قضايا وآراء

الانتقائية والتحايلات الثقافوية والسياسوية (1)

 

توطئة

ان عملية تجميع وتطويروسد النواقص والذرائع، ومحاولة الربط بين المدارس، تجدها عند أتباع المدرسة الواحدة، والتيارالواحد، والفكرالواحد، أكثرمنها تجميعا لعدة مدارس فى نظرة واحدة، وهو ما يطلق عليه اصطلاحا بالمذهب الانتقائي

 

وما من شك فى أن الانتقائية، هي الاتجاه الأغلب في مناهج العلوم الانسانية، وخاصة في الفلسفة وعلم النفس والسياسية والاجتماع والانثرولوجيا بفروعها، والفقه المقارن،

 

وتتخذ أيضا أشكالا وتلونات في السياسة، والثقافة والعقائد، والمذاهب الدينية، فتقترب من التوفيقية (كعملية صهر وبناء جديد نادرة) وقد تنحومنحى ذى نزعة تخفيضية (1)Réductionisme، فتكون بذلك أقرب الى التلفيق أوالتشويش، عند الميل الى ممارسة التأويل التعسفي للنص، أوالحقيقة، أوالمعلومة، أولأي نهج فكري كيفما كان(عقائديا أوفلسفيا، أو سياسا أوفكريا) بتحميل النص أوالفكرة، أكثرمما يحتمل، فيحدث كما قال بحق الفيلسوف بركلي نثيرالغبار بأيدينا وأرجلنا ثم نشكومن عدم الرؤية، مما يخلق البلبلة والتشويش، ثم السقوط في التفريعات التي تتضخم على حساب الأصول، فتكثرالقراءات، وما ينتج عنها من خلاف واختلاف، وصولا الى الشطط، فالفتنة

 

فما هى الانتقائية؟

 

 ان الانتقائية ?clectisme حسب معناها الايتيمولوجى، جاءت من الكلمة اللاتينية eklegein التي تعني اختار : choisirأواختيار، ومعناها الاصطلاحي، هوالبحث في كل الموضوعات والنظريات، والأطروحات قصد التوصول الى أفضل مافيها

 

وبتطبيقها على الفلسفة تأتي بمعنى ذلك الاجراء الفلسفي، الذي يقوم به العقل، لاختيارمن بين كل أنساق النظم الفلسفية، تلك العناصرالتي تبدوأكثر أهمية، لتركيب نظام أكثر تكاملا، وهنا يسميها البعض ب التركيبية،

 

 ومن حيث هي منهج :فالانتقائية تعني : تخيرالأفكار الصائبة أو الواضحة من المذاهب المختلفة، اذا اعتبرت هذه الأفكار قابلة للجمع، واهمال ما لا يمكن جمعه

 ومن حيث هي مذهب: فالانتقائية يراد بها معنيين:

 الاول: تحقيري، وهو المنحى الغالب في الاستعمال الشائع للمصطلح،

والثاني : بمعنى صهرالمذاهب المختلفة ببعضها، وهو المعنى الأقل تداولا(وان كان هو الأصل)فيطلق عليها البعض ب الانتقائية الخلاقة L’Electisme créateur

 

وهذا يعني- حسب ما أوردناه-، أنها ليست مدرسة واضحة المعالم، وليست نظرية محدودة الافتراضات والمناهج، وليست فلسفة خاصة ذات نسق فكري واضح، أوذات نهج واتجاه...، فهي نتاج المدارس والنظريات والفلسفات الأخرى، وقد نجد فيها كل المدارس والنظريات والأنساق الفكرية المتعارضة، أو بعضها، أومعظمها، ولعل من خصائصها ومميزاتها هوانعدام صفاتهاالخاصة، والمنهاج الخاص، والنظرية الخاصة.

 

وقد اكتسبت- للغرابة - بهذه السلبيات، صفة ايجابية، جعلت الكثيرمن المفكرين (من فلاسفة، وفقهاء وسياسيين، وعلماء أناسة، وأخلاقيين، ولاهوتيين، وفنانين...،) يعتبرونها مدرسة، أو مذهباأو فلسفة مستقلة، ...فاكتسبت بذلك المزيد من الأنصاربالنظرالى مطاطيتها ومرونتها وقابليتها للاتساع أوالاقناع، وبالتالي اتسع استعمالها في نطاق أوسع خاصة في مجالات التحايلات الفكرية والفلسفية والعقائدية والثقافية

 

مراحل تطور المصطلح

وقد صاحبت الانتقائية فى تاريخها الطويل منذ نشأتها الفلسفة واللاهوت، حيث كان لها الحضورالأقوى في أفكارفيلسوف روما وخطيبها المفوه شيشرون Cicéron فى أكثر مراحل الفكر الهيليني-الروماني اضطرابا وخلطا وتخبطا الرومانية، تلك الفترة التي اتسمت بهيمنة ذلك الخليط المتناقض، من الأفلاطونية الحديثة، والفيثاغورية، وغنوصيات الشرق، من زرادشية ومانوية، وكونفوشيوسية وبوذية وغيرها، التي حاولت أن تمتصها الهيرمونوتيكية (2)Hermétisme( وخاصة التوراتية-التلمودية )، التي أخذت علىعاتقها تبني ابتداع منهج التأويلات الرمزية الاستسرارية للانجيل، تمهيدا لبروزمذهب القبالة اليهودية الخفائي بهدف مهادنة الفلسفة الاغريقية من جهة، ولتطويعها للأغراض والأهداف التلمودية الخفية من جهة أخرى، بل ولاحتواء المسيحية كلية، كما تبين لاحقا عبرالتاريخ فى ظهورالبروتستانتية (كاعادة قراءة تدعي عقلنة الدين المسيحي ولكن بمنظور تلمودي)و الذي تلاه من ظهورالتجمعات الدينية السرية المغلقة، مثل المحافل الماسونية المتنوعة(فى الغرب والشرق)والقراءات التحريفية للمسيحية، وتغلغلها في الاتجاهات الفلسفية الغربية –عقلانية اولاعقلانية، -وهذا ما ميز مدرسة الأسكندرية الفلسفية التى وضعت اللمسات الأخيرة فى تلاقيها، ثم تعميق تقاطعها، بل وصراعها مع الكاثوليكية الغربية البيزانطية-بالتحديد-،

 

ثم أخذت الانتقائية مسارها ما قبل الأخيربعدا آخرعلى يد الألمانى لايبنتز الفيلسوف اليهودي 'اللاهوتي والرياضي والفيزيائي والفلكي) الذى حاول التوفيق بين أفلاطون و أرسطو (الفيلسوفان اليونانيان الألهيان، وبين (ديكارت الفرنسي)، و(جون لوك الانجليزي).... الفيلسوفان المعاصران الدوغماتيان.. وخلطها بالاشارات الاستسرائية اليهودية.

 

ستقر المذهب الانتقائي أخيرا-بعد مروره بالمراحل التي سقتها سابقا- في القرن التاسع عش – زمن عمالقة الفكرالغربي في القرن الأكثراصطخابا بالفلسفات المتناقضة - على يد الفيلسوف الفرنسي والأديب فيكتوركوزان Victor Cousin الذي حاول التوفيق بين الاتجاهات الأكثردوغماتية، والأكثرمثالية، حيث وفق في محاولة الجمع بين كل من أفلاطون، كانط، فخته، شلنغ، هيغل، وديكارت، في نسق واحد، وبذلك أخذت الانتقائية مع كوزان، نهاية مطافها، بعدأن استفاد من تنقلاته المتكررة بين فرنسا وألمانيا، ومغتنيا من لقاءاته ومحاوراته الثرية بين أقطاب الفلسفة زمنها مثل هيغل،

 

 ولقداشتهركوزان بكتاباته وخطاباته النارية واللسنة-وهنا وجه الشبه بينه وبين شيشرون خطيب وفيلسوف روما المفوه-ضد خصومه العتاة من الملكيين ومنظري الثيولوجيا الكنيسة، ومعارضي البونابارتية، وكل التيارات المعادية للثورة الفرنسية، فأصبحت الانتقائية-على يده مدرسة وأسلوبا خاصا في الفلسفة والتفكير، لها ما يميزها عن بقية المدارس الأخرى،

 

ولما كانت الانتقائية تستمد أصولها من غيرها، وتمتد جذورهاالى تربة ليست لها، فهي مع ذلك ما زالت غضة طرية وأقصرعمرا في مجالات تطبيقاتها، الاأنها لم تنتظرطويلا، اذانتقلت الى كل النظريات الفلسفية العقلية واللاعقلانية، حيث أصبحت لازمة لازالة الغموض عن تلك النظريات التي تتسابق للبرهنة على صحة منهجها، ودحض ما عداها، ومتبارية فيما بينها لنيل الحظوة لدىالعقل الديايكتيكي، حيث تبنتها كل العلوم الانسانية، كمقاربات تدرس مجتمعة-سلوك الانسان فىاطارثقافته، وبيئته، وجماعته، وتفاعلاته مع الأغياروالأضداد، حيث انفردت كل نظرية بمنطقها وأدلتها، واثباتات صحة ادعاءاتها، فكان لكل هذه الاتجاهات روادها وتلامذتها، وكانوا أشداء مع معارضيهم، رحماء مع مريديهم، يبحثون وينقبون ويحاجون، ويستكشفون مجاهيل وغوامض ما استلغزعليهم، ديدنهم الحماس، وعدم الالتفات الى الآخرين، وحلمهم الأكبر–في مجالات اختصاصاتهم- تبني تلك النظرة الشاملة، التى تقتضي ايجاد علاقات وصل بين اختلاف الطروحات والفرضيات، ونقاط التجانس والالتقاء، باعتبارأن كل النظريات لها أدلتها ووجهات نظرها السليمة والمعقولة بالنسبة اليها، فكان هدف الانتقائية في الأصل-بهذا المنظور، هو التوصل الى الحلم الأكبر، والهدف الأسمى ألا وهو النظرية الكاملةالجامعة المانعة والمكتفية

 

غيرأن مهمة الجمع بين المدارس والاتجاهات ليس بألامراليسير، والعثورعلى الحلقات المفقودة شاق وعسير، اذا علمنا أن لكل مدرسة واتجاه حلقات متعددة مفقودة، وفراغات شاسعة، ترهق المتتبع والمنقب عن الصواب والحقيقية، وتنبؤه بأن مالايعرفه أعظم وأكثرلغزا ممايعرفه ...كما قال الامام جعفر الصادق رضي الله عنه

 للبحث صلة

 

د.الطيب بيتي العلوي/باحث مغربي في الأنثروبولوجيا /باريس

[email protected]

 

..............

هوامش

(1) التخفيضية، مخفضة أو مختزلة أو محولة مفردة تتغيرسياقاتها في مجالات علوم الأناسة حسب مقا علوم الاناسة

 فلسفيا تعني– نظريا- تفكيك الظاهرة الفلسفية الى ظواهرأكثر بساطة، وارجاعها الى عناصها الأولية (غيرمعنى التبسيطية التي هي تفريغها من محتواها الاصلي) ... وبهذا المعنى يمكن اختزال السوسيولجيا الى السيكولوجيا باعتبارأن ظاهرة مدروسة بالمنظور السوسيولوجي تختزل-سيكولوجيا- الى دراسات نفسية لمجموع الأفراد المعنيين بالدراسة فردا فردا، فتصبح دراسة الحالة أو الاظاهرة أكثر وضوحا وأقرب الى الفهم كثر فهما كما يمكن اختزال السيكولوجيا الى البيولوجيا، والبيولوجيا الى الفيزياء ثم الى الرياضيات وفي هذه الحالة فان المنهج التخفيضي .. يتعارض مع الفلسفة(في جانبها الابيستيمولوجي) لأن هناك ظواهرلايمكن تفكيكها الى ظواهرأكثر بساطة

 (2) الهيرمونوتيكية …هي القراءات الاسترسرارية الباطنية للنصوص( الاغريقية –الرومانية )القديمة و (الاغريقية-المصرية-)الكهنوتية القديمة لعلوم التنجيم والسحرالمنسوبة الى الاله الاغريقي هيرميس

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1142  الاربعاء 19/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم