قضايا وآراء

الميلانـــــــــيـن: هـذا الــلـون الاســود / فخري مشكور

بينما فضل الرجل الاسود امرأة بيضاء لهذا المنصب.هل عرف باراك اوباما وهيلاري كلينتون أن الميلانين هو الذي فرّق بينهما قبل أن يفرّق بينهما شعار الحمار او الفيل؟

 

اللون الاسود الذي يصبغ الشعر والجلد وشبكية العين ناتج من مادة الميلانين والتي يحدد تركيزُها في خلايا الجلد. أن يكون الانسان ابيض كصهيب الرومي وعبد العزيز بوتفليقة، أم اسود كبلال الحبشي وعيدي امين، أم أسمر كسلمان الفارسي والكثير من كتّاب «الأسبوعية» ومعظم قرائها؟

يقوم الجسم بصناعة الميلانين من مادة أولية من الاحماض الامينية بمساعدة انزيم خاص في خلايا متخصصة في الجلد (وفي جذور الشعر وشبكية العين). تحدد الوراثة نشاط هذا الانزيم، ولذا يلد الاسود اسود والابيض ابيض. اما اذا اختلطت الاعراق فان قانون غلبة الاقوى (الذي يعمل في الغابة والسياسة) ينطبق أيضا على الجينات والوراثة.

بعض الناس ينقصهم الانزيم الذي يصنـّع الميلانين بسبب عجز وراثي جيني فتراهم بيض الوجوه، بيض الشعور، بسبب غياب الصبغة السوداء من خلايا الجلد والشعر. وهؤلاء ضعاف البصر أيضا لا يستطيعون رؤية صورة واضحة للاشياء بسبب غياب الميلانين، كما سنوضح بعد قليل، وضعف بصرهم هذا غير قابل للعلاج فلا تتعب نفسك معهم، فلن يروا ما ترى. 

 

حارس ضد الاشعة

يلعب الميلانين دورا كبيرا في حماية الجسم من خطر الاشعة فوق البنفسجية الموجودة في اشعة الشمس والتي تسبب -اذا هي ازدادت - اضرارا تتراوح بين الحروق السطحية في الجلد، السرطان، مرورا بتشويه الجنين اذا تعرضت الحامل لتلك الاشعة بدون حماية من الميلانين. لذا نجد ان الرحمة الالهية قد احاطت الكرة الارضية بغلاف من طبقة الاوزون الذي يحجب القسم الاكبر من هذه الاشعة كي لا تصل الى الارض بكميات كبيرة، كما جهزت سكان المناطق الاستوائية بغلاف من هذه الصبغة (الميلانين) لحماية الجسم من اضرارها.

لا تقتصر الحماية على سكان المنطقة الاصليين، بل ان القادم الى المناطق الحارة يتحسس جلده لزيادة الاشعة فوق البنفسجية فيصنع المزيد من هذه الصبغة التي يكتسي بها بعد ايام من قدومه اليها، ثم يخلع عنه ذلك الرداء الاسود (الكساء الميلانيني) بعد تركه المنطقة بأسابيع. وهذا ما يفعله الاوروبيون البيض عندما يقضون إجازاتهم في الشرق الاوسط او جنوب شرق آسيا ليعودوا الى بلدانهم فرحين بسواد وجوههم، بينما يعود الشرقيون الى بلدانهم بوجه ابيض بعد انهاء بعثتهم الدراسية او مأموريتهم الدبلوماسية في دول لا ترى الشمس الا كما يرى الشرقيون الحرية.

الميلانين في الحالين هو المسؤول عن بياض الوجوه وسوادها، فهو الذي يزداد بزيادة التعرض لأشعة الشمس ويقل بقلّته. وكل النساء يعلمن ان الحامل البيضاء تصبح سمراء اثناء الحمل، والسمراء تصبح اشد سمرة، وكل ذلك بسبب زيادة افراز الميلانين اثناء الحمل لحماية الجنين من تأثير الاشعة فوق البنفسجية، صُنعِ الله الذي اتقن كل شيء.

 

ضروري للبصر

اما دور الميلانين في الرؤية فيكاد لا يـُصدَّق، فبدونه لا يستطيع الانسان أن يرى الاشياء بوضوح، ذلك ان العين البشرية تعمل كآلة التصوير. وكما تحتاج آلة التصوير الى غلاف داخلي معتم تماما (اسود اللون، لا يعكس النور) كذلك تحتاج كرة العين الى جدار داخلي شديد السواد كي يتركز النور الداخل اليها عن طريق البؤبؤ ويقع على المركز المقابل للعدسة حيث تتجمع الخلايا البصرية بكثافة عالية لتستطيع تمييز الصورة بدرجة عالية من الوضوح كي تنقلها بكل أمانة الى الدماغ الذي يفسرها ويعقلها.

لو خلا الجدار الداخلي للعين من صبغة الميلانين فان النور سوف يتشتت داخل العين مما يجعل الصورة مشوشة، وبالتالي سوف يصبح البصر ضعيفا والرؤية متدنية الجودة كما الحال في الابرص. الابرص يعجز جسمه عن صناعة الميلانين بسبب نقص وراثي في الانزيم المسؤول عن تصنيعه، لذا تراه يبصر الاشياء بغشاوة فلا يميز الشيء كما يميزه الشخص السليم. ويتمنى الابرص أن يحصل ولو على قليل من الميلانين الذي تخلص منه مايكل جاكسون عندما غيـّر لون جلده الى الابيض ليتخلص من عار العرق الاسود بطريقة مكلفة وخطرة وتختلف عن طريقة الاسلام في الغاء عنصر اللون من القيمة الانسانية.

 

الشعر الابيض

يمثل ظهور الشعر الابيض نهاية مهمة الميلانين في الشعر، وبداية النهاية لمرحلة الشباب والدخول في مرحلة المشيب بالنسبة الى الكثيرين. ومن هنا قال الشاعر:

عيـّرتني بالشيب وهو وقار

                    ليتها عيـّرت بما هو عارُ

ان تكن شابت الذوائب مني

                    فالليالي تزينها الاقمارُ

عندما يلتقي الشِعر مع الشَعر يبدع الانسان هذه الأبيات التي تخلط بين الغزل والرثاء، رثاء الشباب والتمسك بممارساته. وخلفية المشكلة تكمن في الميلانين، فهو الذي إن هـَجرَ خلايا الشـَعر، هجرَ الحبيبُ محبوبه وفرّ، ولم يبق للعاشق الا نظم الشعر.

ولو عرف الشاعر حقيقة ان الشيب قد يغزو الشَعرَ لاسباب وراثية في سن الثلاثين او العشرين احياناً فربما كان نظم ابياتا اخرى تنتهي بالانين والحنين والميلانين والثلاثين أو العشرين.  لكن ليس جميع الشعراء جاهلين بالحقائق الطبية، فقد وجدت شاعرا اكتشف –ربما قبل الطب- أن الصدمات النفسية القوية قد تؤدي سريعا الى ابيضاض الشعر في ذروة الشباب، فقد جمع هذا الشاعر معرفته بالفلسفة اليونانية والطب الحديث في قالب شعري نادر فقال:

مسألة الدور جرت/ بيني وبين من أحبْ

لولا مشيبي ما جفا/ لولا جفاهُ لم أشبْ 

وقد التقيت بعد سقوط صنم البعث في العراق بشباب في عمر الورد كأنََّ رؤوسهم ازهار القرنبيط... لم تبق شعرة سوداء في رؤوس بعضهم بسبب ما جرى لهم في السنوات العجاف من حقبة الدكتاتورية. كذلك لاحظت سرعة المشيب عند شباب استبشروا بسقوط الصنم لكن فرحتهم لم تدم، فقد شيَّبتهم مراجعة الدوائر الحكومية لانجاز معاملات رسمية روتينية تتطلب كل مرحلة منها تصوير المستمسكات الاربعة وتأييد المصورات وصحة الصدور في نظام اداري يحكي تخلف الادارة من جهة، ونوم المسؤولين عن معاناة المواطنين من جهة اخرى ان لم نقل تعمدهم التعقيد للافادة من عائد الرشوات.

ان الوراثة هي التي تحدد وقت ابيضاض الشعر، فمن ابيـضَ شعره بدون صدمة نفسية قوية فعليه أن يسأل والديه عن العمر الذي بدأ عندهما ابيضاض الشعر، ولأن النساء يتأخرن عن الرجال في سن المشيب فسؤال الاب أقرب الى الحقيقة من سؤال الام.

هذا اذا لم يكن الرجل مدخنا، اما اذا كان من المدخنين فانه يشيب قبل المشيب. فقد اثبتت دراسة نشرتها المجلة الطبية البريطانية BMJ ان ظهور الشيب المبكر عند المدخنين يفوق اربع مرات نسبته عند غير المدخنين، ولا عجب ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا ان دخان السيكارة يحتوي على اربعة الاف مادة اغلبها سام وكثير منها ضار والعديد منها مسرطن.

 

ما العمل لتفادي المشيب؟

لكي نوفر على القارئ وقته نختصر له القول:  لا دواء هناك ولا غذاء يمنع المشيب او يؤخره فضلا عن استعادة سواد الشعر. فاذا نزل بك البياض ولم تكن رئيسا مصريا يجيد صبغ شعره فما عليك الا ان تكون شاعرا او مرددا لقول الشاعر: الا ليت الشباب يعود يوما/ لأخبره بما فعل المشيبُ.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1604 الاحد 12 /12 /2010)

 

 

في المثقف اليوم