قضايا وآراء

مصدّق الحبيب: أحيّيك .. وألعنك .. وبالعكس / حسين سرمك حسن

فريدة تضع بصمتها على الجسد التشكيلي بلا حدود . من هؤلاء الورثاء الأصلاء الآن الفنان المبدع " مصدق الحبيب " . أقف الآن أمام اللوحة الثالثة من اللوحات الخمس عشرة التي نشرها له موقع " المثقف "، لوحة يتجلى فيها إعجاز هائل من ناحية اللون والشكل والمنظور والحركة .. والأهم الفكر والرؤى . مع اللوحة الكلاسيكية القديمة كنت تقف وتنظر وتنبهر من حدة هذا الجمال الصادم ثم تبتعد منفعلا بها إنفعالا تخف وطأته كلما اتسعت المسافة الزمنية والمكانية عن المكان " موضع اللوحة " . أمام اللوحة الحديثة – ومنها لوحات مصدق هذه – تقف وتتأمل قبل أن تنفعل .. هناك فاصلة بين البصر وبصيرة اللاشعور .. في هذه الفاصلة تتجمع التأملات العميقة .. التأملات الوجودية والفلسفية والنفسية والجمالية والكونية .. لتنتج بذاتها الإنفعال الذي يأتي مدوّيا لكن مكتوما . بعد أن تبتعد عن لوحة مصدق تلاحقك أفكارها ورؤاها وتركيبتها الملغزة . وهذه اللوحة تمسك بتلابيب انتباهتك وتستجمعها في حزمة انفعالية وإدراكية شديدة الإحتدام . وأرجو من الأخوة المشرفين على موقع المثقف نشر اللوحة مع هذه المقالة حيث لا يمكن فهم المقالة دون الرجوع إلى اللوحة خطوة خطوة، وهنا يكمن فارق حداثي آخر حيث يمكنك أن تحكي " قصة " لوحة كلاسيكية لمتلق آخر فيعجب بها و " يفهمها " دون أن يراها .. لكن مع لوحات مصدق الحبيب لا يمكن نقل انفعالك وإدراكك للوحة دون أن تكون اللوحة معك وأمامك، ويبدو أن الفن الحديث لا يشرح فعلا .. إنه يُحس ويُدرك و " يُتذوّق " بطريقة شبه صوفية . ستلاحظ أن التركيب الدائري هو المتسيد في هذه اللوحة بدءا من تفاحتي العجيزة المباركتين . وعندما كنا صغارا كان بائع الرقي العجوز المتعب يدخل شارعنا وهو يصيح : من حلاوته مدعبل !! وكنا نندهش ونتساءل : كيف أن الشيء الحلو جدا يصبح مدعبلا أي كرويا .. وعندما كبرنا واطلعنا على نظريات علم النفس عرفنا أن الشكل الذروة للجمال هو الدائرة .. وأن الشيء الذي يكتمل جماليا ينغلق على ذاته ؛ يصبح دائرة .. من تفاحتي عجيزة الأنثى المباركتين تتواشج دوائر أخرى وأوتار .. وكل تركيب دائري يحمل معان دفينة ليس من السهل اكتشافها إذا لم تجهد ذاتك في البحث .. هنا تتجلى سمتان حداثيتان: الأولى تتمثل في أن على المتلقي أن " يتعب "، أن يجهد نفسه ليشارك بفاعلية في فك الغاز اللوحة .. كان المتلقي سابقا سلبيا إذا ساغ الوصف .. تُقدم له الوجبة الفنية كلملة وما عليه سوى أن يهضمها .. مع اللوحة الحديثة – ولوحات الحبيب أنموذجها الباهر – على المتلقي أن يشمر عن ساعديه الإدراكيين ويتعب ويعرق في الإعداد والتفسير كي يفهم ويستمتع . فمن " تفاحة " الانوثة – المحارمية تحديدا وهذا أمر شائك التعقيد – اشتقت تفاحة الخطيئة التي وضعها مصدق مكتملة وبسيطة في الظاهر .

 alhabeeb 3

لكن تمعن الآن في هذه التفاحة، ماذا سترى ؟؟ هنا نأتي إلى السمة الحداثية الثانية على مستوى التلقي وتتمثل في " البحث " .. في اللوحة الكلاسيكية لا يحتمل التلقي الممتع البحث والتفتيش .. هنا – أمام لوحات مصدق الحديثة – لن تكتمل متعة التلقي والاستكشاف من دون " بحث " .. من دون " استقصاء ". حاول أن تضع إبهامك على التفاحة بطريقة لا يظهر منها سوى الوتر العلوي ستجد أن الشكل يمثل سرّة امرأة ملتهبة نشوة .. بطن ينحدر نحو الأخدود المميت .. ثم ضع إبهامك على هذا الوتر / المثلث ستجد الشكل المتبقي عبارة عن نصف رجل بفخذ وساق وهو في حالة الفعل الجنسي المنهم الحاني .. لكن إخفاءك الثلاثة أقسام من التفاحة وإبقاء القسم الرابع في اليمين سيوحي إليك بالتحام فخذين .. إلتحام عزوم رغم أن يد الأنثى هي في الواقع يد الذكر ممتدة نحو الجسد الأنثوي الطازج .. وتقابل هذه الذراع المتصورة – بتناظر مدروس في النصف الأيمن من اللوحة، وبتركيب دائري أيضا – ذراع جسد الرجل الممتدة بنعومة لتحتك بظهر الأنثى .. ذراع تبدأ بكف واضحة تقبض على دائرة الشهوة الحمراء الحارقة .. هذه الكف تتحول حين تتابع امتدادها إلى فخذ متصل بجسد محني حيث الظهر الحاني ينتهي بدائرة قد تمثل الرأس لكنها ثدي المرأة المشرئب معبرا عن لحظة الإلتحام الباهرة حيث يتعشق الجسدان : جسد الذكر وجسد الأنثى في وحدة يصعب فصلها .. لكن أصابع الكف الذكورية تقبض بمكر على منطقة سوداء مغيبة لكن معروفة .. ويبدو أن البراءة ضد الفن الحديث .. قد يكون الفن الكلاسيكي يشترط البراءة في النوايا التعبيرية في حين أن الفن الحديث يشترط " الخبث " والنوايا المسمومة .. وحين تحسب الأكف المجسدة في اللوحة ستجد أنها ثلاثة .. أين الكف الرابع ؟ .. لا يمكن استخلاص موقعه إلى إذا أعدت التأمل في الذراع الذكورية الممتدة من جسد التفاحة والغائصة في مكان يترك مصدق الحبيب لك تصوره .. ولو لاحظت الكف الثالثة العلوية للأنثى التي تمتد فوق الرأس الأنثوي المشرئب نشوة فستجد أنها مع الكف الثانية تحيط بتركيب ذكوري محايد لكنه يتفق مع إيحاءات المناخ الحسي العام في اللوحة، خصوصا عندما تركز على الإمتدادات المقطعة المرتبطة بالأخدود الأسفل والطبيعة الكلية الجنينية لهذا التكوين الهش الذي حرص الطرفان الذكر والأنثى على احتضانه بقوة، وستجد أنها – أي الكف - تعبر عن احتضان مستسلم وديع يقابله إمساك خانق بأذرع ذكورية تتواشج مع التركيب الحلزوني المركزي .. هذا التركيب ينهض فوقه – وأرجوك، من جديد، تأمل اللوحة مع كل وقفة – جسدان ملتحمان .. جسد ذكر ملتحم بجسد أنثى من الخلف .. وخلف الذراع الحاضنة هناك شبه منحرف يمثل بطنا وسرة ذكورية تشرف على البطن والسرة الأنثوية التي اشرت إليها آنفا .. حاول الآن أن تنحدر إلى أسفل اللوحة وتأمل مكوناتها بهدوء ستجد أن الدائرة التي تحدثت عنها في النصف الأيمن والتي يمثل محيطها ظهرا ذكوريا منحنيا برقة على الجسد الأنثوي يتضمن جزءا من وركين وفخذين ملتحمين .. ويصل مكر المبدع في هذا التركيب أقصاه في اسفل اللوحة حيث هناك التحام صاعق وحيي لا تستطيع إدانته رغم أنه مكشوف تماما .. وهذه سمة حداثية مضافة حيث يغيّب الإبداع انتباهة المتلقي ويربكها حد أنه يمرر سم الباطل الغرزي المفح في عسل الحق التصويري المحايد .. وإلى يسار هذا المشهد هناك تركيب جنيني طاف في عماء الأزرق اللذّي .. يلخص لنا ثمرة الخطيئة المباركة .. وهنا نحال إلى سمة حداثية أخرى وتتمثل في " القصدية – intentionality " حيث لا يوجد أي مكوّن زائد في اللوحة الحديثة .. لا يقحم الفنان أي شيء لا تكون له وظيفة دلالية .. لقد تحولت اللوحة من " صورة " إلى " نص " ..

تحية للمبدع الكبير " مصدق الحبيب " ..    

      

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1593 الاربعاء 01 /12 /2010)

 

 

في المثقف اليوم