودع التأوه والذبول، لا تلتفت إلى الستين أضناك ... هواها فمحياك به تزهو سماها

ستون نخلة شمخت في عمر فارسها ...... تبكي البساتين من ضيم ومن كمد

ستون وردة قرنفل علقتها الصبايا في شعورهن، وأدخرها المحبون في أعماق مخاوفهم، استباحها السماوي المتمرد وأصبح ينظر إليها فلا يرى من خلال عتمتها سوى مغترب قسرا، حبيس قضبان الخريف ولا ربيع .. جف الربيع على نوافذنا وما جف النجيع، لكنه كما عهدناه من قبل سميا وشجيا، لا يلتفت إلى الستين .. وإنما يلتفت بكل كيانه إلى العراق الساكن في أحشائه ويستمد من صموده الصمود، ومن مكارمه الجود، ومن إيمانه صدق السجود، فالشجاعة لا أن تنجح بالتصدي لقوى أعظم منك .. الشجاعة أن تطاول إلى آخر ذرة من كيانك مرفوع الرأس متوضيء بنور الإيمان، ألست أنت القائل:

طالما كنت شراعي فأنا ................ مبحر حتى حدود الغرق

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1591 الاثنين 29 /11 /2010)

 

في المثقف اليوم