قضايا وآراء

الشام منبع الإلهام عند الرسامة الدمشقية "نهى الدباغ ".. اللوحة تتحدث والماء يغني والسعادة غائبة / زيد الحلي

وتأخذك الى ربوع لوحة من "قوس قزح" في تجوال لا يمكن نسيانه، فلها قدرة عجيبة لتسمعك خرير مياه الجداول والعيون من خلال لوحة تتغنى في طبيعة الشام، وهي طبيعة ثرة، غنية،  عميقة في جذرها التاريخي،، وتنتقل بك إلى فولكلور مدينة دمشق وعمرانها ورياستها وأبوابها القديمة في دقة مذهلة بفرشاة متمكنة في انسيابيتها وآلقها ...

وتذهلك عندما تتحدث " نهى الدباغ " بأنها زرعت بإرادتها بذرة في صخرة الحياة لتصنع من نفسها هذه الطاقة التي ابتدأت بتخرجها في كلية الإعلام بجامعة دمشق و حصلها ايضاً على شهادة جامعية أخرى في نفس الجامعة في علم النفس .. وهي تحدثك  عن الموضوع بشئ من الاعتداد بالنفس، فتقول ان اليتم كان الدافع الى بحثها  عن ذاتها .. فقد توفى الله والدها وهي بعمر 7 سنوات، وبذلك فقدت الحنان والرعاية، وكاد الزمن ان يكسر عودها الغض سيما أنها اتجهت في بواكير وعيها الى قراءات تشاؤمية من قبيل الكتب التي تتحدث عن الموت وفلسفته، لكنها تنبهت الى قوة الشخصية المتجذرة فيها، فانطلقت الى قراءات أكثر جدية ساهمت في لاحق السنين في تثبيت صيرورتها وكيانها. 

كانت بدايتها في كتابة القصة، فنشرت وهي بنت 12 عاماً قصة بعنوان

" الليل الحكيم " في صفحة تهتم بالأقلام الواعدة في جريدة " الثورة " السورية .. وعندما تخرجت في كلية الإعلام اختيرت باعتبارها من الخمسة الأوائل لتعمل في دائرة الإذاعة والتلفزيون السورية في عام 1994 لتصبح من المذيعات ومعدات البرامج المرموقات، لكنها لم تنسى حبها المتأصل فيها وهي عشقها للرسم ... هذا الميدان الذي يعيش معها وينام في خيالها نوم عاشق ولهان .. أليس فن التشكيل هو  احد أهم دعامات الإنسانية ورقيها ؟ ولكونها هي السائلة، فأجدها تجيب بشئ من الفرح بأن الفن التشكيلي هبة الخالق للإنسان ولولاه لضاع الجمال وضاعت صور الإنسانية التي خلدتها لوحات الأوائل من رسامي العالم ..

 2083-noha

الطبيعة .. هاجسها

ترسم " نهى الدباغ " ما يعن لها من أفكار .. ودائماً تجد الطبيعة مفتاح رسمها، المياه عندها رمز الحياة، وهي تتفن في رسمه حتر ليترآى لك  انه يسير بين ثناياك فتحس ببرودته وحرارته وقوة جريانه اوبطأ انسيابيته .. الماء لدى الرسامة الدباغ بذرة كل شئ .. وهي تهتم بالطبيعة المكانية بشكل كبير فترسمها وفق حالتها النفسية، والناقد الفني، يلحظ ذلك من خلال التعرجات والمسارات للموقع الواحد واختلافها في انطباعية " نهى الدباغ " وبذلك تؤسس لها منهجاً جديداً، تسجله بأسمها بثقة كبيرة .. ان الحزن الذي يطغي على رسومات ولوحات " الدباغ " يبدو واضحاً من لون التراب الذي تكحل به رسوماتها عن دمشق القديمة ..

وقد يبدو للمتابع لمشاركات نهى الدباغ في المعارض التشكيلية المشتركة انها بدأت متأخرة، وهي لا تنفي هذه الملاحظة وتعدها إحدى سماتها، فأنها تعترف بأنها مقلة في الرسم، وهي ترسم عندما تتوتر نفسيتها لترمي هذا التوتر في اللوحة وترسم عندما يداهمها الفرح ولحظات السعادة وهي قليلة، لتعبر في اللون والفضاء والخطوط عن تلك السعادة في لحظاتها الشاردة .. وفي هذا الصدد تقول " نهى " ان أجمل ما في لحظات السعادة هو الإمساك عن الكلام عنها وترك التعبير في ذلك لومضة العين وحرارة اليد ورسم الشعور بكل الأحاسيس والوجدان ..وهي ترى ان الفن التشكيلي مثل أي شئ راق، مركزه الضمير .. والضمير يرتكز على الحرية والمعرفة ليحقق في الوجود الخير والجمال، وكل من لايحمل هذه القيم لا يعتبر فنانا صادقا مهما كانت أدوات التعبير عنده راقية ..  ومن خلال ترحالي مع خيالي عرفت معنى ان أصبح هائمة في الفضاء، سائحة في المجهول، أطوف دون ان يعرف الآخرون في أماكن لم تطأها الإقدام ... بعد !!

والرسم، عند " نهى الدباغ " عملية موازية لخلق المثل او النموذج في الحياة من خلال الحياة التي تجسدها اللوحة .. وبينما المجتمع يلجأ الى الدين او الحروب لصنع المثل او النموذج،  تأتي اللوحة لتلعب دورها الكبير في صنع ذلك النموذج الإنساني ..

ان لوحات الدباغ، هي حركة تغيير الصمت واللامكتوب والساكن الى لغة وحروف وحركة واضحة ... وإنني ارى وانا اكتب عن هذه الإنسانة ذات الالق البديع، بأن ما بين العقل والقلب وبين المادة والذاكرة .. ليس شيئاً وافداً .. وبين الواقع والحلم ثمة وصل ليس بعيداً او طارئاً وكل ما يفصل بينهما، انما هو مشروع  الإبداع الممتزج بالخيال والحلم .. ولم أجد انساناً حالماً مثل نهى الدباغ .. هي مثل الجمرة المتوهجة، لا أحد يتنبه أن أسفلها معتم .. والحياة هكذا يومها متوهج، وأمسها معتم ... الماضي هو الظلام الوحيد الذي نسير فيه من غير ترفق او تحذير ..... ولوحات الدباغ اجدها حزمة ضوء في ذلك  .... الظلام !!

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1602 الجمعة 10 /12 /2010)

 

في المثقف اليوم