قضايا وآراء

الاندماجية المعرفية للعولمة ضمن التعددية الثقافية

 القائمة على البعد الأكثر ملائمة للوجود الكوني لتعميق التواصل بين الثقافات والحضارات المتنوعة، ولا بد في هذا المجال من حدوث اختراق  يقوم على تعبئة كافة الثغرات داخل البنية الأساسية للوجود الكوني، فعالم اليوم يحتاج أكثر من أي وقت مضى لحل جميع الإشكالات المعيقة للتفاعل بين المظاهر التعددية للمعارف والثقافات البشرية، لأن جميع الحواجز القائمة في هذا العالم  يمكن إلغائها ما دامت لا تؤثر على البنية الثقافية والأخلاقية وطبيعة الإنتماء إلى الأصول التاريخية، ولم يزل الوهم العميق متأصلاً في بنية النفس البشرية بأن عولمة العالم يقتضي إلغاء كل الثقافات النابعة من مظاهر خصوصية لهل جذور ممتدة إلى عمق التاريخ بمعنى السعي الدائم لإلغاء الخصوصية التاريخية للشعوب بكل انتماءاتها العقائدية والعقيدية، لأن التواصل القاصر عن فهم الحقائق بتجلياتها الإنسانية يؤدي إلى الفهم القاصر للوعي المعمم عليه بأن العولمة ستلغي كل الخصائص البنيوية للوجود التاريخي وإحداث نمط ثقافي ارتجالي فوقي يقوم على التعبئة المعرفية الضاغطة من فوق وتدمير كامل الوعي المتشكل من تاريخ الوعي الإنساني، غير أن هذا الافتراض واهم وينتمي إلى الوهمية المطلقة، لأن تشكيل العقل الكوني لا يمكن أن يتم بدون إطار كوني، لأن الوعي مهما تكن طبيعته لا يمكن أن يكون قادماً إلا من أجل الوجود في طبيعته الإنسانية، ولا يستطيع أي فكر أو ثقافة أو معرفة الدخول إلى الواقع بدون أن تكون قد تأصلت في ذاته فالوعي لا يأتي إلا من الضرورة والحرية .

من هنا يجب أن نفكر ملياً فيما يجري على هذا الكون من تغيرات متأصلة في ذاته، فالوعي لا يمكن أن يكون وعياً دون مقدرتنا على استيعابه وفهم ومحتواه، فالتلازم بين ظهور الوعي وقدرة العقل البشري على وعيه قضية متأصلة في هذا الكون ومتطابقة مع التطور وظهور حاجات هذا التطور . فالعقل يتوافق دائماً مع وعيه الناشئ في ذات العالم وكل التغيرات مرتبطة بنظام الوجود المحكم، لأن فهم الوعي المطابق لنظام التطور قضية  متأصلة في الوجود، فالمصالح لا تستطيع أن تعمم غير المصالح والمجتمع الصناعي لا يستطيع أن يعمم غير مصادر إنتاجه وفي مقدمتها السلعة وما دام المجتمع الصناعي قد وصل إلى تعميم السلعة منذ زمن بعيد فلماذا الخوف إذاً، وإذا كان الثراء النقدي هو الغاية الأساسية لفتح الأسواق العالمية وتشكيل الطغمة المالية، فإن رأس المال العالمي يدور ليخرج من بنوك الدول الصناعية الكبرى دون الحاجة لفتح الأسواق وهجوم السلعة الكثيف .

فالعالم في وجوده لديه كامل القدرة على صناعة وجوده، لأن الواقع الإجمالي للتكوين البشري بكل ما فيه وما عليه ينخرط في مسار بنية العالم المتشكل وفق الأساس الجديد . إن إحداث أنماط جديدة من العلاقات والتفاعلات والتبادلات وكافة أنماط الشبكات القائمة على تفعيل الوجود الكوني يؤدي إلى تعميق جميع البنى المكونة له، إنها لا تمثل إلغاءً ولا طغيان ما دامت في طبيعتها على إخراج الوعي من وجوده القائم إلى وجوده الكوني، وبالتالي فإن الوعي يصبح أكثر تنوعاً وأكثر قدرة على العبور ليظهر التنوع والتماثل في بنية الوعي الكوني، وبالتالي فإن الأفكار والثقافات تستطيع أن تعبر عن نفسها بحرية أكثر من إطارها المغلق  أو مجالها المحدد داخل المنظومة البشرية التي تعيشها، فتخرج من إطارها القومي إلى الواقع الكوني بعمق أكبر وأكثر قدرة على التفاعل، إن الطبيعة الفكرية للوجود الإنساني قادرة على التعمق والاستيعاب المتواصل لكافة المجريات الكونية وكل الأفكار السائدة فيه، فالنزوع الدائم نحو المعرفة المجردة وما بعد المجردة وحتى المعرفة من خارج الوجود هي ملامح جوهرية في بنية العقل و أساس التوجهات المستمرة للعقل البشري، إن كافة البنى العقلية الحاوية مفاهيم أصولية متوهمة تماماً بأن الانطلاق نحو الوعي الكوني سيؤدي إلى اقتلاعها من جذورها، ويكون الوهم أعمق عندما تعتقد بأن العولمة هي عملية اجتياح منظم يتجه لإلغاء كامل المسار التاريخي لوجودها الواعي، فالوعي الأصولي وعي قائم على المجازفة الفكرية والإقحام المباشر وغير المباشر للعقول في خضم وعيه، لأن الوعي الأصولي مدرك أن وعيه غير معمق في بنية الوعي البشري ضمن إطار الانتماء له، بمعنى أن الوعي الأصولي هو وعي سطحي قائم شكلياً على ممارسة الطقوس والعبادات في إطارها الشكلي، وعندما يتم الانخراط ضمن الوعي الكوني فإن مثل هذه الطقوس سوف تذهب ويذهب معها العقل المعبر عن وجودها، فهذا الوعي من التفاعل مع البنية الكلية للوجود والوعي ضمن إطار كوني هو مجرد وهم تدعمه قوى معادية للفكر الأصولي في إطاره التاريخي، لأن الوعي الأصولي يستطيع أن يعبر عن ماهية وجوده في إطار كوني بشكل أعمق ويكون قادراً على العبور العميق بمفاهيم تفوق الوصف لأن ماهية التشكيل المعرفي في بنيته قائمة على عطاءات شديدة المغزى بالنسبة إلى الوجود الكوني .

فالبنية المعرفية للإسلام أعمق مما يتصوره كافة المسلمون وأعمق من تصور القائمين على حمايته فالفكر الإسلامي يحمل في مفاهيمه قضايا تهم الوجود بالكامل وعندما يحين الزمن القادر على وضع النظام الكوني موضع التنفيذ سيكون عندها الدين الإسلامي قد اصبح ديناً كونياً في الوجود .

وتكون الأديان جميعاً قد دخلت في نظام من الترابط المحكم لدرجة عدم القدرة على التفريق بين بنية المكونات الدينية الداخلة في نظام العقيدة الفردية، وبالتالي فإن الوجود الإنساني بكل كناياته القائمة سيكون منتمياً إلى الإسلام وإلى المسيحية واليهودية والبوذية وغيرها من العقائد القائمة في الوجود الإنساني بنفس الدرجة من الإحساس .

فالوجود المنغلق للأفكار والعقائد كثيراً ما يخفي وراءه مصالح أنانية لأن التعبئة الفكرية في إطارها المنكمش والمغلق تعبر عن وجود عدواني قائم بذاته غايته إحلال وجود قاهر ومانع لكل توق إنساني يميل نحو الانفتاح .

فالعلاقة بين الكائن وأصوله المرجعية قد لا تتفق مع البنية المتغيرة في الكون، وبالتالي فإن الوعي الكوني يظهر في غايته وكأنه معادي لوجوده في الصميم، ويظهر الوعي الكوني وكأنه يريد سحب الوعي المنغلق من جذوره بشكل يؤدي إلى تفجير الطاقة المؤكدة على الذات، لأن وعيها غير قائم على المصداقية في علاقتها مع المنظومة المعرفية الداخلة في مجرياتها ولأن الارتباط بين الوعي الأصولي والوعي الكوني مبني على التنافر الشخصي بشكل يخالف نظام الوعي في سياق تاريخي، فالعقائد تحمل في محتواها إطارها الكوني القابل للتوسع من خلال المتغيرات الجارية على العقل الإنساني ضمن الإطار الكوني، فالوعي الكوني هو وعي منفتح على الكون وبالتالي جميع الواردات المعرفية ونظام العقائد وكل المفاهيم تدخل في إطار وعيه لها لأنها تمثل الوجود الجماعي للبشر في إطار كوني، وبالتالي تصبح الخصوصية المحلية قضية مفتوحة على الوجود بعمق يوازي الوجود نفسه، فلا شيء يذهب هدراً في منظومة البنى الكونية، لأن المسألة غير محصورة بأفراد أو دول بل خاصية من خصائص الوجود الكوني نظراً للترابط بين ما يجري في أماكن محدودة وما يجري في العالم أجمع، لأن التلازم بين ما يجري بشكل محلي وما يجري في النظام الكوني له جذور عميقة في التاريخ الإنساني . فالعالم في وجوده الكوني عالم دائم الوجود غير أن نمو الصناعة ونشوء الأنظمة الرأسمالية غيرت طبيعة النظام  الكوني إلى نظام من الدول والقوميات المغلقة بما يؤدي إلى تعميم نفوذها بما يغاير الطبيعية الأصلية للوجود .

فالانغلاق القومي والمفاهيم الدالة على الانغلاق تعززت بعد نشوء المفاهيم الاستعمارية وبالتالي فإن التطور الباهر في مجال العلوم والتكنولوجيا وأجهزة الدمج الكوني تسعى لإرجاع الوجود الإنساني إلى ماهية الطبيعية . فالمجال الكوني لا ينمو وفق اتجاه واحد لأن توسيع النظام العالمي من الناحيتين السياسية والاقتصادية ينطوي في جوهره على المشاركة الوجدانية الفاعلة لكل المشاركين على الساحة الكونية، وفقاً لمقدمات وأسس واحدة، ولأن الطغيان في السياسة الدولية يعمق الانغلاق على الذات ويجعل العالم غير مستقر بناء على الأسس الموضوعية لوجوده، كما أن الوجود الفردي المستفرد في بنيته الذاتية والمغلقة يمكن أن تؤدي إلى وجود كارثة، فأي وجود منفرد في طاقاته المادية والعقلية وخصوصيته أو صناعته الداخلية يخلق نمو تضخمي لزوائد مرضية ضمن بنية الوجود الكوني، بما يؤدي إلى الخوف من تحمل أعبائها، ويتجه الواقع الكوني نحو القيام بأعمال جراحية لإصلاح أوضاعه الكونية، وكأن الكونية تجعل من التوازن قانونها الأساسي .

فالقضية الملفتة للانتباه في العصر الحديث تكمن في التطور المتزايد للرأسمالية العالمية وتعقد بينتها  الداخلية وتوسع أسواقها خارج حدودها القومية أوجد الفرصة المناسبة لتشكل الدول القومية وتزايد انغلاقها على الذات كلما تزايد النمو الرأسمالي وتضخمت مصادره الإنتاجية، وكلما تبلورت الثقافة السياسية الكونية، تتعمق معها المشاركة الفعلية لمجمل الثقافات القومية و المحلية في إنتاج وتعميق الثقافة الكونية والمشاركة في تأمين التعريفات والميزات الخاصة بالوضع الكوني .

فقد نمت في العالم علاقات متبادلة بين التطورات الثقافية وأنماط التوسع خارج الحدود  القومية للرأسمالية وبين الاستقطاب والاحتواء لأنظمة الدول القومية وبين إعادة العلاقة نحو التكامل والتفاعل من خلال فعاليات وعلاقات مشتركة بين الدول . فالعمق الدال على الوحدة الكونية يعزز القدرة الضمنية لنشاط الدفع الذاتي نحو الارتباط بالواقع الكوني على أنه برنامج عميق المدلول يدخل في نظامه التنوع الفريد للثقافات الكونية، لأن العمق التواصلي بين الحضارات المختلفة قائم على التوازن في خلق ظروف قادرة على الإحاطة بجميع مجريات الأحداث وكل التفاصيل الكونية انطلاقاً من تعميق الثقافة المحلية القادرة على الصمود أمام التحديات الراهنة .

وبالنظر للمجتمع العام الكوني على أنه نظام من الدول يسير نحو حكم كوني تترابط فيه الوحدات الإدارية للدول المستقلة والمرتبطة ارتباطاً عضوياً في هذا النظام، بشكل يجيز استقلال هذه الدول بما في ذلك احتكارها للقوة وبالتالي تنامي قدرتها على تدمير الجنس البشري، عندها سيكون النظام الدولي في موضع شك من قدرته على تحقيق الضمان الكوني، لأن الظروف السائدة في النشاط الدولي يجب أن تبتعد عن الاحتكار وإلغاء جميع القوى القاهرة في الكون، لتحقيق نظام متعايش في إطار كوني بعيد كل البعد عن كل عمليات التهديد القابلة لأن تكون معززة بالقدرة على الإبادة، فالوجود الكوني عليه أن يرفع من وجوده كل العقول القائمة على السيطرة لكي يتأمن وضع مناسب لنمو العلاقات الحرة ضمن الوجود الكوني .

" وعندما تنظر بعض الحركات إلى المجتمع الكوني على أنه القهر العام المفروض على أية حياة فردية أو جمعية أصيلة والتهديد العام للجنس البشري يمكن أن تتحول هذه الجماعات إلى مقاومة مثل هذه النظام " .

مخطئ من يظن بأن النظام العالمي والوحدة الكونية للعنصر البشري المتفاعل معه هو من إنتاج قوى كبرى، لأن التوق إلى الوجود الإنساني العام في جوهره المنتمي إلى الوجود الكوني هو من مفاهيم جماعات صغيرة ومتعددة منتشرة ضمن الوجود البشري، ترفع مغزى الحقيقة المرافقة لعلاقات قائمة على المستوى الكوني، ولأن الوعي الكوني يخرج دائماً من عمق بنية فاعلة وطموحه ترى في الوجود الكوني ضالتها الكبرى .

إذا كان للعولمة مجال الوجود القائم على التنوع المعرفي والثقافي فإنها في طبيعة الأمر ستنطلق من هذا التنوع الثقافي والفكري، تعزز مواقعها بشكل مؤكد في النظام الكوني، لأن الوجود الإنساني يكون عندها هو التمازج الكلي لكل الثقافات .

من خلال توسيع الارتباط بين العناصر المختلفة في الكون يتعمق التواجد المرافق لقدرة العالم على إحداث أنماط متماسكة من التوازن والتفاعل القائم على المتغيرات الجارية في نظامه، وتعميق التواجد  المرافق لقدرة العالم على إحداث أنماط متماسكة من التوازن  والتفاعل القائم على المتغيرات الجارية في نظامه، وتعميق البنى البشرية المتوافقة مع الالتزام بالمبادئ الكونية، لأن العلاقة القائمة بين الوجود المتمثل بطاقات الوجود المادية تندمج مع الفعالية الاجتماعية الثقافية المنطلقة من تغيير بنية المدلولات المتعاقبة مع تطور البنى البشرية، فالواقع العام يتحد في نظام منفتح على الوجود جميع المعايير والقيم والثقافات تدخل في نظام من العلاقات الارتباطية والترابطية تعمق بنية العقل البشري وتجعله أكثر مقدرة على الاستيعاب . لأن تماثل الكون في ذاته يعمق جميع البنى الفاعلة فيه وتبدأ أولويات مهمة في تعميم البناء التعليمي والقدرة على إنتاج الإنسان الموسع القادر على الإحاطة بكل المجريات الحاصلة في النظام الكوني . عندها لن يكون هناك أي معنى للإنغلاق الثقافي والعقائدي لأن كل ثقافة في هذا الوجود تكون قد أصبحت ثقافة كونية وكل معرفة هي معرفة كونية، وكل عمل إنساني يأخذ أبعاده ضمن المجرى الكوني، لأن التواصل و الاتصال في نظام العالم يلغي الفوارق الخاصة بالتمايزات المجتمعية بحيث يتقارب الوعي البشري ويتداخل ضمن نظام

 من التفاعلات الكونية، على أساس أن الكون وحدة متكاملة ومترابطة في كل مناحي وأساليب الحياة على وجه الأرض .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1137  الاربعاء 12/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم