قضايا وآراء

سماويات: (6) / المكـــــــر .. في "ليل بهي" / حسين سرمك حسن

في قصيدة لاحقة إلى واقعة حصلت وعالجها في قصيدة سابقة، أو أنه يعيد استثمار موضوعة أو صورة شعرية طرق عليها في نص سابق نشره قبل سنوات طويلة أحيانا، ويوسعها ويثري معانيها وملامحها في نص جديد (راجع كتابنا : إشكاليات الحداثة في شعر الرفض والرثاء – يحيى السماوي أنموذجا – دار الينابيع – دمشق). وبالإضافة إلى الوظائف الجمالية والبنائية لهذه السمة، فإن هناك دلالة نفسية هامة أيضا، فهي تعبر عن رسوخ تلك التجربة في ذات الشاعر، رغم أنها قد تكون عابرة وقصيرة أحيانا . لا تنطبع بصمات – بصمات قد تكون جارحة في بعض الأحوال – أي تجربة نخوضها أو حادثة نمر بها، وتكون عابرة، على صفحات ذاكرتنا، وتظل حية فيها إلا إذا كان لها معنى رمزي دفين يرتبط بمكبوتاتنا وإحباطاتنا التي ستستعاد تحت ظروف مثيرة مؤلمة أو سارة مماثلة في المستقبل . والآثام عادة، خطايانا هي الحي الذي لا يموت كما يقول المبدع " محمد خضير " . وفي قصيدة " أهلوك أهلي يا ديار " استهل الشاعر وقائعها بصدمته الذاهلة وهو يعود إلى ديار نجد التي فارقها سنوات طويلة .. حيرته، كما قلنا في الحلقة السابقة، في من سيبدأ مقبلا ومعانقا، وفي أي بيت سيسنريح وكلها قلوب محبة وبيوت كريمة . . ثم يستعيد ذكريات جميلة من حي الفيصلية .. ويتوقف بدرجة أطول عند تجربة لقائه بحسناء شامية في حي الشبيكة .. حسناء تغزل بها، كما أوضحنا، بمكر فاحمر تفاح خدودها .. وقبل أن ترحل استودعته خصلا من شعرها، ومنديلا، وعطرا من روابيها . واستحلفته أن يؤدي " العمرة " نيابة عنها حين تعز عليها العودة مستقبلا فلم يقصّر .. فأداها وأزاد . لكن هذه التجربة التي يستذكرها الآن – وقت كتابة هذه القصيدة " أهلوك أهلي يا ديار " عام 2000 م ردا على رسالة الأديب الخويطر، وضمها ديوان الشاعر: " الأفق نافذتي " الذي اصدره في استراليا عام 2003 م، كما أسلفنا – كان قد تناولها في وقت سابق، في قصيدة أخرى هي " حكاية في ليل بهي " التي ضمها ديوانه الشعري : " هذه خيمتي فأين الوطن ؟ " الذي أصدره في استراليا أيضا عام 1997 م كما أشارت إلى ذلك الناقدة " القرني " في كتابها . وتقع قصيدة " حكاية في ليل بهي " في ثلاثين بيتا، وهي قصيدة غزلية محضة لا أثر لأوجاع وضغوط المنفى فيها لأن الشاعر كان ما يزال في وطنه الثاني كما يصفه، وعلى أرض عربية هي أرض السعودية، مثلما لا وجود لهمومه المدمرة المرتبطة بفاجعات وطنه الجريح : العراق . ويحيى يعود إلى هذه التجربة ليعالجها ثانية في أحد عشر بيتا من قصيدة " اهلوك أهلي يا ديار " التي تتكون من خمس وأربعين بيتا . أي أن القصيدة السابقة كاملة تتناص مع جزء من القصيدة التالية يضم أحد عشر بيتا يبدأ بالبيت :

وهناك في حي - الشبيكة – راقصت

شـــــــامية لمــياء بـــوح ربابــــــــي

وينتهي بالبيت :

أدّيتـــــــها عنها ..... وزدت بمــــثلها

عنّي ..... ونافــــــلتــــين عن أترابي

وتقاطع القرني بين النصّين بالقول :

(.. سأحاول الإلماح إلى ما يجمع بين النصين من سمات تشكيلية ودلالية وما يفترقان فيه كذلك . من الوجهة الأولى .. كلا النصين عمودي، كما أنهما يشتركان في البحر الشعري " الكامل "، وينتهيان بقافية مطلقة " إشباع حركة الفتح الأول، وحركة الكسر في الثاني فيما لم ينته بياء المتكلم أصلا، "، وهما – مضمونا – يسجلان تفاصيل حدث واحد : لقاء امرأة شامية في أحد أحياء مكة إثر موسم من مواسم الحج – القرني – ص 195) . أما عن الفوارق بين النصّين فتقول : (أما الإختلافات فالأقدم [ = قصيدة " حكاية في ليل بهي " ] يرد نصا غزليا مستقلا في امتداد يصل إلى ثلاثين بيتا، والمتناص معه [ = المقطع من قصيدة " أهلوك أهلي يا ديار " ] ينحصر في خمسة عشر بيتا، أو هي أحد عشر فقط تستعيد تلك الحكاية ضمن سياق نصي طويل (45 بيتا) مصدر بالحنين إلى السعودية (11 بيتا) ومختتم بمناجاة العراق ومن فيها وما فيها من ذكريات (19 بيتا)، وأحسب أن لهذا ما يبرره، فالحدث لحظة ميلاده يتمتع بطزاجة الحضور ودهشة الإحتفاء الأول، ومن ثم الإلتذاذ بالتراحب في تسجيله، خاصة والأمل آنذلك لم يزل مفعما بالحياة في قيام عراق معافى مستقر بعد إسقاط نظام البعث، أما زمن انبعاثة الثاني ضمن سلسلة ذكريات مستعادة عن السعودية، وفي وقت توثّب أمريكا وحلفائها للإنقضاض على العراق، فإن الذاكرة أقرب إلى إجمالي التداعيات من فرديتها أو تفصيلاتها الوئيدة وأدنى إلى الشحوب منها إلى النضارة، لكن الشاعر – في طرافة لافتة – يُحسن الإقتصاص والتعويض، فبدلا من توسله سردا ووصفا على امتداد عشرة أبيات إلى أن وصل إلى لحظة الإيماء بالتحية واختلاق الأعذار للتحادث :

حيّيـــتها وزعمـــت أنــــي تائــه ٌ

ضلّ الطريق وقد أضاع الملتجا

يعلنها بصراحة – بعد أن يرصد قبلها ملامح لمغامرات أخرى لا تقل جرأة : " راقصتْ .. بوح ربابي "، و " شذى أنفاسها .. بدمي "، وعوضا عن موقف لهو عابر يجمع اثنين في أحد الأرصفة المسرجة في مكة :

لاصقتها خطوي ... وأجلسنا معـا

حظٌّ مكانا في " الشبيكة " مُسرجا

.. فاللقاء هنا يدوم : " يوم ... وأسبوع .. وآذن ركبها بالسير " .. هي ترحل مرغمة كارهة، وخلافا لغنج مراهق في السرد الأول يدعو الشاعر لتتبعه " طالبا القرب " / الزواج .. إلى بلاد الشام مادام يتوسم فيها قُربى الفرات وجيرة النسب والإغتراب :

فاطرق بلاد الشام حيث عشيرتي

وابي، إذا كنتُ المنى والمرتجى – القرني – ص 195 و 196) .

ويستهل يحيى قصيدته هذه " حكاية في ليل بهي "، بتغزل صارخ بوجه المرأة الهدف، حيث حجابها جزئي أتاح له أن يرى وجهها كبدر منير ساطع يحيط به إطار من سواد الظلمة .. وكأنهما ليل وصبح يتعايشان بمسالمة ويسر، ويتصالحان في تكامل رغم تناقضهما :

ليلٌ حجابك حول وجهكِ قد ســـجا

فعجبتُ إذ جُمع الضياء مع الدجى

جلسا معا : ليل وصبــــح مشرقٌ

فكأن بــــدرا بالظــــــلام تبرّجـا

ويبدو أن هناك اختلافا في " طقس " اللقاء بين الصورة الراهنة المستدعاة والصورة القديمة . فهنا يبدو الجو هادئا، مستقرا، ورائقا، في حين أنه، في النص الثاني، جرى في ليلة شتوية مزحومة بالسحاب والمطر . وهنا لا توجد علامات على لقاء تمهيدي سريع .. هنا " مقدمة " وصفية لجسد المحبوبة .. وجهها الفتان .. وحجابها المؤطر المتناسق .. ومشيتها المغناج المتثاقلة قصدا وصحة، لا مرضا وسقما :

ومشت فقلتُ : ربابة تمشي على

صدري فحقّ لخافقي أن يخفقــا

وتثاقلت في خطوها لا من ضنىً

فوددتُ لو كانت ضلوعي هودجا

هنا يبدو الشاعر أكثر " صبرا " وأكثر غوصا في التفاصيل والجزئيات الجسدية خصوصا، وهو، وهنا تشابك الحالتين المموّه، يخطط بـ " مُكر " للإحتكاك بالمرأة، لنصب فخاخه في طريقها ونشر شباكه المغوية عليها . إنه " قصدي " في تقرّبه منها، وليس عفويا بلا تخطيط مسبق :

لاصقتها خطوي ... وأجلسنا معـــا

حظّ مكانا في " الشبيكة " مُسرجا

فاستنفــــرت بقيـــــا شبـــــاب آفلٍ

قد كان يومــــا بالهيـــــام مضرّجا

وهو يناقض رسم الصورة الكهولية ذات الشباب الضائع الآفل كما يقول، مع الحاسة الذئبية التي ترصد الوجه والمشية المغرية المتثاقلة، ولحاقه بها هي الفتية المتوثبة . قد يتهالك الجسد ويتقادم وتصدأ قواه .. لكن القلب يبقى " أخضر " متوهجا وملتهب الدوافع، وهذا هو سرّ مرحلة " المراهقة الثانية " التي نعيشها في الشيخوخة والتي قد تكون ذات نتائج عاصفة ومميتة .. والشاعر يحاول الآن إيجاد المبررات " المنطقية " التي تسوّغ تعلقه الملتهب، وهو في هذا العمر وبعد كل تلك الخسارات، بامرأة شاهدها مصادفة في حي الشبيكة، فينتقل إلى الحديث عنها بضمير الغائب – ولا أعرف معنى " الغياب " هنا ونحن نرى الكائن أمام أعيننا وبكافة تفاصيله – بعد أن افتتح خطابه ومسارات حكايته بالحديث بضمير المخاطب : (ليل حجابكِ ...) ... وكأنه يقصي غائيته المباشرة ويجعلها مستثارة ومستفزة من قبل مكمن تربص به واستدرجه . وهنا يتيح لنا الشاعر أن نفهم بصورة أشمل وأعمق سرّ إلصاق تهمة الإغواء بحواء في اسطورة الخطيئة الأولى، فهي في الواقع تهمة ذكورية مسقطة، ولعلها محارمية الطابع مادامت حواء قد أُخذت من " ضلع " آدم، وكان الضلع " أيسر " أخويا !! :

واستدرجتني فتــنـــة وحشــــية

ألفيت قلبي نحـــــوها مُستدرجا

نشرت سحابة عطرها فتنفست

روحي عبيرا يستبيح ذوي الحجا

والشاعر ينتقل الآن من مرحلة " بصرية " كان للعين فيها القدح المعلى في رصد مفاتن المحبوبة وتعبيراتها الجسدية الرائعة إلى مرحلة " شمّية " حيث تنقلب الحالة الاستقبالية، ففي الأولى تنغرز العين في الأجزاء المستهدفة من جسم المحبوب ولهذا يقال أن العين " تصيب " مثلما هي " تأكل "، وهنا لا مجال سوى لأن ينشب العبير المخدر سهامه في روح المحب عبر حاسة شمه . وهذا العبير لا يوفر حتى " ذوي الحِجا "، والحِجا بكسر الحاء وبالألف الممدودة وجمعها أحجاء، هي الناحية، أما الحِجى بكسر الحاء أيضا وبالألف المقصورة وجمعها أحجاء كذلك، وهو ما يريده السماوي، فتعني العقل والفطنة، يُقال : " حاجيته فحجوته " أي غالبته في الفطنة فغلبته . وإذ أتاح الشاعر لنفسه أن تلتقط أنفاس ترددها من تأثيرات الفتنة الوحشية، وبعد وقفات محسوبة يواصل مخططه " التحرّشي " السبقي فيستمر في سرد حكايته :

ومضت لُحيظات وكل ٌّ يرتجـي

من صمته نحو التحدّث مخرجا

حيّيتها .. وزعمت أنـــــي تائهٌ

ظلّ الطريق وقد أضاع المُرتجى

والمرأة هنا لا تظهر علامات الخفر التي اشار إليها الشاعر من احمرار تفاح الخدود وغيره، لكنها أكثر جرأة واستجابة منفتحة من حالها ذاك، فهي ترد التحية المحبة المتطفلة أصلا بمثلها بل تزيد عليها رقة وتغنجا .. وهي تضحك منتشية بلا قيود، وتخبره بقرب إجهاض هذا اللقاء السريع، فقد جاءت مع أهلها لأداء فريصة الحج .. وها هم أهلها وقد أدوا الفريضة قد حزموا أمرهم على العودة :

ردّت بمثل تحيتي ... لكنها

زادت عليها رقّة وتغنّـــجا

ضحكت وشعّ العشب في أحداقها

حتى ظننتُ الليل حقلا مبهجا

واستظرفت آهاً يخالط جمرها

ماءٌ، وهمسا كاد أن يتهدّجا

سأل الغريب غريبة – قالت – وقد

لثغت بـ " راءِ " فمٍ أذاب وأثلجا

جئنا إلى حجٍّ وأوشك جمعنا

عوداً .. فقد شدّ الركاب وأرتجا

أزفَ الرحيل إلى الشآم فأهلنا

قد هيّأوا زادا لنا وبنفسجا

إن أفعالها الآن من نوع مفعم بالروح المبادرة التي لا تتهيب الحضور الرجولي ولا نظرات الآخرين وشكوكهم .. والملفت للإنتباه أن لا وجود لآخرين في هذه القصيدة / اللقاء وهذا سيحيلنا غلى استنتاج أكبر واخطر حول الدوافع المبيتة المستترة التي تشكّل إدراكات الناقد وكيفية قيامه حتى بإعادة ترتيب التواريخ والحوادث بطريقة تشبه الآثار المؤذية التي تنتج عن فعل المؤرخ الذي يعيد كتابة التاريخ، أو المحقق عندما يحاول رسم تسلسلاات الوقائع مرة ثانية حين يقع كلاهما تحت تأثيرات رغبات عيمقة تبغي الإشباع أو أحكام مسبقة تتأسس عليها . وقد يمسك المتلقي بشيء من الربكة التي تشي بها مفردة " وبنفسجا " التي اختتم بها البيت الأخير . فالأهل، في استعداد استقبالي عجول، قد أعدوا لسفرهم إلى الشام المباركة زاداً وبنفسجاً من أرض نجد !! والمفردة " بنفسجا " ليست، كما يبدو في الظاهر، مقحمة من أجل تأمين اتساق القافية حسب، بل هي منسابة مع الوضع النفسي المنفتح لأمرأة جاءت تحج وتوفّر لديها وقت لتحب وتغازل بطريقة سنخفف من مروقها أنها طريقة " عذرية " و" ملتزمة " بالجانب الروحي، ومتعالية على الجانب الجسدي (الجنسي) . لكنها مثلما تغنجت وأثارت بالمشية المتثنية والرقة المستدرجة والفتنة الوحشية والاستظراف المغوي غرائز واندفاعة الشباب الآفل في روح الشاعر فإن خجلها اللاحق المعبر عنه بتوهّج تفاح وجنتيها - وهو ما سيتلاعب بنا عن طريقه ليخلق في القصيدة قناعة التطابق الواهية بين القصتين كما سنرى – فإن علامات خجلها الذي يعلنه الشاعر تأتي وقد فقدت حمولتها النفسية الإقناعية بعد شوط التثني والحديث المسترسل بلا قيود تلجمه . والآن لا تحمرّ خدود المحبوبة في أول لقاء سريع وبعد طلب " حقوق الجار على الجار " إلا إذا فُهمت تلك الحقوق بمعانيها الحسّية الدفينة :

شاميةٌ ؟ ملك القلوب جمالكم

ولَكَم أذلّ مكابرا ومدجــــجا

ما بيننا قربى الفرات وجيرة

وجذور أنسابٍ وغربة من شجا

للجار حقٌّ، والقرابة مثله

أنعم بمن حقّاً يصون ومنهجا

فتوهّج التفاح في وجناتها

خجلا يزيد من الجمال توهّجا

ومع تصاعد اختصار المسافة في الجلسة التقرّبية التي يبدو أنها زادت أكثر وأكثر حتى صار الشاعر يشاهد تفصيلات جسد المحبوبة من حركتي نهديها الرجراجين ومرايا الجيد الوضيء التي لا يمكن ملاحظتها لولا أن المرأة قد تركت لحجابها أن " ينهدل " في حركة تلقائية أو أنها قد نسيت الإمساك به وإحكامه على جسمها .. ومع واسترخاء الجانبين الذي يرخي القيود الداخلية القامعة والمحذرة .. يجرّد الشاعر قدراته " التبصصية " بلا تردد، فيستمكن التكورات العصفورية المغرية والانسراحات المرآتية المثيرة :

واهتز عصفوران تحت عباءة

عبثت بها ريح الصبا فترجرجا

وعلى مرايا الجيد – فرط نعومة –

نظري إلى النحر الوضيء تدحرجا

زمّت عباءتها .. وأحسب أنها

زمّت على عيني جفنا أهوجا

واستحكمت شِق القميص واسدلت

شالا بلون المقلتين مؤرجا

لقد اكمل الشاعر " آثام " تبصصه، وها هو يرتب خطة " التكفير " بجعل المرأة تتنبه مسرعة لتستر ما ظهر من مفاتن جسدها، لتتحول إلى الموقف " الموضوعي " حيث يتسيّد الوعي بعد أن شبعت دوافع " اللاوعي " ورغباته، و " اعتذرت " عن نزقها المحبّب، هذا النزق الجارح الذي لا يشير إليه النقاد، والأغرب أنهم يعدونه اقل خطورة من تعبيرات اللقاء الثاني في " راقصت .. بوح ربابي " و " شذا أنفاسها .... بدمي " .. كما أنهم عدّوا اللقاء الأول موقف " لهو عابر وعابث "، وبالتأكيد لمجرد أنه اشتمل على تصرفات حسية وتصويرات جسدية مكشوفة أو شبه مكشوفة . وحتى في رسم دلالات النهايتين : القصيدة والمقطع، فإن التفاوت الصارخ في التقييم يتكشف أيضا، حيث تكون النهاية التي تخبر بها المرأة الرجل الشاعر بأنهم – أهلها وهي – سيرحلون غدا بعد أن أدوا فريضة الحج مغايرة – في إيقاعها – للنهاية التي تأتي بعد " يوم .. وأسبوع .. وآذن ركبها بالسير " متناسين أن الفارق في الطول الزمني قد قام الشاعر – وهو عالم فيزياء نفسي - بتعويضه بالفارق في " الكتلة " إذا جاز التعبير .. بكتلة الإشباع الحسي التبصصي، رغم أن الحفر الرياضي الدقيق وحسب قيمة التعبيرات الرمزية - طبعا وفق حسابات الواقع الشعري / النفسي الذي يختلف عن الواقع الموضوعي جذريا – يظهر أن " مادة " الغريزة تتحول كثيرا وبأشكال مختلفة ولكنها لا تفنى أبدا .. وهذا من أهم قوانين التفكير الشعري / المنطق اللاشعوري والذي يتمثل في الإحساس بالخلود ومقاومة الفناء، ولهذا صياغة قانونية أسماها معلم فيينا بـ " قانون التناقض الأولي – primary paradox " حيث يعترف الإنسان بموت الآخر وفنائه ولا يقر موته وفناءه الشخصي، ولهذا لا نتعظ من مليارات الوفيات حولنا .. لا من الحروب .. ولا من الزلازل والفيضانات .. ولا من تحذيرات الجحيم والنعيم:

قالت - وكان الفجر بدء طلوعه -

بغدٍ سنرحل قبل ميــــعاد الدجى

فاطرق بلاد الشام حيث عشيــرتي

وابي، غذا كنتُ المنى والمرتجى

عـــــرّج علينا لــــــيلة وصبيــحة

وارجع بقلبي – لا يديّ – متوجا

وأعتقد بقناعة كبيرة أن تشابه المكان " الشبيكة " والنهايتين، وبعض التفصيلات، وحماسة النقاد لـ " تطهير " الشاعر من أدران العشق المقدس، هو الذي جعلهم يطابقون بين القصيدة والمقطع ويعدونهما نصين يدوران حول حادثة واحدة، في حين أن حيثيات النصين تشيران إلى مسارين مختلفين، بل بدايتين ونهايتين مختلفيتن رغم تقاربهما الواضح . لقد وصلت حدة انحيازنا التأويلي المسبق المحكوم ببنانا السيكولوجية حدّ أن نحسب الفارق الزمني بين النصين على أنه أربع أو ست سنوات، في حين أن الشاعر وبعظمة لسانه كما يقال في التعبير الشائع يقول أنه يستذكر التجربة القديمة بعد تسع سنوات :

لازال من (تســع) شذا أنفاسها

بدمي .. يبلل بالندى أحطـــــابي

ثم لاحظ – كما قلنا في مفتتح الدراسة – " الطقس " الذي يصفه الشاعر في اللقائين ؛ ففي اللقاء القديم / الأصل كان الجو ليلا هادئا، يبحر في سمائه قمر رائق، أما في اللقاء " المستعاد " فجو الليلة شتوي ممطر مزحوم بالسحب . في الأول يجلس الشاعر مع المرأة في لقاء حميم ويتناقشان عبر أمسية واحدة .. إلخ، لكن في الثاني يمتد اللقاء آياما وأسبوعا .. في اللقاء الأول تحذّره من اللعب على أوتار تعلقه بها، والتصرف معها بطريقة العاشق الدون جواني اللعوب، تتمنع عليه حدّ أن تستفز فترد عليها شالها وعباءتها بعد أن " أفحش " في تمعن عصفوري صدرها المغردين، لكن في الثاني تكون متيمة به حد أنها تقص خصلا من حرير شعرها لتستودعها لديه مع منديل وعطر من روابيها .. كما أنها المدلهة التي تريد العودة إليه بكل طريق، فتستحلفه أن يؤدي العمرة نيابة عنها إن لم تستطع إلى ذلك سبيلا . وفوق ذلك كان المحيط الذي جرى فيه اللقاء الأول مختصرا على العاشقين، حيث جلسا وحيدين بلا منغصات خارجية، في حين أن الشاعر، في اللقاء الثاني، تروعه نظرات العابر المرتاب .. في الحالة الأولى كانت مسيطرة،، متماسكة، وقيادية .. فهي التي استدرجته في مشيتها وغنجها وتهكمت على سؤاله : " سأل الغريب غريبةً "، وكانت مشيتها واثقة وهو يحاول اللحاق بها، في حين أنها تتعثر به في الموقف الثاني المستذكر . هناك اختلافات كثيرة، بارزة وجذرية، يمكن الإمساك بها بالتحليل المتأني، لكن الوضع الإنفعالي النفسي هو الذي يضع غشاوة ليس على البصيرة النقدية الإدراكية للناقد، بل على البصر الراصد المباشر وهو مفتاح الأولى وهذا من أخطر الأمور التي من الممكن أن توصلنا – وبخط مستقيم – غلى الكوارث المميتة ليس في حقل العلاقات العاطفية حسب، بل في مجال السياسة والصراعات الاجتماعية وغيرها . ويمكننا أن نستدل على فروقات أخرى – حتى لو كانت جزئية – من خلال ما يشي به العنوانان المختلفان : فالعنوان الأول : " حكاية في ليل بهي " متماسك ومنطبق على حالة مضمونه، كحكاية مخصصة للقاء الحبيبين تحديدا وبلا تداخلات مهما كانت جمعية أو وطنية .. في حين أن العنوان الثاني : " أهلوك أهلي يا ديار " يجعل الهدف المركزي واسعا لا تحتل ضمنه الحادثة الأصلية – رغم أنها مغايرة تماما – سوى موقع ثانوي هامشي قياسا إلى الانهمامات الجمعية والوطنية . لكن ما هو مشترك بين الموقفين / النصين، وهذا ما نستطيع أن نقطع به بقوة، هو " المكر "، مكر الشاعر في الحالتين .. المكر الذي يغيب بصائرنا وبصيرتنا بأرديته الملونة التعبيرية المدهشة حد أن يجعلنا نعيد وبرهاوة :

وينقدون ... ويمكر الشاعر ..

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1606 الثلاثاء 14 /12 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم