قضايا وآراء

الضرورة الشعرية / قصي الشيخ عسكر

 للأخ الأديب فائق الربيعي وقتها كان يصعب علي التركيز مالم آخذ قسطا من الراحة ففي غد عطلتي وأستطيع الكتابة براحتي وما أن صحوت حتى رن الهاتف وإذا بمديرة العمل في الدائرة تقول لي إن سقوط الثلج المبكر في بريطانيا حال دون وصول بعض العاملين الذين تبعد منازل بعضهم أكثر من عشرة أميال ورجتني أن اقدم لأن محل سكني يقع ضمن دائرة الشغل التي أعمل فيها.

أقول هذا لاعتذر للصديق العزيز والأخ الفاضل الأديب الكبير يحيى السماوي علني أجد في نقاء الثلج الذي مازال يهطل إلى الآن مايضاهي نقاء قلب صديقنا العزيز السماوي وسعة صدر صديقنا الغالي فائق الربيعي.

 

المقال:

عرفت الأخ الأستاذ فائق الربيعي في دمشق مطلع ثمانينيات القرن الماضي أي هي معرفة قديمة امتدت أكثر من ثلاثة عقود وهو شاب مثقف متدين سياسي دمث الاخلاق سريع البديهية، وافترقنا ثم التقينا ثانية في كوبنهاغن ومالمو في المحافل الأدبية والمساجد والحسينيات وفي بيته وأظن في عام 1985 قرأ لي الأخ فائق بعضا من شعره ربما في محطة القطار أو في العبارة التي تمخر عباب المضيق بين مالمو وكوبنهاغن فقلت له إن الشعر العمودي أقرب إليك من الحر فإذا اردت نصحيتي فاستمر بكتابة العمود عندها أضفت موهبة الشعر إلى الأخ فائق إضافة إلى الصفات الحميدة الأخرى التي ينماز به، ومرة ودعت فائقا في محطة القطار بعدها بدقائق التقيت الشاعر الشعبي رياض  النعماني وهو من اهل الكوت من مدينة فائق فذكرت أني كنت في وداع فائق فأخبرني أنها لخسارة كبيرة أن يأتي فائق إلى كوبنهاغن  ولا أراه فهذا رجل رائع مثقف سياسي، الشيء الجميل في هذا الكلام إن النعماني شيوعي وفائق من حزب الدعوة ورياض يقول عنه لو كان السياسيون مثل هذا الرجل في قبول بعضهم بعضا لما حدث للعراق مايجري الآن.في الوقت نفسه قلت لرياض إن فائقا قرأ علي بعضا من شعره فنصحته أن يكتب في العمود فقال نعم وهذا ما اقترحته عليه فنفسه نفس عمودي. "أشير هنا إلى أني حين زرت عائلة المرحوم الدكتور مصطفى جمال الدين لأكتب عنه لأحد المعاجم وجدت أنه حاول أن يكتب قصيدة من الشعر الحر لكنه لم يكملها فنفسه نفس عمودي واعتقد أن أهل المرحوم جمال الدين مازالوا يحتفظون بأوراقه كلها ومن ضمنها قصيدته تلك"

لذلك يأخذني العجب والدهشة حين يصل إلى بريدي الألكتروني رفض صديقي الشاعر فائق الرأي الآخر وهو المتدين والسياسي المعروف الذي يقبل الآخر ولا يرفض أية من الطروحات التي قد تخالف رأيه وفكره الذي ينتمي إليه.

 

الضرورة والفقه والشعر:

الضرورة مشتقة من المصدر ضر وفق رأي البصريين أو الفعل ضرر ومنه الضرعند الكوفيين، والاصل في الشيء القاعدة العامة أما الخروج عنها فهو الشذوذ ولايتأتى إلا لسبب. أكل لحم الإنسان حرام لكن قد يضطر الإنسان إلى ذلك، وشرب الدم حرام فمنعه هو القاعدة إلا لسبب أو ضرورة. إن كل علم وفن له قواعد خاصة الخروج عنها يسمى شذوذا ومن تلك الفنون فن الشعر الذي اختصت به اسس وقواعد معينة سمي الخروج عليها ضرورة وتعددت الضرورات فمنها ما هو إقواء ومنها ماهو منع المصروف أو صرف الممنوع... لكن يجب علينا أن ندرك لـِمَ تحدث الضرورات ومتى نلتزم بها.

تنقسم الضرورات الشعرية إلى قسمين قسم ضرورات قبيحة وضرورات محببة أو جميلة. الضرورات الجميلة مثل ألف الإطلاق وفق مانراه في البيت التالي:

بان الخليط ولو طوعت مابانا  وقطعوا من حبال الوصل أقرانا

ومن الضرورات المحببة القول المنسوب إلى الإمام علي عليه السلام

اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكا

فكلمة اشدد زائدة وأصل البيت حيازيمك للموت ....وقد يزاد حرف على البيت كالقول التالي:

فكأني غداة البين يوم تحملوا  لدى سمرات الحي...

وهذا يسمى التخزيم ومنه الخزامة التي تعلق في الأنف فكأننا وضعنا مثل الخزامة قبل البيت زيادة عليه مثلما تفعل المرأة التي تعلق في أنفها خزامة للجمال.

أما الضرورات القبيحة فيمثلها البيت التالي

زعم البوارح أن رحلتنا غدا وبذاك خبرنا الغراب الأسودِ

فجاءت كلمة الأسود مكسورة لتناسب قافية القصيدة المكسورة ويقال إن النابغة صححه بعد أن تنبه للخطأ فأصبح وفق الشكل التالي:

وبذاك تنعاب الغراب الاسود

بعد هذا نقول متى وكيف تاتي الضرورات؟ والجواب هو إن الضرورة إذا وقعت فيجب أن تقع مرة واحدة وإلا فقدت القصيدة قيمتها هذا من ناحية من ناحية أخرى إن الضرورة بكونها شذوذا فقد لجا إليها الشاعر وغيره زمن نضج اللغة أو مانطلق عليه فترة النضج القومي للغة، ولغتنا العربية نضجت قوميا في الفترة الواقعة بين عصر الملكة الزباء ونهاية العصر الأموي فتم في هذه الفترة الاشتقاق وسد مثل عبشمي من عبد شمس وعبدري من عبد الدار وفي فترة النضج اللغوي هذه وضعت قوانين الصرف والنحو رفع الفاعل والمفعول والممنوع من الصرف، وعمل كان وإن، فالأصل أن نقول:

إن يدي الفتاة جميلتان

فإذا جاء شخص وقال:

ياليت عيناها لنا وفاها

أصبح قوله شذوذا لايعتد به فلا يحق لنا نحن، واقصد بكلمة نحن الشعوب الناطقة بالعربية منذ مابعد العهد الأموي إلى ماشاء الله بل يحق لنا أن نقيس على القاعدة مثل رفع الفاعل ونصب المفعول ولايحق لنا أن نقيس على ماورد لنا من اخطاء خرجت على القواعد العامة التي وضعت أساسا زمن نضج اللغة القومي، فالاساس هو القاعدة وليس الشذوذ،إن القاعدة العامة أن يخلق الله تعالى للإنسان عينين سليمتين فإذا ولد مولود أحول أو بعين واحدة فلايحق لنا أن نقيس على ذلك." يستثنى طبعا الشاعر المتنبي واستثناؤه لم يأت من كونه لجأ للضرورة أو جاء باشتقاق جديد بل كونه فصيح اللسان فقد وضح النحاة واللغويون قواعد صارمة منها أن يتمثلوا بشواهد العصر الجاهلي والأموي فقط فلايستشهدوا باي شاعر عباسي ماعدا المتنبي وحده لفصاحته"ومرحلة النضج القومي التي نلتزم بقواعدها ونترك للأوال فيها الخروج عن القواعد لابد منها لأي لغة فمثلا كلمة اليوم في اللغة الإنكليزية كانت في البداية مشتقة من كلمتين هما

To

التي تعني أيضاوكلمة

d?g

وكان القدامى الإنكليز يكتبونها مفصولة بخط:

To-d?g

ثم أصبحت تكتب بهذا الشكل منذ قرون:

Today

فلو أن شخصا كتبها وفق الصيغة الأولى لأثار عمله غضب الإنكليز بعدِّ ذلك تجاوزا على القواعد العامة التي وصلت إليهم ضمن زمن النضج القومي لغتهم الإنكليزية، وفي اللغة الدنماركية كان القدامى الدنماركيون يكتبون كلمة سنة بهذا الشكل:

aar

ثم غيروا طريقة الكتابة إلى الشكل التالي:

?r

وأذكر أني عندما كنت في مركز اللغة أدرس الدنماركية وعرفت ذلك كتبت كلمة سنة في درس الإملاء بصيغة:

aar

فحصلت على علامة غلط من قبل معلمة اللغة التي قالت إن اسلافها وضعوا الصيغة الأولى ثم الغوها وكتبوا الصيغة الثانية فالصيغة الأولى تعد شاذة والأخ الشاعر فائق الربيعي درس اللغة السويدية في المدرسة العالية بمالمو ويدرك مغزى هذا الكلام جيدا بحكم اطلاعه على اللغة السويدية التي هي من نفس العائلة اللغوية الاسكندنافية التي تضم السويدية والنرويجية والدنماركية ولولا اعتزاز كل شعب من هذه الشعوب الثلاثة بقواعد مرحلة النضوج القومي لكل لغة لا بما هو غير قياسي لاتفقوا على صيغة واحدة توحد اللغات الثلاث في منهج واحد.

قضية الممنوع من الصرف:

الكلمة إذا منعت من الصرف رفعت بالضمة بدل التنوين ونصبت وجرت بالفتحة وسبب المنع من الصرف اجتماع علتين في تلك الكلمة والعلل المانعة من الصرف تسع يلخصها قول الشاعر:

اجمع وزن عادلا أنث بمعرفة  ركب وزد عجمة فالوصف قد كملا

فكلمة بغداد تمنع من الصرف لأن فيها العجمة + العلمية ، وكلمة حضرموت منعت من الصرف لأن جمعت العلمية + التركيب أصلها حضر+ موت، كذلك كلمة جبرائيل فهي علم معروف اختص بذلك الملاك عليه السلام وهي كلمة غير عربية ولايهمنا إن كانت مركبة في اللغة العبرية من جبرا = ملاك + إيل= الله وكلمة إسماعيل وهي مركبة من إسما= سمع + إيل لأن الذي يعنينا هو اللغة العربية وقواعدها فجبرائيل تجر بالفتحة بدل الكسرة لكونها اسم علم وأعجمية في الوقت نفسه وليس في البيت خطأ.

ملاحظة: هناك علة واحدة تكفي عن علتين ليصبح الاسم ممنوعا من الصرف هي صيغة الجمع مفاعل أو مفاعيل:عندي مفاتيح بالضم لا التنوين، واشتريت مفاتح أو مفاتيح وأعجبت بمفاتيحَ ومفاتحَ وصيغة مفاعل إو مفاعيل أرجو ألا تختلط في ذهن القاريء بصيغ منتهى الجموع التي سأدونها للاستفادة فقط فهي كلها مصروفة:

في السفن الشهب البغاة صور  مرضى القلوب والبحار عبر

غلمانهم للأشقياء حمله   قطاع قضبان لأجل الفيله

والعقلاء شرد ومنتهى  جموعهم في السبع والعشر انتهى

الخاتمة:

وفق ماسبق أقول لو كنت مكان الأخ الأستاذ فائق الربيعي لقمت بحذف الأبيات الأربعة أو الخمسة تلك التي أثارت الإشكال حول قصيدته. إن حذف أبيات قليلة من قصيدة طويلة لايؤثر فيها، وأظنه وهو الذي عرف بتواضعه وقبوله الرأي الآخر أن يحذف في المستقبل أي بيت يراه يستند إلى استثناء ورد إلينا عن الماضين، فإذا اقترف النابغة الذبياني خطأ وجر المرفوع بدلا من رفعه فليس بالضروررة أن استند إلى قوله أنا الشاعر الذي عشت بعده بألفي عام فما اقترفه القدامى من أخطاء وخروج عن القواعد يعد من باب النقص والعجز الذي يجب علينا أن نتجنبه لا أن نقتدي به.

 

قصي الشيخ عسكر

 

....................................

للاطلاع علي قصيدة لشاعر فائق الربيعي وما صاحبتها من تعليقات

http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=40662:2010-11-28-02-09-08&catid=35:2009-05-21-01-46-04&Itemid=55

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1596 السبت 04 /12 /2010)

 

 

في المثقف اليوم