قضايا وآراء

موقفُ المثقَّف الدينيِّ من التراث

والتفكيك على مجمل العناصر والتفاصيل التي يتشكَّل منها، وليس هذا الموقف المتحرك في خطوتين باتجاه نقد التراث وتبنيه في الآن نفسه، موقفاً دعائياً يطلب المثقف الدينيُّ من خلاله اكتساب الثقة أو دفع توهم الإنخراط في الثقافات التي تدعو إلى القطيعة المعرفيَّة مع التراث، وتبنِّي مقولات الحداثة من خلال موقفٍ استلابيٍّ واضح، لكنه موقفٌ تحتمه الكينونة الثقافيَّة والفكريَّة التي تشكِّل شخصيته وتمنحها مبرر الوجود من الأساس.

آية ذلك أنه مدافعٌ عن الأسس والمرتكزات العقائديَّة الإسلاميَّة، ومنظرٌ مؤسسٌ للمشاريع الفكريَّة والفلسفيَّة التي تأخذ على عاتقها إغناء الفكر الإسلامي بمعطيات و ثمار الفكر الإنسانيِّ الفلسفيِّ والإجتماعيِّ والنفسيِّ واللسانيِّ لتتمكن من طرح المفاهيم الإسلاميَّة بصيغها المؤثرة في الثقافة الإنسانيَّة المعاصرة، ولن يتمكن من حيازة الإسلام كمرتكزٍ أساسيٍّ أوَّلٍ لكلِّ المشاريع التي يؤسسها أو يتبناها أو يدعو إليها إلا من خلال الإعتزاز بهذا التراث وتبنيه، لكنه لا يقبل لنفسه الشروع غير المشروط بهذا التبنِّي، بل إنه يتبنى التراث باشتراطاته التي تمليها عليه السمة النقديَّة بالآليات التحليليَّة والتشريحيَّة والتفكيكيَّة التي تمكن من حيازتها بفضل تقدم المعرفة الإنسانيَّة الحديثة، وأوَّل تلك الإشتراطات تتمثل في المبادرات والمغامرات النقديَّة الجريئة التي يحسن النهوض بأعبائها بالطرائق المنهجيَّة والعلميَّة التي أثبتت صلاحيتها في مضمار البحث داخل مختلف الحقول والإختصاصات التي لا يكون التراث بمنأىً عنها بطبيعة الحال، إن لم يكن هو المعني الأوَّل بها، وعلى التراث أن يكون واثقاً من نفسه جداً بحيث يتقبل هذه المغامرات المعرفيَّة النقديَّة المتنوعة، ويقف معها على أرضيَّةٍ ثابتةٍ للصراع والنزال، فكما أنَّ التراث ليس قوةً وكفاءةً كلُّه، فإنه ليس ضعفاً وخوراً وفقداناً لأهليَّة الإنتصار في معارك البقاء كلُّه.

إنَّ التراثات الإستثنائيَّة الزاخرة بالغنى والعطاء المعرفيِّ والإنساني، وفي مقدمتها التراث الإسلاميُّ بالطبع، لو أنها استعدت لخوض هذا النزال النقديِّ على الأسس العلميَّة والمنهجيَّة، فإنَّ الغلبة والإنتصار سيكونان إلى جانبه لا محالة في العديد من مفاصل وحيثيات هذا النزال.

غاية الأمر أنَّ هذا الإنتصار ستتقبله جميع الأطراف برحابة صدرٍ وأريحيَّةٍ كبيرة، وسيكون هذا التقبل وهذا الإرتياح بسبب قبول التراث خوض المغامرة النقديَّة بشجاعة الواثق من نفسه، ولن يخسر التراث الذي هو على هذا المستوى من الغنى والعطاء شيئاً عندما يتخلص في أثناء القيام بمغامرة النقد والتحليل والتفكيك من سلبياته التي كان هو نفسه الضحيَّة الأولى لها باعتبارها عوامل فناءٍ كانت كامنةً فيه، ومتذرعةً بالفكر الإسلامي البريء المعافى لتمارس بناء الموت بطيئاً بطيئاً في نفس هذا الكيان المعنويِّ الذي يبدو ظاهراً أنه معافى.

ليس من المستحسن أن تبقى ملفّات محاكمة التراث مغلقة، فلا أحدٌ مهما كان متحمِّساً للإسلام وللثقافة الإسلاميَّة يستطيع الثباتَ على موقفه إلى لنهاية فيما إذا كان يعتقد أنَّ هذا التراث العزيز على قلوبنا جميعاً خالٍٍ من عوامل الإنتكاس والإنقلاب على نفس الروح الإسلاميَّة البريئة في القرآن والسُّنَّة، فإذا وجد من يصرُّ على هذا الموقف فإنَّنا نناقشه على صعيد ما يلي:

أوَّلاً: إن كان هذا الموقف صحيحاً، فلماذا كلُّ هذا الإختلاف في القضايا العقائديَّة، فمع أنَّ الإختلاف شيءٌ إيجابيٌّ من زاوية امتلاك كلِّ شخصٍ الحقَّ في حريَّة التفكير، إلا أنَّ هذا الكلام ليس صحيحاً في المقام الذي نحن فيه، فلقد كانت تلك الإختلافات العقائديَّة سلميَّةً في أقلِّ القليل من تجلِّياتِها وتمظهراتِها، أما في  الأعمِّ الأغلب فإنَّها دمويَّةٌ قاتلة، وتسبَّبت في الكثير من المآزق والكوارث الإنسانيَّة كما هو واضحٌ لمن يستقرئ الحوادث في التأريخ الإسلامي،ووجه  الإستدلال هو التالي:

إنَّه لو كان التراث الإسلامي بريئاً كلُّه من النقص والإنحراف، فلماذا هذا التقاتل الأزليُّ بين أتباع المذاهب والآيديولوجيات الدينيَّة الإسلاميَّة في طول التأريخ وعرضه، بل إنَّ المؤلفات الإسلاميَّة التأسيسيَّة نفسها شاهدةٌ على عمق هذا الإنحراف، إذ تجد الجميع متَّهماً للجميع بأنهم يسنُّون سنناً خارج إطار ما ترتضيه الشريعةُ الإسلاميَّة الحقَّة، فيكون القدر المتيقَّن من اتهام الكلِّ للكلِّ هو وجود الإنحراف والزيغ عن الفهم الصحيح للإسلام عند الجميع، ولا عبرة في هذا المقام بالتفاوت النسبي الذي نشهد بصدقه في مقدار الإنحراف بين طائفةٍ وأخرى، كما هو واضحٌ للمتأمِّل.

ثانياً: إنَّ البداهةَ والوجدانَ شاهدان على أنَّ السلطات التي تعاقبت على حكم الكيان الإسلامي في مختلف العصور كان محتاجاً إلى  الآيديولوجيا الدينيَّة كمرتكزٍٍ لا بُدَّ منه لاكتساب الشرعيَّة في الحكم، وعلى هذا الأساس يكون من الطبيعي أن يحرِّف الحكام المضامين الإسلاميَّة عن وجهتها الصحيحة لصالح آيديولوجيا الحكم، إذ هي الهدف الأساسي الذي دفع هؤلاء الحكام باتجاه الدين، ولا غرابة من هذا السلوك، بل لا يمكن أن توجد آيديولوجيا دينيَّةٌ مهما كانت ناصعةً وبريئةً في نظر الحقِّ والواقع يتمُّ تبنِّيها على هذا الأساس  الآيديولوجي لإرساء دعائم أيِّ حكمٍ وتبقى بريئةً وناصعةً مع ذلك، فهذا الإعتقاد إن وجد فإنما يمثِّل سذاجةً لا مثيل لها في وجهة نظر المعتقد، فهذا الذي قررناه من البديهيات تقريباً سواءٌ، من وجهة نظر العلوم التأريخيَّة والإجتماعية الحديثة، أو من وجهة نظر السابقين الأوَّلين من مؤرِّخي الإسلام وعلمائه، ولا يماري في مثل هذه النتيجة إلا معاند.

ثالثاً: إنَّ العمل التقليديَّ للفقهاء المجتهدين يتطلَّبُ القيامَ ببعض الخطوات الإجرائيَّة التمهيديَّة بصفتها مقدِّماتٍ ضروريَّةً لعمليَّة الإستنباط والإجتهاد من الأدلَّة الشرعيَّة، ومن بينها بالطبع البحثُ عن وثاقة الرواة، ويوردون عليهم في هذا المقام العديد من الطعون التي تنمُّ عن أنَّ أحداثاً سياسيَّةً واجتماعيَّةً خطيرةً جرت في واقع التأريخ الإسلامي ساعدت على نموِّ هذه النزعات الإنفصاليَّة عن روح الشريعة الإسلاميَّة تحت لافتتها بالطبع، ولم يكن بمنجى من هذا الإتجاه  المنحرف الكثيرُ من الشخصيات العلميَّة التي ربَّما كانت في نظر البعض دون البعض الآخر ذاتَ سمةٍٍ تقديسيَّةٍ لا تقبل الجرح، فكم من هؤلاء العلماء من اختار لنفسه صفة الواعظ للسلاطين على حدِّ تعبير الدكتور علي الوردي، بل إنَّ مذاهبَ كثيرةً نشأت في التأريخ، وزعمت أنَّها تمثِّل الإسلام الحقَّ كان مؤسِّسوها أناساً محرِّفين كذّابين على هذه الصِّفة.

رابعاً: إنَّنا نلاحظ بوضوحٍ أنَّ الدراسات النقديَّة للتراث الإسلاميِّ تقع موقع الرضا من جماعةٍ إسلاميَّةٍ تقدِّس التراث، وتعتنق هذه النظرة التأليهيَّة باتجاهه، بل إنَّهم ليجعلونها مداراً لاقتباس الشواهد والأدلَّة في مؤلَّفاتهم لمجرَّد أنَّ نقد التراث أخذ مساراً آخرَ بعيداً عن المذهب الذي يعتقدون به، فأما إن كان النقد موجَّهاً قليلاً أو كثيراً  إلى تأريخ طائفته ومذهبه جنباً إلى جنبٍ مع النقد الموجَّه إلى تأريخ المذاهب الأخرى، فإنَّهم يتصرَّفون بمفارقةٍ مضحكةٍ، إذ يقتصرون على الإستفادة من النقد الموجَّه ضدَّ المذهب الآخر ليتمَّ توظيفه لصالح تعزيز موقف هذا المذهب، في حين يتمُّ التغاضي عن النتائج التي تمخَّض عنها النقد ما دامت موجَّهةً ضدَّه. 

إذن يوجد اعترافٌ ضمنيٌّ بقيمة النقد والتحليل والتفكيك عندما يكون كلُّ هذا موجَّهاً بطريقةٍٍ خاضعةٍٍ لمتطلَّبات الآيديولوجيا والإنتهازيَّة المذهبيَّة. فالإعتراض إذن ليس ضدَّ النقد والتفكيك بما هما نقدٌ وتفكيكٌ، بل الإعتراض حصراً على أن لا يقبل النقدُ المساومةَ والإنحياز إلى هذا المذهب ضدَّ المذهب الآخر، هذا كلُّ شيء.

يتَّضح من خلال هذه النقاط الأربعة الآنفة، أنَّ تشريح التراث ونقده بلا هوادةٍ هما ضرورتان ماسَّتان حتى من وجهة نظر المؤلِّهين للتراث الإسلاميِّ، بأمارة أنَّهم يقدمون على هذه العمليَّة، ولو كان الإقدام من خلال العدَّة المعرفيَّة التقليديَّة، من أجلِ النهوض بالأعباء الآيديولوجيَّة التي تفرضها ضرورات انحياز كلٍّ منهم إلى مذهبه ضدَّ المذهب الآخر.

 

[email protected]

النجف- الكوفة

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1135  الاثنين 10/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم