قضايا وآراء

الأزمات الإقتصادية العالمية (3) / احمد ابو قدوم

من تسبب بها وهو يتعلق بالخلط بين النظام الإقتصادي والعلم الإقتصادي.

فأغلب بل كل الذين يتصدون لمعالجة الأزمات الإقتصادية في الأنظمة القائمة حاليا في العالم يمزجون بين العلم الإقتصادي والنظام الإقتصادي، مع أن العلم الإقتصادي يهتم بزيادة الإنتاج وتحسينه، والنظام الإقتصادي يتعلق بأسباب التملك وحيازة المال وتوزيع الثروة، وينبثق عن وجهة النظر في الحياة أي عن العقيدة، وهو يختلف من مبدأ إلى مبدأ، لذلك تجد أن المبدأ الإشتراكي -الذي اصبح أثرا بعد عين- ينقض النظام الإقتصادي الرأسمالي، ويتجلى ذلك في كتاب رأس المال لكارل ماركس 1818-1883 الأب الروحي للنظرية الشيوعية في القرن التاسع عشر الميلادي، وكذلك المبدأ الرأسمالي يرفض النظام الإقتصادي الإشتراكي الذي يلغي الملكية الخاصة إلغاء كليا أو جزئيا ويحقق نوع من المساواة الفعلية ويعتبر توزيع الإنتاج من خلال المجموع، ولكون المبدأ الإسلامي مغيب عن الساحة لعدم وجود دولة تطبقه وتحمله، فلا أحد من الذين يتصدون لمعالجة الأزمات الإقتصادية في الأنظمة القائمة في العالم اليوم يتطرق للنظام الإقتصادي الإسلامي.

والفرق بين نظام ونظام واضح حتى في الأحكام أو القوانين الجزئية، فالربا الموجود في النظام الإقتصادي الحر غير موجود في النظام الإقتصادي الإسلامي، وشركات الأموال "المساهمة" الموجودة فيه غير موجودة في الإقتصاد الإسلامي أو الإشتراكي، والملكية العامة الموجودة في النظام الإقتصادي الإسلامي غير موجودة في النظام الرأسمالي، وكذلك فإن النظام الإقتصادي الاشتراكي يحدد الملكية الخاصة بالكم لا بالكيف، والرأسمالي لا يحددها لا بالكم ولا بالكيف (حرية التملك)، بينما النظام الإقتصادي في الإسلام يحددها بالكيف لا بالكم، وكذلك الزكاة في الإسلام غير موجودة عند الرأسمالي أو الإشتراكي، والخصصة الموجودة عند الرأسماليين يوجد عكسها عند الإشتراكيين وهو التأميم، في حين أن الإسلام يحرم الإعتداء على الملكية الخاصة باسم التأميم، ولا يجيز أيضا تحويل الملكية العامة إلى ملكية خاصة باسم الخصخصة، وكثير غير هذه الأحكام، والذي يجدر الإشارة له هنا أن تشابه هذا النظام مع ذاك في بعض الجزئيات لا يعني التطابق أو أن هذا النظام هو جزء من ذاك كما حاول البعض تصوير أن الإشتراكية من الإسلام او مطابقة له.

أما العلم الإقتصادي فهو عالمي لا يختص بأمة دون أمة، فإنتاج وتحسين إنتاج القمح أو الحليب أو البيض او تهجين الأغنام والأبقار لتصبح أكثر انتاجا للحليب واللحوم، أو تصنيع السفينة أو القطار او الطائرة أو الدبابة هو علم يؤخذ من دون قيد او شرط  وتشترك فيه جميع الأمم وهو عالمي، وإن كان له علاقة بوجهة النظر الخاصة اي بالعقيدة فإنه يُلحق بالنظام كصناعة الخمور وبناء النوادي الليلية وغيرها، كما وتتسابق الأمم بمعرفة أسرار أي علم أوصناعة قديمة أوحديثة، لامتلاكها بغض النظر عمن إكتشفها أو صنعها، وهذا مشاهد محسوس لكل إنسان، فصناعة وركوب الطائرة يشترك فيه المسلم والرأسمالي والإشتراكي والهندوسي واليهودي والمسيحي وغيرهم، فلا إعتبار للعقيدة أو وجهة نظر الإنسان بها. والملاحظ أن كثيرا من المنظرين أو المضبوعين بالنظام الرأسمالي والذين تسببوا بالكوارث الإقتصادية لشعوبهم عن قصد أو بدون قصد، يقولون عن أنفسهم أنهم علماء إقتصاد وأن هذا العلم بحاجة إلى علماء وليس إلى مفكرين، وهم يقصدون بالعلماء هنا الأساتذة في العلم الإقتصادي، وليس المفكرون والمجتهدون، ويعرفون العلم الإقتصادي بأنه: "العلم الذي يبحث في الاستخدامات المتعددة للموارد الاقتصادية لإنتاج السلع والخدمات وتوزيعها للاستهلاك في الحاضر والمستقبل بين أفراد المجتمع"، فهم يخلطون بين العلم المتعلق بالإنتاج والنظام المتعلق بالتوزيع، مع أن موضوع المشكلة الإقتصادية هو توزيع الإنتاج وليس زيادته، والأزمات تنتج من سوء التوزيع وإدارته وليس عن الندرة النسبية للسلع والخدمات كما يقول الرأسماليون، والذي يعالج الخلل في التوزيع هو النظام وليس العلم، وفهم النظام وحسن تطبيقه هو من اختصاص السياسيين المفكرين والمجتهدين وليس من اختصاص العالم في شؤون المحاسبة، فاختصاصهم في المحاسبة أو في القواعد التجارية أو في الطرق الإنتاجية المتعلقة بكثافة العمالة او رأس المال او التكنولوجيا وما شاكلها لا يؤهلهم في الحديث عن علاج الأزمة الإقتصادية، فالمفكرون والسياسيون إذا كانوا ينطلقون من وجهة نظر معينة في الحياة، هم الذين يعالجون مشاكل شعوبهم وبلدانهم، إذا كانوا في مركز القيادة لدولهم، فالأزمة الإقتصادية في الأساس هي مشكلة سياسية، ناتجة عن خلل أو خطأ في النظام المطبق، وليست ناتجة عن الخطأ في مسك الدفاتر التجارية والمحاسبية، فعندما يكون الحاكم الذي يملك القرار السياسي مخلصا، ويطبق نظاما معينا يملك الحل، فإنه يطبق هذا النظام ويحل المشكلة، وأذكر قصة عن بن جوريون أول رئيس وزراء لدولة العدو الاسرائيلي عندما طلب من العلماء والمهندسين الزراعيين استصلاح صحراء النقب فأجابوه بتقرير بعد شهر بأنه لا يمكن استصلاحها، فمزق التقرير في وجوههم وقال أنا قلت استصلحوها: كيف؟ هذا عملكم، ولم أطلب منكم تقريرا عن امكانية استصلاحها او عدمه، وفعلا خلال فترة بسيطة تحولت هذه الصحراء إلى جنات، فكان شريان مشروع «نقب النمو» الذى موله صندوق بناء إسرائيل «كاكال» مع وزارة الزراعة الإسرائيلية والوكالة الصهيونية، وانصب على تنمية القطاع القروى فى النقب بإقامة مزارع متفرقة تستهدف الإنتاج الزراعى والسياحى، فاشتمل مشروع «نمو النقب» الإسرائيلى على حقول الدفيئات لإنتاج الخضروات والفواكه الأرضية كالطماطم والفراولة والبطاطا مع منح كل وحدة زراعية مخزن تبريد ومعمل تغليف لتسويق منتجاتها، كما اهتموا بزراعة الحمضيات على مياه الصرف المعالجة، وكانت هناك برك مياه فى وادى ومرتفعات النقب لتربية الأسماك، مع أغراس زيتون مروية بالمياه المالحة ومراعٍ وغرف ضيافة لاستقبال السائحين!، وكذلك لينين -اول زعيم لروسيا الشيوعية- عندما طلب منه المزارعون أن يستورد لهم تراكتورات زراعية، قال لهم لن نستوردها حتى ننتجها نحن، اعملوا بأظافركم وأيديكم إلى أن ننتجها ونوفرها لكم!، وقد طبق النظام الإقتصادي في الإسلام أكثر من عشرة قرون لم تحدث خلال تطبيقه أي أزمة داخلية أو أزمات عالمية، فعندما كانت تواجه المسلمين مشكلة متعلقة بقلة الإنتاج فإنهم يحلونها من خلال السياسة الإقتصادية أو العلم الإقتصادي، كما حصل مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عام المجاعة او الرمادة، فإنه بعث للمناطق التابعة له من مثل العراق والشام ومصر، يطلب فيها إغاثة اهل الحجاز، فكانت الإستجابة على وجه السرعة، حتى أن عمرو بن العاص قال ردا على رسالة أمير المؤمنين: أبشر يا أمير المؤمنين، سوف أبعث لك قافلة أولها عندك وآخرها عندي، ففي هذه القصة نستنتج أن عمر بن الخطاب أحسن تطبيق الإسلام في هذه الجزئية، فكان الحل الذي وضعه الإسلام حلا جذريا أصليا من صلب الإسلام، وليس ترقيعيا أو مؤقتا، وعمر لم يكن عالم اقتصاد بل كان حاكما سياسيا يطبق نظاما خاصا منبثقا عن عقيدة خاصة، ولا يقال أن الحياة الإقتصادية كانت سهلة وغير معقدة في ذلك الوقت، لا يقال ذلك لأن الناس والبلاد قبل الإسلام وفي البلاد التي لم يدخلها الإسلام ظلت تعاني من المشاكل الإقتصادية كما كانت اوروبا في العصور الوسطى إذ كانت تسمى عندهم عصور الظلام نتيجة ظلم الحكام والكنيسة لهم، وكذلك بعد زوال الحكم الإسلامي الآن، وهذه الأمثلة عن القادة الثلاث المختلفين في عقائدهم وأفكارهم وغير هذه الأمثلة كثير ترينا أن التقدم في الناحية العلمية هو مرهون بامتلاك الحاكم لقراره السياسي فقط، والذي يمنع المسلمين اليوم من امتلاك الصناعات هو من يملك القرار السياسي في البلاد وليس العلماء، فالتأخر العلمي هو مسؤولية الحكام في الدرجة الأولى والأخيرة وليست مسؤولية العالم الذي لايملك قرار انشاء مصنع للدبابات او للطائرات أو مفاعل نووي، وأما معالجة الأزمة أو المشكلة الإقتصادية المتمثلة في توزيع الإنتاج فإنها متعلقة بالتشريع وليس بالعلم، وها نحن المسلمين بخاصة والعالم بعامة أصبحنا نعاني من الأزمات المتتالية نتيجة الأخذ بالنظام الرأسمالي وعدم تطبيق الإسلام، ومع وجود دول متقدمة صناعيا وعلميا كأمريكا إلا أن الأزمة الإقتصادية الحالية أول ما بدأت بها لأن المشكلة في النظام المطبق وليس في الإنتاج.

وكما أن هناك فرق بين علم الطب والتشريعات الطبية وبين علم الهندسة والتشريعات الهندسية، فكذلك هناك فرق بين علم الإقتصاد والنظام الإقتصادي، فالطب والهندسة وما شابهها من علوم تؤخذ في الكليات العلمية وتؤخذ نتيجة لإخضاع المادة للتجربة ومن ثم الملاحظة والإستنتاج، ويتخرج منها الأطباء والمهندسون والمحاسبون وغيرهم، لكن التشريعات المتعلقة بهذه العلوم لاتخضع للتجربة بل تؤخذ من وجهة النظر في الحياة، فحكم الإجهاض وحمل الأنابيب من غير الزوج والتبرع بالأعضاء التي تتوقف عليها الحياة قبل الموت وبعده، هي تشريعات تتبع وجهة النظر في الحياة، لكن الطبيب يتعلم الإجهاض ويتعلم طريقة الحمل بالأنابيب ويتعلم زراعة الأعضاء، فهو يقوم بها في الحالات التي يسمح له المشرع بذلك، فقد يمنعها المشرع في بلد ويسمح بها المشرع في بلد آخر، حسب دين وعقيدة كل بلد، فهناك فرق بين إجراء عملية الولادة وبين سبب الحمل، فإجراء عملية الولادة علم يقوم به أيا كان بغض النظر عن عقيدته، ولكن سبب الحمل يجب أن يكون مشروعا حسب وجهة النظر الخاصة للإنسان، وهي تشبه الفرق بين خاصية المادة او السكين وبين استعمالها، فصناعة السكين بشكل جيد هو من باب العلم، لكن المجال الذي تستخدم فيه، يتعلق بالتشريعات أي بالنظام، فيجوز عند البعض أن تذبح فيها شاة ولا يجوز عند آخرين، ولايجوز أن تقطع فيها لحم الخنزير عند قوم ويجوز عند آخرين، وهذا ينطبق على صناعة الأسلحة وصناعة أسلحة الدمار الشامل، فإنه يجب تصنيعها وامتلاكها في الإسلام لإرهاب العدو ولكن لا يجوز استخدامها عشوائيا بدون ضوابط، اي أن النظام لايجوز أخذه إلا من المبدأ أو الدين الذي يتبناه الإنسان، والنظام الإقتصادي الرأسمالي، هو نظام كفر يحرم على المسلمين أخذه أو تطبيقه أو الدعوة إليه تحت أية ذريعة كانت، أما العلم الإقتصادي الذي يتعلق بتحسين الإنتاج وزيادته، فيجوز بل يجب أخذه من أي كان، ولا أريد أن أطيل في تفصيل الفرق بين العلم والنظام كي لا نشتت ذهن القارئ في مسائل أخرى وهي مفصلة في كتب حزب التحرير.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1599 الثلاثاء 07 /12 /2010)

 

 

في المثقف اليوم