قضايا وآراء

الديموقراطية في كوردستان بين ثقافة المجتمع ودور النخبة / عماد علي

ومن ثم وصولنا الى ما نحن فيه من التحرر لاقليم كوردستان العراق، وما تخللت ما  بعد الانتفاضة الجماهيرية في اذار 1991، وما تلتها من التشنجات والحرب الداخلية، يتيقن اي شخص متابع بان العقلية التي تدير هذه المنطقة والافكار والايديولوجيات والمناهج التي سارت عليها لم تكن نابعة من النظرة الانسانية الى الامور، وتاثر الكورد بالثقافة والعرف والعادات والايديولوجيات والصراعات السائدة في المنطقة وبعضها دخيلة عليه، وعند دراستها بشكل علمي حينئذ يمكن تقييم المستوى العام للثقافة العامة للمجتمع والوعي العام في كوردستان، والتي هي المحرك الاساسي لنشر الديموقراطية ويمكن تشخيص العامل الهام لما الت اليه الاوضاع العامة في كوردستان .

 لو بدانا بالنخبة، فانها تعيش لحد اليوم في تردد ولم تفك القيد من معصميه والعصب عن اعينه ولازالت متاثرة بالترسبات والتراكمات السلبية للحقبات  السابقة، والسنين العجاف من حكم الدكتاتورية والصراع المسلح والافكار والايديولوجيا التي ادارت الحركة التحررية الكوردستانية، يمكن توضيح الاسباب لما لازال الخلط والاعتناق موجودا بين الثقافة والسياسة بحيث لم يدع ان نشير الى مثقف مستقل  بعيد عن التوجهات السياسية وان لم ينتمي الى الاحزاب والتيارات- الا نادرا- وان شاؤو ام ابو فانهم تحت رحمة السياسة وما تفرضه، وهي المهيمنة على فكر وتصرفات واخلاقيات  المثقف بشكل عام مع الاخذ بنظر الاعتبار التغيير النوعي هنا وهناك . الاسباب غير كامنة في كينونة المثقف بنفسه بقدر ما تفرضه الظروف الموضوعية المسيطرة على المنطقة فتنعكس عليه، والعوامل التي هي خارجة عن سيطرته وقدرته في منعها وهي التي تفرض التبعية عليه الى حد كبير، مع وجود محاولات لا باس بها للخروج من الانطواء والتقوقع الذي هو فيه، والعقبات كبيرة ولم تذل وليس بسهل ازاحتها في وقت قصير وفي هذه المرحلة فقط.

هناك من العوامل الضاغطة التي تمنع انعتاق المثقف من الاغلال الايديولوجية السياسية وفي مقدمتها الوضع المعيشي والظروف الخاصة به، وهو المثبط لحركته ومحاولاته في التحرر . من المعلوم ان التحرر الاقتصادي هو البداية المطلوبة لحرية العقل، والثقافة العامة تحتاج لصفاء العقل  والحرية، وهذا بدوره يؤثر بشكل مباشر على مستوى دمقرطة الفرد، ومن ثم ينعكس ايضا على المجتمع بشكل عام.

وهذا يعني، لو اكتسب اي فرد او مجتمع ثقافة عامة دون ان يوهبها اي احد اخر له لاغراض اخرى وفي ظل الحرية المنشودة من جميع النواحي فمن الممكن بناء ارضية مناسبة لانبثاق ديموقراطية حقيقية ونشر عقلية مناسبة لبناء مجتمع ديموقراطي.

 الثقافة المطلوبة والمستوى الوعي المناسب لترسيخ الديموقراطية لا تعني انخفاض مستوى الامية  او ارتفاع نسبة حاملي الشهاداة العليا او وجود اعمار وناطحات السحاب، فهنا تدخل العادات والتقاليد والاعراف والطقوس والالتزامات الدينية والمذهبية والعرقية بشكل حيوي في الامر، وهي التي تدفع الى تحديد شكل وكيفية ونوعية الصراعات الداخلية ومدى تفاعلها في المجتمع موازيا مع الايمان بالمباديء والقيم والنظرات المختلفة الى الحياة، ومن ثم كيفية التعامل مع التغيير والانتقال الى مرحلة اخرى، وهنا يمكن قياس ما يدفع المجتمع للتعامل مع الديموقراطية والعمل وفق متطلباتها. اما الديموقراطية النخبوية والتي يمكن ان تتغلغل في كيان المجتمع فانه جانب وصفحة اخرى وتكون اكثر دقة وبعيدا عن التقليد ومراعية للخصوصيات، وتبدا بتفهم المجتمع لجوهر الديموقراطية مع الاخذ بنظر الاعتبار احتمال الردات القوية ان كانت نسبة الامية عالية.الا ان هناك طريق لنجاح هذه العملية ان سارت تدريجيا، ولكن بشرط وجود المواد الاولية وعناصر ثقافية معينة وتوفر القيم التي تساعد على نجاح العملية على الرغم من انتشار الامية والفقر بشكل ما وكما هو حال الهند وباكستان. 

اي النخبة هي المحرك الاساس والمهيج والدافع الرئيسي لتغيير اوضاع المجتمع وهي التي يمكنها ان تؤثر على مضامين القيم السائدة فيه وتبني ما تتطلبه الثقافة العامة والديموقراطية بشكل عام.

من الممكن ان تنبثق العوامل المساعدة لتجسيد الديموقراطية بشكل استثنائي ولكن لن تكون مستقرة او متجسدة بشكل كامل كما هو حال اقليم كوردستان وما يجري فيه، فالالتزام بالديموقراطية المتزعزعة لحدما جاءت كرد فعل لنظام دكتاتوري وكانت نقلة نوعية الا انها غير مثبتة اوغير موثقة بشكل قوي بالدعائم والركائز المطلوبة الضرورية لها، ولم تتدرج خطواتها فاصابتها الانحرافات بعض الشيء ولم تدخل عمقا في عقلية وكيان المجتمع الكوردستاني بشكل مُرضي. على سبيل المثال لا الحصر، اننا لم نجد نقابة او منظمة مهنية او مدنية مستقلة نابعة من رحم المجتمع والديموقراطية السارية بل الجميع بلا استثناء تابعين للاحزاب وهم يحركونهم كيفما يشاؤون.

ان اشتراك الفرد في عملية الانتخابات كما هو المعلوم الطريقة والشكل وهو الذي يستند على الروابط الاجتماعية وعلاقات والمصالح الشخصية لا تعني اننا وصلنا الى ذروة الديموقراطية وربما هذه الخطوات الناقصة تعيق المسيرة الصحيحة للديموقراطية الحقيقية وتحرفها عن طريقها، لان المشاركة في التصويت لا تكفي لوحدها بل يجب ان يواكبها طرح الاراء والمواقف ووجهات النظر في ظل توفر شروط المواطنة وتقبل النقد وراي الاخر، وليس الاهتمام الاعلامي فقط.

اي الفرد او النخبة المثقفة بمعنى الكلمة  بشكل خاص يمكنها ان تساعد على ترسيخ القاعدة المدنية في المجتمع وتدفع المجتمع بما فيه من الصفات المطلوبة للتحرك والتفاعل مع الديموقراطية ونشر الثقافة المعنية، وكما تساعد ذلك المجتمع بما يمتلك من الخلفية الثقافية والقيم والمباديءعلى التلائم مع الاعراف الديموقراطية وضمان شروطها، ولربما تكون متوارثة وغطتها الاغبرة الاتية من افعال الدكتاتوريات والاحتلال، وهنا يمكن استهلال الخطوة الاولى لبناء الصرح الثقافي المدني لممارسة الديموقراطية.

ما يثير الخوف في كوردستان هو عدم نضوج العقلية المهتمة بدور النخبة وحصر مسيرة حياة المجتمع بالاحزاب والتيارات السياسية وانشغالهم بالصراعات السياسية، اضافة الى الاخطار الخارجية، لذلك ستبقى ما نتشدق بها من الديموقراطية الموجودة مهزوزة ان لم نردم الهوة ونسد الفجوة بين نتاجات المثقف والسياسي مع الحفاظ على استقلالية المثقف بعيدا عن تاثره بالاحزاب والايديولوجيات وما حولها، هذا ان لم تحاول الاحزاب تشويه دور المثقف من اجل نجاحهم في صراعاتهم، عندئذ تكون العلاقات طبيعية بين كافة الفئات، ويعمل كل طرف حسب اختصاصه دون تدخل في الشان الخاص للاخر، وهذا لا يعني ان لا يكون السياسي مثقفا او المثقف سياسيا (لا اعني حزبيا) من اجل ابتعاد التبعية وتاثيرات الصراعات السياسية الحزبية على المثقف. عندئذ يمكن ان نقول ان دور النخبة المثقفة ذات تاثير ايجابي ومباشر على المجتمع، وتسود اوضاع تدع المجتمع ان يهضم الديموقراطية ومتطلباتها في حياته العامة والخاصة.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1603 السبت 11 /12 /2010)

 

 

في المثقف اليوم