قضايا وآراء

علي الوردي ..أوراق لم تنشر (3) .. قراءة في مقتل عثمان / قاسم حسين صالح

ويشير صراحة (والحوار أجري عام 89) الى أن الحاكم كان بمرتّب محدود ولا يستطيع أن يقتل أحدا كما يشتهي أو يستبدّ بأمور الناس (واشارات أخرى لسلوكيات كان يمارسها رئيس النظام السابق، الذي كان يودع أقبية المخابرات من قال نكتة على سجيته تفسّر على أنها تمس السيد الرئيس!) . وفيه يلمّح بذكاء الى أن النظام الدكتاتوري لا يمكن أن يدوم، وأنه بدون اعتماد النظام الديمقراطي والتصويت الحر فان الصراع بين الحاكم والمحكوم يفضي الى التنازع وسفك الدماء..وهذا ما حصل للمجتمع العراقي بعد رحيله بعشرين عاما!.

                                                   ***

 

س: الملاحظ أنك اجتماعي تارة ومؤرخ تارة أخرى، فما هو السبب الذي جعلك كذلك؟ وهل هنالك علاقة بين علم التاريخ وعلم الاجتماع؟

ج: نعم.هنالك علاقة تفاعلية وثيقة بين علم التاريخ وعلم الاجتماع.فالمؤرخ يكون أقدر على فهم احداث التاريخ اذا كان ملمّا بعلم الاجتماع، كما أن الاجتماعي يكون أقدر على فهم المجتمع اذا كان ملمّا بتاريخه.

 أستطيع أن آتيك بمثال على أهمية علم اجتماع في فهم أحداث التاريخ حول الحادثة الكبرى التي حدثت في عهد الخليفة عثمان بن عفان وأدت الى مقتله.فهذه الحادثة كان لها أثر بالغ جدا في مسيرة التاريخ الاسلامي، وقد انقسم المؤرخون حولها الى فريقين متعارضين، فمنهم من وضع اللوم كله على الذين ثاروا على عثمان، ومنهم من وضع اللوم كله على حاشية عثمان.

 ونحن اليوم اذ نحاول دراسة هذه الحادثة في ضوء علم الاجتماع الحديث نستطيع ان نفهمها فهما يختلف عن فهم المؤرخين القدامى لها.

 

س: كيف؟

ج: يمكن القول من الناحية الاجتماعية ان تلك الحادثة كانت محتومة لابدّ من وقوعها عاجلا او آجلا.ان حاشية عثمان ربما كانوا سببا في تعجيل وقوع الحادثة، ولكن الحادثة لابدّ أن تقع في تلك المرحلة التي مرّبها المجتمع الاسلامي .فهي لو لم تقع في عهد عثمان لوقعت في عهد تال له.

 

س: هل هذا يعني أن أسبابها كانت موجودة قبل عهد عثمان؟

ج: كان نظام الحكم في الخلافة الراشدة التي دامت نحو ثلاثين سنة يشبه أن يكون ديمقراطيا، أو هو كان ديمقراطيا فعلا.فالحاكم فيها كان ذا مرتّب محدود وهو لا يستطيع أن يتصرّف بالأموال العامة كما يشتهي .وهو كان ايضا لا يستطيع أن يقتل أحدا أو يعاقب أحدا كما يشتهي اذ هو كان مقيّدا في ذلك بالتعاليم الاسلامية.وهو كان ايضا لا يستطيع أن يستبدّ بأمور الناس كما يريد بل يجب أن يستشيرهم فيها حسب المبدأ القرآني القائل (وأمرهم شورى بينهم).

 يجب أن نعلم أن معالم الديمقراطية هذه التي ذكرناها لم يكن من السهل تحقيقها في أية أمّة من الأمم في العصور القديمة .وان هي صارت من الممكن تحقيقها في فترة من الزمن فانها لا يمكن أن تدوم طويلا، ولابدّلها من حدّ تقف عنده.

 

س: لماذا؟

ج: لأن مشكلة البشر انهم لا يمكن أن يرضوا عن حاكم حتى ولو كان هذا الحاكم عادلا نزيها الى أقصى درجة ممكنة .ان رضا الناس غاية لا تدرك – كما ورد في المثل العربي القديم.فاذا تمكن الحاكم من ارضاء فريق من الناس فلابدّ أن يسخط عليه فريق آخر منهم.

 كان الحكام قديما يسيطرون على الناس عن طريق الترهيب والترغيب .فالمال بيدهم يغدقونه على من يريدون اجتذابه، كما أن السيف حاضر بين أيديهم يعاقبون به من يسخطون عليه.وبذا صار الرعايا في العصور القديمة ساكتين خائفين، ولم يكن في مقدورهم أن يفعلوا غير ذلك.

 

س: وما الذي اختلف الآن؟

ج: الذي حصل في العصور الحديثة أن النظام الديمقراطي قد حلّ المشكلة. فالناس الآن لا يختلفون عن الناس قديما، اذ هم لا يمكن ان يرضوا كلهم عن حاكم، ولابد ّأن يكون فيهم الراضون عنه والساخطون عليه. ولكن الانتخابات التي تجري فيهم بين حين وآخر تتيح لهم أن يعزلوا الحاكم الذي لا يرضون عنه، وينصّبوا حاكما آخر بدلا منه. انهم يعلمون أن الحاكم الجديد لم ينل تأييد الناخبين جميعا، فان رضا الناس غاية لا تدرك – كما أشرنا اليه آنفا.ولكنه قد نال تأييد الأكثرية منهم وهذا يكفي.

 

س: يبدو انك تنظر للصراع وكأنه مسألة حتمية وأبدية ولا تحله حتى الديمقراطية.

ج: ان الاختلاف والتنازع نزعة أصيلة في البشر لا مفرّ منها.ومن طبيعة البشر أنهم حين يختلفون يعتقد كل ّفريق منهم أن الحق في جانبه وأن الباطل في جانب خصمه.واذا وقع الاختلاف بين البشر دون أن تكون لديهم طريقة عملية للفصل بينهم، كطريقة التصويت والانتخابات في الديمقراطية الحديثة، فان الاختلاف بينهم ينمو ويتصاعد بمرور الأيام، وقد يؤدي أخيرا الى التنازع العنيف وسفك الدماء .وهذا هو ما حصل فعلا في عهد الخليفة عثمان.

 

س: وهل حصل هذا على صعيد الناس بشكل عام؟

ج: نعم، فقد انقسموا الى حزبين متصارعين، أحدهما ناقم على عثمان والآخر مؤيد له .فكيف يمكن حل هذا الصراع بينهما؟

 

س: كيف؟

ج: اجتمع الناقمون على عثمان في المسجد أخيرا وأخذوا يوجهون اليه اللوم الشديد ويصرخون في وجهه ويقذفونه بالحجارة، فسقط عثمان على الأرض مغمي عليه، وحمل الى بيته، وهنالك تسلق اليه نفر من الغوغاء فقتلوه.

 لو كان عثمان من طراز الحكام القدامى،  اذ يقف الحرس والجلاوزة بين يديه وهم مستعدون لقتل أي رجل يأمرهم بقتله،  لما تجرّأ أحد عليه بالصورة التي رأيناها.

 ومن الجدير بالذكر أن علي بن أبي طالب الذي تولّى الخلافة بعد عثمان لم يكن أفضل حالا تجاه رعيته من عثمان. ونحن حين ندرس الكلمات والخطب التي قالها في أواخر خلافته نجدها مليئة بالتذمر من رعيته والشكوى منهم. انهم لم يوجّهوا اللوم الشديد أو يقذفونه بالحجارة على نحو ما فعلوا مع سلفه عثمان، ولكنهم كانوا يخالفونه ويستهترون بأمره ويجابهونه بما لا يرضى،  وقد خاطبهم ذات مرة قائلا:(اذا كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها فانني اليوم لأشكو حيف رعيتي كأنني المقود وهم القادة أو الموزوع وهم الوزعة).

 ان هذه الكلمة من علي لها مغزى اجتماعي يلفت النظر .فنحن نرى الحاكم هنا يشكو من المحكومين له.وهذا أمر غريب غير مألوف في العصورالقديمة، اذ جرت العادة أن يكون المحكومون هم الذين يشكون من حكامهم، ولم يكن مألوفا أن يشكو الحكام من المحكومين.

 

س: هذا يعني وكأنك تريد أن تقول بأن الديمقراطية في عهد الخلفاء الراشدين جاءت في غير وقتها..

ج: نعم.فما جرى يدل على أن الخلافة الراشدة وصلت الى نهاية عمرها وليس في مقدورها أن تبقى مدة أطول، فالحاكم فيها لم يكن قادرا أن يسوس رعيته عن طريق الترغيب والترهيب كما كان الحكام القدامى يفعلون، وكذلك لم يكن قادرا على أن يلجأ الى التصويت على نحو ما يجري في الديمقراطية الحديثة .وخلاصة القول ان الديقراطية الراشدية جاءت في غير أوانها، أو هي جاءت قبل أوانها.ونحن اذ نريد دراستها في ضوء علم الاجتماع الحديث نتوصل الى نتيجة تختلف عن تلك التي اليها المؤرخون القدامى.

 

س: حدثني عن الجانب الآخر للموضوع..أعني أهمية التاريخ للباحث الاجتماعي.

ج: جرى الباحثون الاجتماعيون في النصف الأول من هذا القرن(يقصد القرن العشرين – ق) على أنهم اذا أرادوا دراسة مجتمع انكبّوا على دراسة حاضره ولم يهتموا بدراسة ماضيه.وقد تبين لهم بعدئذ أنهم كانوا في هذا مخطئين. يقول الباحث المعروف روبرت نيسبت في كتاب له صدر في عام 1970 :"ان الفجوة بين علم الاجتماع والتاريخ أخذت في السنوات الأخيرة تتقلص باستمرار، وهي الفجوة التي كانت موجودة لمدة طويلة في الولايات المتحدة الأمريكية.ففي السنوات العشرين الأخيرة صار المؤرخون ينتفعون من مفاهيم علم الاجتماع تدريجا، وكذلك صار الاجتماعيون ينتفعون من المعلومات التاريخية..".

 اننا لا يمكن ان نفهم مجتمع من المجتمعات البشرية مالم نفهم تاريخه ولاسيما تاريخه القريب.وأوضح مثل يمكن أن نأتي به في هذا الشأن هو المجتمع العراقي، فنحن لا نستطيع أن نفهمه في وصفه الحاضر فهما واقعيا مالم نحاول فهم الأحداث التي جرت له في العهد العثماني، وهذا ما حاولته عند تأليف كتابي "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث".

 

س: كان تركيزك فيه على القيم والمعتقدات، فهل ترى أنها تبقى تعمل بعد سبعين عاما؟

ج: ان القيم والمعتقدات والتقاليد التي تنشأ في عهد من العهود لا يمكن أن تختفي فجأة عند زوال ذلك العهد، فهي تبقى تؤثر في سلوك الناس وتفكيرهم مدة طويلة من الزمن بعد زوال أسبابها.انها تضعف تدريجا بمرور الزمن ولكنها لا تختفي من أعماق النفوس اختفاءا تاما..وهذا هو من معالم " التناشز الاجتماعي"كما اشرنا اليه آنفا.

                                                     ***

 بقي أن نذكّر الجيل الجديد بأن عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي الأستاذ بكلية الآداب جامعة بغداد،  أحيل على التقاعد قبل بلوغه السن القانوني وسحب منه لقب (أستاذ متمرس) لافقاره ماديا وتهميشه فكريا، وصدرت توجيهات بحظر تداول مؤلفاته بداعي (السلامة الفكرية) التي اعتمدها النظام السابق ضد كل فكر يتعارض او لا ينسجم مع فكر حزب البعث .ومع أنه غيّب ومات منسيا في تموز 1995فانه عاد حيا الى الساحة الفكرية ليتأكد للناس أن الطغاة زائلون والعلماء خالدون.

  ختاما.. سؤال موجّه للبرلمان والحكومة:

           ألا يستحق هذا الرجل تكريما يمنح له بأسم الدولة العراقية؟

 

أ.د.قاسم حسين صالح

رئيس الجمعية النفسية العراقية

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1605 الاثنين 13 /12 /2010)

 

 

في المثقف اليوم