قضايا وآراء

سلام نوري ومشكلات النقد الأدبي المطلوب

ورشة نقدية لاضاءة النصوص الابداعية في النور

وبسبب انشغالات خاصة لم أستطع في آنها أن أُعلّق على الموضوع المطروح في مستطيل التعليقات الذي لا يسع مثل هذه المداخلة والتي قد تكون مطوّلة على مساحة التعليقات.

- (النقد يكتبه فقط ذلك الذي يشعر بأهمية الحاضر) ... (غوته)

- (لا يليق بالمُثقّف إلا أن يكون ناقداً) ... (سارتر)

عرف تاريخ النقد العربي جملةً من النقاد من ذوي الملكات النقدية المتميزة تارةً بالاعتدال، وتارةً بالتطرّف، وقد أفسح هذا مجالاً خصباً للاختلاف فيما بينهم وقد يتّسع هذا الخلاف حول الأثر الأدبي فيرفع أحدهم من قدره ويحط آخر منه، وكثيراً ما ردّ هذا الخلاف المراوح بين التطرّف والاعتدال، إلى أمورٍ تقتضيها طبيعة الممارسة النقدية في حد ذاتها، وأنه – بالتالي – يُعتبر علامة صحية لإثراء العمل الأدبي المنقود، والكشف عن ميزاته الخفية، غير أن مثل هذا التبرير لم يكن مقبولاً في كل الأوقات، ذلك أن الذين يقفون خلف العملية النقدية لا يُمكن الاطمئنان إلى أنهم ينطلقون دائماً من أسباب موضوعية، فهناك إلى جانب – المفارقات التي يتصفون بها في التذوّق والمزاج، والثقافة – الأسباب الأخرى التي تتصل بذلك التنافر الحاصل بين الناقد والمنقود، وهي كثيرة لكن أبغضها إلى النفس ما يتّصل منها بالأسباب الشخصية البحتة:

فهذا ابن الأنباري يحمل حملةً شعواء على الحسن بن هانئ الذي رأى في شعره خطراً على الأخلاق، منبهاً (في لهجة لا تخلو من غلو المتزمت) إلى وجوب تجنّب تداول أشعاره بل لقد قال بالحرف الواحد (فكان حق شعر هذا الخليع ألا يتلقاه الناس بألسنتهم، ولا يدونونه في كتبهم ولا يحمله متقدمهم إلى متأخرهم).

وعلى الرغم من أننا لا ننفي على أشعار ابن هانئ ما يتصف به من بعض ما وسمه به ابن الأنباري فإنه مع ذلك يبقى من الصعب أن ننفي عن أشعاره مزاياها كشعر أو نسقط منها جمالياتها الفنية بطريقة حاقدة مغرضة، فهذا الشاعر الذي لم ير فيه ابن الأنباري إلا الخلاعة والمروق عن الأخلاق يجد في عصره ومن غير عصره – من ينصفه، ويعترف بقدره وبقدمه على بعض الشعراء، ولا يبخلون عليه بلقب متنبي المغرب العربي؟!.

وليس أدلّ على أهميته كشاعر من أن المعز لدين الله الفاطمي عندما بلغه خبر وفاته (في عام 362 هجرية عندما كان في طريقه إلى القاهرة) حزن عليه كثيراً وقال:

- لا حول ولا قوة إلا بالله هذا الرجل كنا نرجوا أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يُقدّر لنا؟!

وهذا الشاعر أبو الطيب المتنبي يُثير قدراً كبيراً من الخصومات النقدية من حوله، وقد (افتتح ابن عباد تلك الحملة الشعواء على الشاعر الذي رفض أن يمدحه بكتاب نقدي: (الكشف عن مساوئ شعر المتنبي) ثم استغل نفوذه في أوساط الأدباء والمثقفين لحملهم على تأييده فيما ذهب إليه من انتقادات وهجومات لا هم لها سوى تسقّط المثالب؟!.

وقد واصل (الحاتمي) و (ابن وكيع) حملتهما النقدية على المتنبي (وكلاهما وطّد العزم على إسقاطه)، وإذا كانت رسالة ابن عباد تتوخى النقص من شاعريته على العموم، فإن الجماعي وابن وكيع – على اختلاف منهجهما النقدي كانا يُسلّطان الضوء على ما دعوه (سرقات) ولم يكن اهتمامهما بهذا الجانب من أشعار المتنبي إلا لكون المجال متاحاً عادةً لتصيّد المتشابه مع أشعار الأسلاف والمعاصرين فيما يُمكن أن يُصنّف تحت باب توارد الخواطر، وهي كثيرة الحدوث بين عموم الشعراء؟!.

وكما ينطلق النقد من منظور حاقد غاضب يستهدف بالدرجة الأولى التحطيم والهدم كما رأينا فيما سبق من موقف كلٍ من ابن عباد والحمائمي وابن وكيع – فإن النقد قد ينطلق من منظور عاطفي يتحكّم فيه المزاج الشخصي المتقلّب بين المودة والبغض، والمحبة والكراهية، ونجد لهذا النوع من النقد مثالاً في تاريخ النقد العربي (بل أمثلة كثيرة) فهذا ابن الخطيب (يكيل الثناء إلى ابن بلده، وصديقه ببلاط الحمراء (الحسن بن عبد الله بن الحسن النباهي) صاحب المؤلف الشهير تاريخ قضاة الأندلس ثناءً كاد يكون إطراء بل روى نماذج خافية من شعره، ونثره الفني، ولكن يظهر أن العلائق ما لبثت أن توتّرت بين الرجلين، وعندما ألف ابن الخطيب كتابه (أعمال الأعلام) لم يتحاشى هجو صديقه القديم هجاءً لا اقتصاد فيه، وبلغ به الأمر إلى أن يُلقّبه مزدرياً بـ(الجعوس) (أي القصير) وهو لقبٌ كان بلا شك يُطلق عليه في الأوساط الثقافية الغرناطية هزءاً بقصر قامته.

ولو شئنا لأوردنا هنا الكثير من الأمثلة الدالة على تهافت النقد والنقاد في العصر القديم، ولكننا نكتفي بإيراد الأمثلة القليلة السابقة كمقدمة تُفضي بنا إلى ما يتصل بهذه الناحية فيما يتصل بالنقد والنقاد في عصرنا هذا، ولعلّ أطرف ما يلتصق بالذاكرة قصة ذلك الصحفي الذي أراد أن يُدلّل على مدى تجديف النقد والنقاد فوضع أمامهم نصاً مسرحياً غفلاً من الإمضاء بعنوان (الهواء الأسود) نهج في كتابته على أسلوب أدب اللامعقول (الذي كثر الحديث عنه خلال الستينات، وكان مثار اهتمام الأدباء والنقاد على كافة المستويات)، وقام بإجراء استفتاء حول من يُمكن أن يكون كاتب ذلك النص؟ شارك فيه كبار أساتذة النقد الأدبي في مصر، وكانت تخميناتهم تُشير في غير تحفّظ إلى أن كاتب النص أجنبي وكانت إشاراتهم تتأرجح بين (بوجين يونسكو) و (صمويل بكيت) على الخصوص وطبعاً فقد سفّه ذلك الكاتب الصحفي دعواهم، ورماهم بما أسماه (عقدة الخواجة) بعد أن أكّد لهم بأنه هو المعني بكتابة ذلك النص.

إن تهافت النقد والنقاد لا يُمكن اختصاره في مثل هذه الحادثة، ففي تاريخ النقد الأدبي الحديث أمثلة كثيرة لا يُمكن حصرها في مقالٍ قصير كهذا المقال، غير أن أقرب ما اطلعنا عليه في هذا الباب ما نشرته إحدى المجلات العربية من نقدٍ لديوان صدر حديثاً بعنوان (مسافر إلى الأبد) الشاعر اسمه فتحي سعيد، فقد عرضت المجلة هذا الديوان على ناقدين أحدهما من سوريا، والثاني من مصر، وكانت المفاجأة عندما رفع أحدهما هذا الديوان إلى عنان السماء وحطّه الثاني إلى قرار الأرض، وهذا التناقض الحاد الذي يذهب بأحدهما إلى الشرق، ويذهب بالثاني إلى أقصى الغرب – حسب تعبير المجلة – كان باعثاً على أكثر من سؤال إلا أن سؤالاً واحداً هو أكثر هذه الأسئلة إلحاحاً على الجواب، لماذا هذا الاختلاف البيّن على هذا العمل الأدبي؟

فعلى الرغم من أن الناقدين الذين تفحصا هذا العمل الأدبي كانا متقاربين أو يكادان يتقاربان في الثقافة وفي العمر، وفي مجال الفن الذي يُمارسه كلٌ منهما وهو الشعر، إلا أن الرأي شاء أن يكون مختلفاً بينهما في الوقوف على حد هذا العمل الأدبي، فالأول: وهو أنس داود يتّهم الشاعر بالثرثرة، والتعبير المباشر، وعشوائية البناء، مؤكداً أدلته على ذلك بالحجة الدامغة ثم يخلص بعد ذلك إلى القول: بأن قصائد الديوان في جملتها متراكماً يفتقر إلى التكثيف، والتصوّر، والبناء يُقابلها عددٌ قليل من القصائد الجيدة.

أما زكي قنصل فنراه يبدأ منذ البداية بإكالة المديح لهذا المديح، ويستهل مثاله النقدي قائلاً: (أراني مسوقاً إلى قول كلمة في هذه المجموعة الشعرية لصاحبها فتحي سعيد لأنها تضم بين دفتيها شعراً أصيلاً جميلاً أصبحنا نفتقده في هذه الأيام ونبحث عنه في الصحف، والمجلات، وفي المكاتب، ودور النشر، فلا نقع إلا على الغث الرديء الذي يُفسد الإحساس، ويُزهق الأنفاس ويجني على النواظر)؟!.

ثم يتفرّغ الناقد بعد هذه المقدمة إلى تبيان أوجه الأصالة، والجمال ارتآها في قصائد الديوان، ونخصّ هنا في جملة من الملاحظات منها: حاسة فنية مرهفة، وأداة لغوية غزيرة المنابع، وخصب الجمال، وعدم التقعّر في اللفظ، فضلاً عن الوضوح وعدم السقوط في ضبابية الأحاجي!.

ولا يُرسل هذا الناقد الكلام على عواهنه بل يُقيمه على أدلة تؤكد صحة ما يذهب إليه من مديح وثناء أحاط به هذا الديوان كما يُحيط الغار برأس إمبراطور قديم فاز جيشه بالنصر المؤزر؟!

إن للمرء أن يقول بأن الاختلاف في وجهة النظر حول المسائل الإبداعية كثيراً ما يقع في الجزئيات أما أن يرفع أحدنا عملاً إلى عنان السماء، ويحطّه الآخر إلى قرار الأرض فهذا من الأمور الباعثة على التأمل حقاً؟ وعلى الرغم من أن الموقع الذي نكتب فيه قد ارتأى رأياً يُهوّن من طبيعة هذا الاختلاف حول العمل المنقود، وقال بعض كُتّابه: بأنّه يُعدّ علامة من علامات التفرّد ودليلاً على التميّز ذلك أن الإجماع: يقول الموقع الذي نكتب فيه في استحسان أي عمل إبداعي هو دليل توسّطه، وقد يُعدّ هذا الرأي مُقنعاً عندما يكون ذلك الاختلاف على العمل المنقود داخل النطاق الضيّق، أما وأن يكون على هذا النحو من الاتساع فإنه لا مندوحة للرائي أن يرى: اهتزاز القيم الفنّية، وتذبذب الذوق وربما أيضاً فساداً يصل إلى غياب الوازع الضميري وانتفاء المصداقية النقدية عن بعض من يقتحمون ميدان النقد الأدبي بأقلامهم العتيدة؟!.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1138  الخميس 13/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم