قضايا وآراء

قراءة أكاديمية في مقتل الحسين بن علي (ع) (61هـ/680م)

وليس من السهولة كتابة نص أصلي خال من الإضافات والتفرعات للمقتل؛ لأن المقاتل استندت إلى رواة لا يملكون الوعي الكافي بماهية الثورة الحسينية، ولا فلسفة القراءة التأريخية. وإذا كانت رواية أبي مخنف كما رآها الطبري أشبعها وأتمها، فهو مضعَّف، وهناك الأكثر ضعفاً كابن لهيعة.

إن فهم فلسفة ثورة الحسين ينطلق من أمرين: اعتقاد أهل البيت بحقهم في الخلافة اعتقاداً نهائياً كما في قول الحسين " نحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان" وقول مسلم بن عقيل حين قال له ابن زياد:" كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئاً؟ فقال:"والله ما هو بالظن ولكنه اليقين"، وإلزام أنفسهم بإصلاح الفساد كقول الحسين " إنما خرجت اطلب الإصلاح في امة جدي محمد أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"، إلا إن ذلك مشروط بوجود (الناصر) ويسقط عنهم التكليف دون الحق بعدم وجود الناصر وهو ما أسسه قول الإمام علي (ع): (لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر وما اخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم وسغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها)" أي "ان الغرض تعين ويوجب مع وجود من انتصر له على رفع المنكر ومنع الباطل"، وعلى هذا الأساس كان على الحسين وجوب الذهاب إلى الكوفة لا استحبابه بعد ورود الرسائل التي تؤكد انتصارهم له إذا جاءهم.

ثمة تزيدات وأفكار خاطئة في المقاتل ممكن تأشير بعضها دون بعض، كالزعم بأن الحسين قال غداة الطف" إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف خذيني"، فهذا القول هو بيت من الشعر للخطيب الشيخ محسن أبو الحب الحائري (ت1305هـ/1888م). كما أضيف إلى دعاء الحسين على أهل الكوفة؛ فرواية أبي مخنف:"اللهم أمسك عنهم قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض. اللهم إن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي عنهم الولاة أبداً". وروي في مقاتل أخرى متأخرة بإضافة ".. وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبَّرة.. ينتقم لي (وفي رواية أخرى ينتصر لي) ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم". فهذا الكلام موضوع، لإشارته إلى أمور غيبية، وهو أيضاً مغلوط لأنه موزع بين المختار والحجاج فكلاهما ثقفي، فإذا كان المراد المختار فهو انتقم من أغلب وليس كل قتلة الحسين ولم ينتقم من باقي أهل الكوفة (مقاتليه وخاذليه) بل استعان بهم، ودعاء الحسين موجه إلى الكوفيين بلا استثناء. وان كان المراد الحجاج، فهو انتقم من الكوفيين كلهم عدا قتلة الحسين، وبطريقة لا ترضي الله ولا الحسين، فضلا عن كون الحجاج مجرماً ولا يليق بالحسين انتظاره لأخذ حقه!! كما أضيف إلى الحسين ما يدل على انه ترك مكة إلى العراق مضطراً بقوله " وأيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني"! فهو جهل بحقيقة إيمان الحسين بحقه بالخلافة ووجوب النهوض مع وجود الناصر. كما رددت المقاتل أن الحسين جاء لعلمه انه يموت في كربلاء، ولكن جاء في أوثقها استبعاد الحسين من القوم قتله في قوله للحر: "أفبلموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ لا ادري!!". ويكشف حديث الحسين مع أخته زينب (عليهما السلام) في ليلة الانتظار انه لم يضع في نيته الحرب قبل هذه الليلة البتة، فبعد تأففه وهو يعالج سيفه مع رجز قاله وكرره مرتين أو ثلاثا، سمعته زينب فأقبلت إليه باكية متفجعة فقالت: "بأبي أنت وأمي استقتلت (أي طلبت القتال)! نفسي لنفسك الفدا". فأجابها، مبيناً انه حمل بلا رغبة منه على ذلك بقوله متمثلا بالمثل العربي: "لو تُرك القطا ليلا لنام"، فقالت:" إنما تغصب نفسك اغتصاباً فذاك أطول لحزني وأشجى لقلبي" فراح يعزيها بأقوال كثيرة. فهذا المشهد ممثلا بإعلانه الأسف واعترافه باضطراره إلى الحرب وظهور عويل النساء بعد معرفتهن بأن الحرب واقعة لا محالة، ومكاشفة الإمام أصحابه وطلبه منهم المغادرة، كل هذا يدل على انه تفاجأ بتحول الأمور والوصول إلى خيار الحرب، وهو حتماً يفسر جلبه عائلته وما كان ليعرضها للهوان لو علم بالحرب. وظهر في الأحداث اثر لحصان الحسين عند الخوارزمي ولكنه معقول "واقبل الفرس فوضع ناصيته في دم الحسين، وذهب يركض إلى خيمة النساء وهو يصهل ويضرب برأسه الأرض عند الخيمة، فلما نظرت أخوات الحسين وبناته وأهله إلى الفرس ليس عليه احد رفعن أصواتهن بالصراخ والعويل"، ولكنه يصبح أسطوريا عند ابن شهر أشوب فهو يذبّ عن الإمام الحسين بعد سقوطه، ويحامي عنه، ويثب على الفارس فيخبطه عن سرجه ويدوسه حتى قتل أربعين رجلاً، فإذا كان قتلى جيش الكوفة في أصح المقاتل ثمانية وثمانين، فيكون الحصان قتل نصفهم تقريباً، وقتل الحسين وأهل بيته وأصحابه النصف الآخر!!

الرسائل المزورة

      بعد قراءة النصوص بدقة مع مجاراة اختلافها ومحاولة إعادة ترتيب الحقيقة من خلالها، يتحقق أن يزيد كان يريد، بناءً على وصية أبيه التحذيرية، أن يخرج الحسين من العراق ليقتله لصعوبة قتله في معقله وفي مجتمع يؤمن بأحقيته بالخلافة، فهو في (مكة) غير مدافع عنها (الخلافة) كما اعترف غريمه عبد الله بن الزبير. وهنا نقترح أن يكون يزيد هو من أرسل الرسائل المشددة للحسين، دون علم العراقيين، بتواقيع شرفاء الكوفة، ليجتذبه إلى العراق ويوقع به، أو انه دجّن بعض أشراف العراقيين لمصلحته فاستكتبهم، لان الحسين قبل المعركة صاح بأشراف الكوفة "يا شبث بن رِبعي ويا حجار بن أبجر ويا قيس بن الأشعث ويا زيد بن الحارث، ألم تكتبوا لي في القدوم عليكم، قالوا: لم نفعل!" ، كما أنكر الرسائل الحر بن يزيد الرياحي قائلا للحسين:"والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر!"، وقد عقد ابن زياد لواءً لشبث بن ربعي، وكان معه في القصر عشرون من الأشراف، ووصفهم أبو مخنف كألعوبة بيد يزيد الذي راح يسخِّرهم لاقتياد العراقيين للحرب ضد الحسين كما في قوله:"اشرفوا على الناس فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم وصول الجنود من الشام إليهم". والذي يؤكد أن العراقيين لم يراسلوا الحسين، هو أنهم لم يقاتلوا معه البتة، بينما قاتلوا مع الثوار الباقين وان نكصوا بعدها؛ فقد قاتلوا مع سليمان بن صرد والمختار وزيد وبقية الثوار، وذلك لأنهم حشدوا فاستعدوا.

أهل الكوفة

لم يلق مسلم بن عقيل في الكوفة شعباً ينتظره بحزم وعزم الرسائل المرسلة، بل إنهم تلقوه بالبكاء لا بالحماس، وتعاملوا معه عاطفيا وهذا يؤشر عدم وجود تنظيم مسبق للثورة، ويؤكد تفاجئ الكوفيين بمسلم والحسين. ثم  طرحت فكرة اغتيال أمير الكوفة التي لم يقتنع بها مسلم ربما لخيبة أمله بما آل إليه الحال، وفضَّل النهوض بمن وقّع على تأييده منهم فكان أن قاتل بشرذمة لا ناصرة ولا منصورة، لان الكوفيين حشدتهم السلطة لقتال الحسين. وهنا لابدّ من إيضاح حقيقة أن الكوفة مثلت للتشيع حطب الثورة ومسعر الحرب، إلا أنها في طول تاريخها الثوري مثلت الخذلان السريع لكل ثائر ناصرته فهي كـ(نار القصب) تشتعل بشدة وسرعة مرعبة ثم تنطفئ فجأة (كما قال أحد المستشرقين). وقد أشار إلى هذه الحقيقة قواد الشيعة وثوارهم؛ فقال الإمام علي:" إنما أنتم كالمرأة الحامل حملت فلما أتمت أملصت"، وقال الحسين " إنهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا" وقال زيد بن علي لنصر بن خزيمة بعد انفضاض أهل الكوفة عنه: إن أهل الكوفة فعلوها حسينية، ووصفهم أبو السرايا حين خطبهم شاتماً "إنما أنتم كفيء الظل"، وقال البغدادي كان من أمثالهم قولهم: (اغدر من كوفي).

قادة حرب يزيد

تولى قتال الحسين أربعة قياديين، هم كما وصفهم الجاحظ: يزيد (الملك)، وشمر بن ذي الجوشن (الرئيس)، وعبيد الله بن زياد (الأمير) وعمرو بن سعد (قائد الجيش)، وهم بهذا التسلسل في القوة والأثر، فابن سعد أضعفهم وهو مفضوح التردد غير واضح الولاء لذا طرده يزيد أخيراً، وهو سطحي في الأحداث وأقربهم إلى السلم لذا التقاه الحسين على انفراد للتفاوض مرارا. وكان عبيد الله بن زياد أقوى كرهاً وحرباً ولكنه لا يمثل يزيد، لذلك قبل بالصلح: " هذا كتاب رجل ناصح لأميره، مشفق على قومه.. نعم قد قبلت". أما الشمر فهو ممثل يزيد ومراقب سريان الخطة التي وضعها لقتل الحسين، لذا اعترض على قبول ابن زياد الصلح فانبرى قائلا بعنف:"أتقبل هذا وقد نزل بأرضك والى جنبك"؟ ثم اقترح خطة تفاوض سلبية تنسخ وتمسخ الصلح، وقد لقنها الشمر لابن زياد فراح يتبناها لأنها رغبة يزيد وهي " لينزل على حكمك هو وأصحابه، فان عاقبت كنت وليّ العقوبة، وان عفوت كان ذلك لك". لذلك وجدنا عمر يقول للشمر بعدما تلقى من ابن زياد رسالته التي تضمنت خطة الشمر البديلة "أفسدتَ علينا أمراً كنا رجونا أن يصلح، والله لا يستسلم الحسين ابداً"، وهو ما كان فعلا فعندما عرضوا الأمر على الحسين عرف الأمر وتبينه فاستمهلهم إلى الغد ليستعد للقتال وينظر في أحوال عائلته، وجاء في روايات متأخرة قوله:" هيهات منا الذلة". لقد أدرك الحسين في هذه النقطة ما خطط له يزيد، وتبينت الحقيقة كلها، لذا أراد تسريح كل من معه حتى أقاربه، وهو تفسير قوله لهم:" إنَّ القوم ليسوا يقصدون غيري"، ولكن ما كان لهم تركه وما كان له إجبارهم على ذلك.

معدمة الطف

ليس من الدقة والصواب إطلاق اسم حرب أو معركة أو وقعة أو أي اسم عسكري على حادثة الطف، فهي بين فئتين مختلتي العدد جداً؛ أفراد (نحو مائة) مقابل آلاف (نحو عشرين ألفاً). وان استقراء النصوص بعمق، يظهر أنها شكل من الإعدام! فكان أصحاب الحسين يتقدمون إلى المبارزة أو القتل واحداً تلو الآخر. وكانت المبارزة الطريقة القتالية الوحيدة المفروضة، بدأت بها المعركة وانتهت، فكان الرجل يستأذن الحسين ويودعه ويتقدم، وقد جاء في مقاتل الحسين ان عبد الله بن عمير استأذن الحسين فإذن له، وترد استئذانات من عمرو بن قرظة وحبيب بن مظاهر وآخرين. وجاء عن الصحابي الشيخ أنس بن الحارث بن نبيه الكاهلي "انه لما جاءت (نوبته) استأذن الحسين، وفي تاريخ اليعقوبي: ثم تقدموا رجلا رجلا.. وذكر الخوارزمي أن أصحاب الحسين كانوا يأتونه الرجل بعد الرجل للاستئذان ثم يحمل فيقتل حتى قتلوا عن آخرهم. ويؤكد صورة المعدمة ان الذي يبرز من اصحاب الحسين يتلقاه أكثر من واحد فيقاتله، ولو كانت مبارزة لكانت رجلا لرجل.

وقد أدى إلى هذه الصورة من القتال أمران: الأول رغبة السلطة الكوفية في أسر الإمام (إن أمكن) أو قتله قتلا مشرفاً لها، فرأت من العار عليها أن تطبق بجيشها الكبير على أصحابه القلة، والثاني: عدم إيمان الكوفيين بشرعية قتل الحسين، وهذا جعل جيشهم غير مجمع على قتاله فلم يقاتلوا بروح الجميع. وقد جاء في مقتله انه مكث طويلا من النهار، ولو شاء الناس أن يقتلوه لقتلوه ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء. لذلك ذهبت سدىً صيحة عمر بن سعد في بداية المعركة " احملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة"، وانفرد ابن طاووس بذكر اشتباك للجيشين في البدء، وهو مخالف للمنطق؛ إذ لو وقع هجوم شامل من الكوفيين على أصحاب الحسين لأفنوهم عن آخرهم وما كان بعده قتال.

وكانت خطة جيش الكوفة حمل الحسين على الاستسلام، متخذين إلى ذلك خطوات: الأولى قتل خيول الحسين رشقا بالنبال لشل حركة جماعته وتسهيل تطويقهم، وهكذا تحول أصحاب الحسين كلهم رجَّالة. والخطوة الثانية حرق الخيام لأنهم جعلوها خلفيتهم فلم يقدر جيش الكوفة على قتالهم إلا من جهة واحدة، فأرادوا بحرقها أن يحيطوا بهم. أما الخطوة الثالثة فكانت الحصار المائي لإضعافهم عطشا، ولو أرادوا إبادتهم لأطبقوا عليهم وأفنوهم دون الحاجة إلى هذه الخطوات، وحين يئسوا منه عملوا على قتله وقتل أصحابه بهذه الطريقة. وإذا أضاف الكوفيون، بسبب تفوق أصحاب الحسين (فرسان المصر) في المبارزة، الرمي بالحجارة والرشق بالسهام والهجوم بعدد معقول، فهذا لم يخرج الحادثة عن شكل (البراز) وصفة (المعدمة). [من كتابنا: شعر الثورات العلوية في العصرين: الأموي والعباسي]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1596 السبت 04 /12 /2010)

 

 

في المثقف اليوم