قضايا وآراء

تأملات رماد وجائزة الشاعرة نازك الملائكة / قصي الشيخ عسكر

بهذه المناسبة أبارك للشاعرة السيدة خالدة خليل وأسال الله تعالى أن يجعل أيامها خالدة بالسعادة دائما وعامرة بالافراح.

  في الوقت نفسه  اود أن أشير إلى مسألة مهمة هي أني منذ غادرت العراق نهاية سبعينيات القرن الماضي كان لي موقف معروف من المؤسسات الثقافية العراقية قبل سقوط النظام السابق وبعد السقوط، فزمن النظام السابق تولى مسؤولية الثقافة في العراق سفاحون وقتلة ومجرمون منهم على سبيل المثال عبد الأمير معلة قاتل الشاعر المبدع الكبير عبد الأمير الحصيري أما الآن فيتولى المسؤولية الثقافية افراد معظمهم سراق ولصوص ومرتزقة تفننوا في سرقة العراق أيام الحصار والكويت زمن الاحتلال وتلونوا بألف وجه وشكل ومزاج.

ربما يتسم موقفي هذا بالحدية إلى درجة أني حين دعيت إلىلندن من قبل المركز الثقافي العراقي لإلقاء قصيدة وقدم لي مدير المركز الصديق العزيز الدكتور فلاح الحلفي بطاقة للمبيت في الفندق الذي سكن فيه السيد وزير الثقافة نفسه وكانت غرفتي لاتبعد كثيرا عن غرفته إلا انني تركت كل ذلك وذهبت للمبيت عند أحد الاصدقاء لا لشيء إلا أنني غير مقتنع اساسا بما يحدث للثقافة في العراق من أمور أنا بعيد كل البعد عنها.

  غير أني لابد من أن أشير إلى أن اللجنة المسؤولة عن منح الجائزة للشواعر العراقيات قد تصرفت تصرفا رائعا بمنحها الشاعرة خالدة خليل جائزتها هذا العام وهي خطوة صحيحة يجب أن تعقبها خطوات فأنا شخصيا لاأعرف الشاعرة خالدة ولاتربطني بها أية علاقة قرابة سوى أني قرأت لها بعض التجارب فأعجبني معظم نتاجها ويبدو أنها شاعرة مترفعة لاتسلك مثل بقية الشعراء والشواعر طرقا ملتوية لتحقيق الشهرة ولاتنفق المال في سبيل دعاية ولا تطلب من ضعاف النفوس من النقاد  والأدباء والشعراء أن يكتبوا عنها ويقيموا أعمالها فقد يكون هناك أديب كبير لكنه ضعيف النفس يمكن أن يُشرى بالمال أو الإطراء، أذكِّر القاريء الكريم أني كنت  جالسا مرة في مكتب صديقي جامع بهلول صاحب دار الحصاد للنشر بدمشق الدار  التي نشرت إحدى رواياتي فطلب مني السيد بهلول أن أبقى في المكتب مدة فبقيت ساعتين كان خلالها يأتي نقاد وكتاب وأكاديميون معروفون يطلبون تلك  الرواية التي صدرت لي حديثا  فيطردهم السيد بهلول، ولايخفى على القاريء الكريم أن هؤلاء يكتبون في الصحف والمجلات الثقافية مقابل نسخة من الكتاب و مائة ليرة عندئذ يجد الكاتب نفسه وكتابه  في معظم صحف البلد، ومثلما تضعف الحاجة للمادة نفس المثقف والصحفي والأكاديمي يفعل الموقف السياسي المتعصب فعله في موت القلب وانحيازه فقد التقيت مرة صديقي الناقد العراقي والأديب الدكتور زهير شليبه فوجدته مستاء وعندما سألته عن سبب استيائه فتح لي ملفا فوجدت فيه مقالا عن الرواية العراقية يتضمن مقارنة بين أعمال الكاتب فؤاد التكرلي وأعمالي فقلت له الهذا السبب أنت منزعج هل ندمت على ذلك فقال أنظر هذه مجلة المدى عندما وجدوا أني قارنت بينك وبين كبار الروائيين العراقيين حذفوا اسمك من المقال فبدا كأنه ناقص فقلت له لاتهتم ياصديقي من حقهم أن يفعلوا ذلك فأنا لست شيوعيا أجلك الله ولست بعثيا والعياذ بالله![1]

أما ماحدث في العراق للثقافة والأدب خلال فترة الحصار فحدث ولاحرج أخبرني الدكتور الفاضل جعفر التميمي أستاذ اللغة العربية في جامعة سوس  أثناء لقاء عابر جمعنا في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية أن الطلبة ميسوري الحال كان  كل واحد منهم يحمل بعض كيلوات من الطاطم والبطاطا واللحم وغير ذلك من المواد الضرورية لكل استاذ محتاج مقابل النجاح والطريقة ذاتها يتبعها الأدباء مع النقاد والأكاديميين غرض أن يكتبوا عنهم ويرفعوا من شأنهم!

  لذلك كله فقد سعدت كثيرا حين علمت بفوز الشاعرة خالدة سعيد بالجائزة الملائكية لأنها تستحق الفوز بعد أن تمعنت جيدا في قصيدتها التي جاءت إلي مرفقة  مع الرسائل فوجدتها قصيدة نثر جميلة صورها بديعة مترابطة فيها عمق يستلهم الرمز والإشارة. إن هناك علائق خفية لكنها وشيجة بين المشبه والمشبه به[2]. تقول في مطلع القصيدة:

أصابع فجر آخر

تنقر اللحظة النائمة على وسادتي

لرذاذ آخر

بلون الطيف

أوجل فيك نصف حكايتي

تشبه الشاعرة الفجر بإنسان يدق باصابعه التي توحي كلمة ينقر بكونها طيرا ثم لاتتحدث هي عن نفسها بل تتحول الشاعرة إلى لحظة واللحظة هي امرأة والفجر رجل ينقر باصابعه على مكان ما من هذا الجسد. إن الشاعرة تحدثت عن نفسها عبر جزء من الزمن" الفجر" و" اللحظة" واستبقت الزمن نفسه بحكاية لها مدلول نفسي وغيببي وتراثي عند شعوب الشرق كلها:

أوجل فيك نصف حكايتي

نصف الحكاية أشبه بمقدمة تأتينا من الخاتمة أو المنتصف للتتوازى مع نمو الفجر داخل اللحظة:

لاتعلقني على رصيف عينيك

الممتد حتى سدرة الشفق

ومنتهى الرماد

أيا ظل نبي

اقتحم غفلتي

بوهج فتوحاته المتكررة

أتنهب تاج عذرية الجلنار

وتستبيح ممالكي

نجد أن الشاعرة تتوغل في عالم صوفي شفاف يتجه نحو المثل الأعلى الفجر والرذاذ يستوحيان المثل الأعلى في حركة دائمة نحو المطلق" ولقد رآه نزلة أخرى،عند سدرة المنتهى،عندها جنة المأوى" [3] فالسدر  نفسه يدخل في عملية غسل موتانا إذ نحن مقيدون به منذ لحظة الموت إلى الغاية القصوى التي ننشدها بعد الموت والتي وقف عندها نبينا الأكرم محمد" ص"، هذا الموقف يعود بنا ثانية  لواقع حيوي نعيشه في الدنيا ويمثله هذه المرة الجلنار أو زهر الرمان pomgranate blossoms، قراءة مابين السطور وماهو كائن تحت السطح تشير إلى أن الفارس الذي وقف عند سدرة المنتهى هو الذي فض عذرية الرمان فإذا ما انتقلنا إلى الصين القديمة التي قال عندها سيد الخلق الذي وقف عند سدرة المنتهى " اطلب العلم ولو في الصين" نجد أن الرمان عند الصينيين يرمز لكثرة العدد والذرية بكثرة حباته فهو مبارك يدل على الحياة المديدة والسعادة والذرية[4]" واتخذه الرومان رمزا للخصب، وفي العهد القديم وضع الملك سليمان على أعمدة قصره" صفين من الرمان .. وكان على كل من التاجين القائمين على العمودين وفوق القمة المستديرة الشبيهة بالطاقة والتالية للشبكة مائتا رمانة"[5] أما نحن المسلمين الذين بدات حياة الخلود عندنا بالتعميد بالسدر فاذا بنا نعيش الرمان في حالين: حال الكثرة والتعددية والخصب " والزيتون والرمان متشابه وغير متشابه"[6]،ثم الخصب واللذة والعيش الكريم مع الصدق" فيهما فاكهة ونخل ورمان فبأي آلاء ربكما تكذبان"[7] فما هو في السماء يتحقق على الأرض وما كان على الأرض يمكن أن نراه في السماء بعد التعميد بالسدر، ونحن في حياتنا على الرغم من ذلك ننازع أنفسنا من خلال الرمز الذي يطغى في أحيان كثيرة فلا نستطيع إن نخفيه تقول الحكاية الشعبية التي وردت على ألسنة جداتنا : قاومت الأميرة "زهر الرمان" كل محاولات المكر والخداع من قوى الشر لهلاكها فانتصرت عليها[8]، ومن الرمان وعذرية زهره وتعلقه بالسدر المقدس تنقلنا الشاعرة خالدة خليل إلى لون آخر تتجسد فيه روح النبات:

أنسيت...

ضفائر القبل التي عقدتها من رقبتي

حتى خاصرة النارنج

فإذا ما سمعنا من البداية نصف الحكاية كما تقول الشاعرة فماذا يحدث . المرأة نصف المجتمع،والسؤال هو كيف نرسم امرأة من ثلاث شجرات هن الرمان والسدر والنارنج bitter orange زمن الخير في العراق كان النارنج يملأ حدائق بيوت البغداديين ويدخل في معظم أكلاتهم فهو رمز زينتهم وطعامهم، فما من أكلة إلا وارتبط بها قطف النارنج طازجا من حديقة البيت فهل جاءت خالدة لتقول لنا بطريقة غير مباشرة:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

إن الشاعرة امرأة مركبة من ثلاث كلمات سدر، ورمان ونارنج تلك هي المرأة العراقية التي تحمل القداسة والخصب والتراث والتقاليد، فإذا مانسي الرجل فإنها تذكره:

أنسيت...

واللبيب المتأمل يجد أن كلمة أنسيت الممزوجة باستفهام وفعل ماض  تحتل سطرا واحدا لاتشاركه فيه معها أية من الكلمات الأخرى. النسيان عميق وطويل وممتد بعمق الزمن حيث يستأثر بالامتداد الافقي وحده ولايسمح لغيره فيه أما الذي يسمع نصف الحكاية فهو مثل شخص عقيم يأكل نصف رمانة فيولد له نصف ولد أو نصف بنت!

هاهو تراثنا يكاد يذوب ويتلاشى بالنسيان فالنارنج يختفي من حدائق بغداد، فأين سدرة المنتهى عنا فما علينا إلا أن ننعم النظر في الجلنار لنجد أننا مازلنا أحياء.

بقيت هناك ملاحظة عابرة أود الإشارة إليها تتمثل في خطأ يسير غير متعمد لايقلل من قيمة القصيدة الفنية يجب علي أن اصححه . تقول:

وأنا التي اعتدت قلبك

قبلتي والمزارا

لاداعي لالف الإطلاق قط نحن نعرف أن الشعر الحر الذي يعتمد على التفعيلة وهو أقرب درجة إلى السلم الموسيقي العمودي  لايتحمل ألف الإطلاق  فوجودها فيه يضعف موسيقى القصيدة إذ كان بإمكان الشاعرة  إذا ارادت أن تراعي فسحة المد  أن تقول:

قبلتي ومزاري

أو وفق الشكل التالي :

وأنا التي اعتدت قلبك

مزاري وقبلتي

أو أية صيغة أخرى ماعدا ألف الإطلاق التي لاترد إلا في الشعر العمودي،فالجناس الناقص بين قلب وقِبلة وهو جناس رائع في هذا الموضع يتحقق أثره الروحي والصوفي وبعده الجمالي بالفصل بين المتجانسين بزحزحة القبلة مكانيا إلى مكان أبعد من أجل شيئين:

الأول :كشف الحجاب عبر المساحة المكانية وفق رؤيا "شدة القرب حجاب " فإذا مابتعد القلب عن القبلة الكعبة ازداد شوقا إليها.

الثاني: التخلص من ألف الإطلاق التي استاثرت شئنا أم ابينا بقصيدة العمود وحدها.

أو تقول:

قبلتي والمزار

على أية حال كان قرار لجنة التحكيم في منح جائزة نازك الملائكة للشاعرة خالدة خليل هذه المرة قرارا صائبا موفقا وهي خطوة صحيحة أرجو أن تتبعها خطوات أخرى تقربنا لما هو افضل وأحسن كما إني أقترح على اللجنة أن تخصص ثلاث جوائز تعنى بالشعر : جائزة للشواعر اللائي يكتبن الشعر العمودي فهناك في العراق الآن عندنا فراغ فيما يخص شواعر العمود والحر فآخر الكبيرات المبدعات  لميعة أطال الله في عمرها في حين هناك العديد من الشواعر  المختصات بالحر والعمود في البلاد العربية مثل دولة العباس من سورية وسعاد الصباح من الكويت وغيرهما وجائزة لشواعر الحر وأخرى لشواعر قصيدة النثر أو تخصيص جائزتين واحدة لشواعر العمود والحر معا  والأخرى لشواعر قصيدة النثر لأن قصيدة النثر لها خصوصيتها منذ نشوئها في القرن التاسع عشر في أوروبا وامريكا إلى الآن ولدينا في هذا المجال شواعر مجيدات مثل نوال الغانمي وخالدة خليل وغيرهما من شواعر قصيدة النثر المبدعات.

 

قصي الشيخ عسكر  

 ...............................

هوامش

[1] الأمثلة على ذلك كثيرة منها أن الناقد المعروف عدنان بن ذريل أخبرني ذات يوم أنه دفع بمقال  عن إحدى رواياتي للأسبوع الأدبي فادعوا أن المقال ضاع وما ذلك إلا بسبب كره المسؤول عن الجريدة لي شخصيا ومنها أن ناقدا أكاديميا مشهورا بكلاسيكيته وحبه الشعر العمودي وتعصبه له  كان يصرح في محاضراته الجامعية دائما أن لاشاعر قط بعد المتنبي وعندما وقع عقدا للعمل في إحدى جامعات الإمارات وهناك معظم الشعراء يكتبون الحر أصبح ينظَِر في الشعر الحر ويدعو له ومنها أيضا أحد الأكاديمين وهو ناقد عربي معروف درس في أسبانيا وتثقف بالثقافة الأوروبية  أصبح محكما في مسابقة شعرية تتبناها إحدى محطات الخليج فأخذ يوزع مقالاته النقدية على كل من هب ودب.

[2] كان شعرنا العربي في السابق يعتمد على الوضوح في العلاقة بين المشبه والمشبه به مثل :هي كالقمر القمر جميل وهي جميلة والقمر مدور ووجه المرأة مدور، أما الوشائج الخفية فمثل قول السياب:

وتفتحت كأزاهر الدفلى مصابيح الطريق

كعيون ميدوزا تحجر كل قلب بالضغينة

المصابيح في مدينة البغاء تجلب الزبائن إلى البغايا فهي تقود إلى الشر على الرغم من أن النور جميل وعيون ميدوزا شريرة تحجر من ينظر إليها وتلك هي الوشيجة الخفية بين المشبه والمشبه به.

[3] النجم الآيات 14-16

[4] فيليب سيرنج،الرمز الرمز في الفن الأديان  الحياة ص 317

[5] ملوك أول 7/16-21

[6] الأنعام 99، 141

[7] الرحمن / 68-69

[8] الحكايات الشعبية الشامية، نزار الأسود ن ص18

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1599 الثلاثاء 07 /12 /2010)

 

في المثقف اليوم