قضايا وآراء

المهدي المنتظر في القرن الواحد والعشرين.. «2-1»

''يوتوبية'' وحسب؛ بل لأنها خاضعة باستمرار لديالكتيك الواقع والرغبة: فبين إكراهات الواقع، وفعل الرغبة وميولها، بين العجز عن مواجهة الطبيعة، والشوق إلى القدرة أو الامتلاء بالمطلق؛ تتخذ ظاهرة المُخلّص بُعدها الوظيفي الحيوي في تأجيل مرارة الشعور بالفشل والإخفاق. هنا تسعى الثقافة إلى ملء الخواء بمادة يوتوبية. إنها تردم الهوّة الشاسعة التي تفصل بين خيبات الواقع والرغبة بأحلامها ونزواتها، وذلك باللجوء إلى عالم موازٍ ومتخيّل، تُسْقط عليه كلّ الرغبات المقموعة والمؤجلة. وبانعدام الفوارق بين العالم الواقعي وذلك العالم المفترض؛ تتلاشى المسافة الفاصلة بين تحديات الواقع واستيهاماتِ الثقافة. الواقع المتخيل يُغذّيه ويُعزّزه هذيانُ الثقافة، فيما تقوم الرغبة المؤجلة، باعتبارها تعويضاً ومعادلاً استيهاميّاً، بتكريس الواقع المستعار واللذة المصطنعة: ليست أكثر من وضعية مأزومة تكرّس ذاتها.

العجز، الألم، المأزق الوجودي الذي لا يحتمل، الرغبة المؤجلة، اللذة المصطنعة.. وغيرها هي التي تشكّل مجموع الانتكاسات التي تمرّ بها البنية الثقافية المسكونة بهاجس الخلاص، قبل أن تتآكل وتنهار داخلياً مادامت تفتقد الجرأة على مكاشفة الذات ومن ثم التغيير.

ينتج عن ذلك حدوث شرخ بينها وبين المنتمين إليها، فالثقافة التي تعجز عن تلبية حاجات الواقع تصبح بالضرورة عاجزة عن استيعاب أفراد الجماعة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يخلق أزمة هوية ملازمة عادة لكل ثقافة تعاني من ''الشيزوفرينيا''. وحيث إن ظاهرة المخلّص، بوصفها عنصراً رئيسياً، يساهم في تشكيل البنية القاعدية للثقافات الوسيطة؛ فإنها تتسم بثبات وتواشج، لكنها في الآن نفسه تتفاوت تبعاً لطبيعة الخصائص التاريخيّة، واختلاف السّياقات الاجتماعية، والأهم من ذلك هو مدى قابليتها على احتضان ملكة التفكير الحر، والموقف المعرفي المنفتح، وهذا يعني أن فكرة الخلاص ليست هي نفسها رغم كلّ التواشجات.

 

الخلاص في البوذيّة والهندوسيّة

فإذا كانت الحياة قَصاص، ونقمة، فإن الخلاص هو ''النيرفانا''، أي الانطفاء الكامل، وكسْر سلسلة التناسخات، كما هي في البوذية. ولكن هذا الانطفاء أو الموت الذي هو فناء كامل في الذات الكلية؛ ليس إلغاء للحياة، وإنما هو اندماج كلي في روح العالم. إن فكرة الخلاص كما هي في ''النيرفانا''، والتي هي في معناها المباشر: إيقاف ووضْع حدّ للرجوع الأبدي ضمن حيوات متعاقبة؛ تختلف عنها في الهندوسية، حيث النشاط الروحي يستهدف أساساً ترسيخ حقيقة التناسخ، ولكن للظفر بحياةٍ أفضل. وفيما تجنح البوذية لتجريد فكرة الخلاص لتغدو فناءاً كلياً؛ تتموضع الهندوسية في هذه الحياة نفسها لتجعلها ميداناً لتحقيق فكرة الخلاص، ولكننا إذا ما تأملنا في ثقافات خلاصيةٍ أخرى، كالأديان التوحيدية، سنجد تصوّراً مختلفاً تماماً. فلا يمكن النظر للخلاص هنا باعتباره شأناً واقعياً إلا إذا كان مسبوقا برؤية أنطولوجية تتيح إمكانية وجود ثقافة رؤيوية مستمدة من تأسيس أنطولوجي لعالم مواز هو ''عالم المثال''. الشيء المائز في هذا التصور هو أن للآخرة مفهوم مركزي متعالق مع فكرة الخلاص، وهو مغاير كليّاً للعالم الطبيعي رغم تداخله معه.

 

هنري كوربان والمهدي والمنتظر

تقترح الثقافات الوسيطة تراتبية وجودية تتصل بأدوات ثلاث: الحس، العقل، المثال أو الخيال. لكلّ هذه القنوات قيمة معرفية قادرة على تمثّل الواقع الموضوعي.

من هنا حاول المستشرق الفرنسي ''هنري كوربان'' الولوج في مقاربة فكرة المخلّص كما تتبدى في الفكر الشيعي، و''الغنوصي'' تحديداً، في عمله الذائع الصيت والذي يحمل عنوان: ''مشاهد روحية وفلسفية للإسلام في الإطار الإيراني''، وهو عمل جاء نتيجة معاينة مباشرة في زيارة ''حج'' كما يسميها تلميذه داريوش شايغان، هذه الرحلة التي جاب خلالها كوربان عالم الفلسفة والفكر الشيعي الإيراني، وتمخّضت عن قراءة واسعة لأهم اتجاهات الفكر العرفاني، وذلك اعتماداً على المنهج الظاهراتي ''الفينومنولوجي''، وهو المنهج الذي جعله يقرأ الظاهرة من الداخل، يتشرّبها ويهضمها جيداً، ثم يقوم بمعالجتها ضمن خطاب معرفي يدمج الظاهرة في بنيته، ويستوعبها ويتوسّل إليها بمفردات تنم عن حميمية خاصة، كأن يتحدث حولها وحول ممثليها بضمير المتكلم، وكأنه يحاول أن يؤكد انتسابه إليها عبر كلمات من قبيل: فلاسفتنا، أساتذتنا، فكرنا. هذا فضلا عن تضمين الخطاب لكلّ مفردات التبجيل الخاصة بالتشيع.

المستشرق كوربان وهو يعرض في البداية النصوص التي تؤرّخ لولادة المهدي المنتظر؛ يستدرك بملاحظة كاشفة حول المنهج الذي يقترحه للباحث في الفكر الديني، يقول: ''لا شك أن النصوص المؤثرة التي سردت لنا سيرة الإمام الثاني عشر، ومعها سرّ غيبته، لم تكن نصوصاً خاضعة للنقد التاريخي بالمعنى المألوف للكلمة، ولذلك شددنا على الطريق الظواهري كأفضل طريق يسلكه الباحث في العلوم الدينية لمقاربة موضوعه''.

 

التصّور الميتافيزيقي للمهدي المنتظر

ولكن هل يمكن أن يكتفي الباحث في الفكر الدّيني بالمنهج الظواهري لكي يتمكّن من تشكيل تصوّر علمي متماسك؟ هل يمكن اعتبار هذا الاستدراك بمثابة مناورة للهروب من أي انعكاسات أو نتائج غير مرغوب فيها للنقد التاريخي، وكل ذلك طبعاً باللجوء إلى الفينومينولوجيا تجنّباً لأي انهيارات محتملة لهذا النص أو ذاك؟ علاوة على ذلك، فإن كوربان كما يلوح لي؛ قد وقع في خطأ منهجي باعتماده على نصوص ومرويات ميثولوجية لا تحظى بقبول كافٍ في الخطاب الشّيعي الرسمي، ولكن كوربان أسس عليها تصوّره لفكرة المهدي المنتظر، خاصة تلك التي تتصل بسيرته كشخصية تاريخية متحققة كرونولوجيا.

اغلب هذه النصوص أخبار آحاد، الأمر الذي جعل أحد أقطاب التشيع، وهو الشيخ كاشف الغطاء، يُقلّل من أهميتها الدلالية، ويعتمد كلياً على الدليل العقلي دون النصي في إثبات ولادة المهدي المنتظر. وإذا كان كوربان يقوم بسرد هذه النصوص دون ممارسة تأويلية؛ فإنه يلجأ إلى تأويل نصوص أخرى ذات شحنة ميثولوجية عالية تتصل بالسيرة الزمنية للمهدي المنتظر، والتي يسميها ''زمن ما بين الأزمان''، معتمداً في ذلك على مرجعيةٍ محددة يعمّمها على التشيع كله، حيث يُحلّل كوربان الفكر الشيعي الباطني انطلاقا من الأنطولوجيا الإشراقية للسهروردي، لأنه يقرّ في نهاية المطاف باستحالة معالجة ظاهرة المخلّص في تمظهرها الشيعي دون افتراض ''ميتافيزقا'' للوجود تتخذ لها مستوى من الوجود يتوسّط عالم العقل الخالص وعالم الحواس'' كما يقول، والعالم الوسيط هذا هو نفسه عالم الملكوت كما يتبدّى للغنوص الشيعي، ولذلك فإن ''التفكير الأقصى للتشيع'' ليس سوى أخروي، انتظاريّ، وليس أحلام يقظة اجتماعية ولا سياسية كما يؤكّد.

- كاتب سعودي

في المثقف اليوم