قضايا وآراء

لغة التكنولوجيا الرقمية وتفاعلها مع الوجود الإنساني

العلماء إلى الكثير من الجرأة والبحث في خضم الخفايا وظواهر الغموض في الذات الإنسانية وعقلها المشكل عبر تاريخ صعب الإحاطة به، فالقدرة على التغيير والاكتشاف يجب أن تتحرر من كافة المعيقات في وجهها وارتفاعها إلى مستوى الوعي القائم على الحياد المتحرر من كافة الارتباطات المعيقة لوعي عقل إنساني خالي ومجرد من أي تأثير، فالوعي المتضمن للمعارف عليه أن يكون محايداً وغير متأثراً ومتعاطف مع طراز أو نمط معين من طرائق الفكر البشري المتعدد الانتماء .

فالعقل المكتشف  والمبدع عليه أن يضع نتائج جهوده في المتناول المعرفي لجميع البشر عليه البحث عن السبل الكفيلة بخلق الوضوح دون عقاب فالكتمان آفة العقل الإنساني عبر تاريخه الطويل، ومن خلال الكتمان والألاعيب السرية يتم تدمير الإنسانية في عمقها الواعي، والعالم في وجوده الموضوعي، فالمعارف والعلوم السرية تحرك مجالاً واسعاً من الوجود الإنساني، لغايات وأهداف سرية، فالكون المبرمج بالعقول المغطاة بأقنعة وهمية تكون التغيرات فيه مخادعة للعقل والوجود السليم، لأن من يسعى لتغيير العالم وفق مصالحه وأهدافه الذاتية سواء أكانوا أشخاص أو دول غالباً ما يصلون إلى واقع يتفق مع مخططاتهم، غير أنه واقع قلق وغير مستقر ومعرض للزوال، إنه واقع مؤسس على التبعية والنمطية والجمود، مؤسس على أفكار واهية وجرداء من كل روح قائمة على الحيوية والتتابع السليم .

فالوجود المؤسس لكي يتوافق مع غايات سرية وأنانية يحمل في وجوده أسباب انهياره الكامل لأن الوعي المتشكل غير قائم على الضرورات الأساسية للوجود، إنه مؤسس على الضرورات الأساسية للمخططين والمنفذين لبرامج تخدم وجودهم وتطلعاتهم للحياة بما يتفق مع أهوائهم لذلك نجدهم يغيبون كل فعالية إنسانية لا تنسجم مع غاياتهم .

كل إنسان على هذا الكوكب  قادر على الاستغراق في ذاته يدرك أنه يحمل منظومة من الاحساسات والتصورات والمعتقدات الضمنية يكبتها ويعزلها وينشط السلوك للوصول إلى ماهيتها بعيداً عن رقابة الآخر، حتى ولو كان الآخر يظهرها على دائرة الضوء والوضوح نظراً لتجاوز خلفياتها ومؤثراتها على بنية وعيه، هذا الأسلوب في التخفي يظهر الإنسان شكلاً ويعزله مضموناً ساعياً لتحقيق غاياته من خلال التراث وجميع الأفكار المعلقة في وعيه كإرشادات ونظم يرى من خلالها أسلوب الخلاص المزيف .

وفي الوقت الراهن تم اكتشاف أجهزة تمتلك طاقة تخزين هائلة من المعلومات والبيانات والإحصاءات وغيرها من الفعاليات الداخلة في التركيبة البنيوية للوجود الإنساني، فقد بدأ التعامل على أن الوجود الإنساني وجود رقمي، وكل ما يتعلق ويتفاعل مع هذا الوجود من علاقات وأفكار وأحاسيس واندفاعات  وإبداع يندرج تحت واقع إحصائي رقمي يدخل في حوذة صانعو القرار في العالم . فالحضارة العالمية الجديدة مبنية على الوجود الرقمي والصناعات الرقمية قادرة على اختراق متاهات الكون الواسع والتعرف عليه، فالفاعلية الرقمية والقدرة على التشكيل والتصميم تتحقق مع مظاهر الصناعة الفائقة الدقة في التصميم .

فالحصيلة المعرفية للبشرية هي التفاعل مع كمية هائلة من البرامج والمعلومات والبيانات يمكن أن تصل إلى كافة الشعوب، وتبقى رهينة العمل في هذه البيانات ومعالجتها وبالتالي ينشأ التقاعس المستمر للتفاعل مع وجود إنساني عليه قبل كل شيء الاتفاق على أساليب محددة للعلاقات بين الشعوب والأمم

على مختلف مستوياتها في هذا الوجود القائم على الاختلاف . ليبقى العالم مستمراً في تعميق البعد الإنساني والذاكرة الإنسانية المنسجمة مع وجود إنساني متفاعل ومتعاون على تأمين الاستقرار النسبي لهذا الوجود الحي .

فالتقدم التكنولوجي المعاصر متواصل الحلقات بالاعتماد على الأقمار الصناعية في الإرسال التلفزيوني وشبكات الاتصال الأخرى، وتفاعل المعلومات الكونية ومراقبة الوضع البيئي والثروات الباطنية وكل المتغيرات في مجال النشوء الحي، وذلك للتخفيف من حدة الشكوك والشعور بالعداوة تجاه الغير وكسر الطوق الحديدي لاحتكار الصحافة لتوجيه الأخبار، من خلال توجيه قنوات متاحة بكثرة لجميع الآراء والأذواق المتعددة في المجتمع والعمل لتأسيس نظام صحفي تحرري يمكن أن يترافق مع ظهور الإعلام المنزلي ويعزز المشاركة الشعبية الكاملة في عمليات صنع القرار الحكومي .

فالسياسة التكنولوجية المعاصرة تسعى لإشاعة المفهوم القائل بأنها تتطور خارج مفاهيم التاريخ وهذا ما يجعل الفكر التاريخي بالنسبة إليها مفاهيم مغايرة في تطورها لما هو حاصل الآن من تغيرات في بنية الوعي الكوني، وينحصر التفكير التكنولوجي بالكيفية المتاحة لتوصيل تكنولوجيا المعلومات إلى القواعد التحتية في المجتمع .

فالتوجيه المركز لإرسال وبث كم هائل من المعلومات المتباينة وفي مختلف مناحي الحياة الإنسانية، لا يمكن من خلالها القضاء على الأمراض الاجتماعية والأمراض الناتجة عن ضعف الوعي الثقافي للكثير من الأمم . وإن الغاية من استغلال هذه المعلومات لأغراض تجارية ومصالح اقتصادية غير ميالة لإقحام نفسها في تحقيق العدالة الإنسانية كقيمة أغلى من كل ما تسعى لترويجه .

فالمصالح الإنسانية والتوافق الإنساني تظل دائماً هي الاعتبار الأخير في توجهاتها العامة وتفاعلها مع الثروة الكونية، لأن المصالح العسكرية والتجارية تسعى للسيطرة على تكنولوجيا الإعلام والمعلومات وتغذية التفاعل الدعائي كجانب مستقل في غايته وفعل محرك لنشاط السوق العالمية، ومهما توسعت أنظمة البث الرقمية وتزايدت قنوات الاتصال في العالم لن تنحصر مهمتها في الدفاع عن المصالح العامة والحاجات التعليمية والثقافية للشعوب .

وتظل تسعى لإثارة الخرس الاجتماعي من خلال إخفاء الحقائق وإضاعتها بين الكم الهائل من المعلومات المنتشرة في أرجاء المعمورة . فالشركات العملاقة  والعابرة للقارات تحتكر جميع المعلومات الخاصة بضمان خصائصها الذاتية وبرامجها الاقتصادية وكمية الإمكانات النقدي الواردة إليها من خلال تسويق الأعمال والإنتاج، وتندرج طبيعتها الاقتصادية كقوة هائلة غير واضحة المضمون، يختفي من خلالها أسماء المساهمين في بنيتها المالية ومعدي البرامج والاختراعات . وهذا ما يجعل الشعوب مغيبة عن معرفة قادتها الحقيقيين، لأن التداخل بين ما هو وطني وما هو عالمي مبني في أساسه على مصلحة المساهمين في الأسواق المالية .

فالاتجاه المعتمد والمقصود للسرّية داخل الحكومات يعزز ويدعم سرية الشركات ويمكن أن تتوصل هذه الشركات إلى نتائج باهرة من حيث القيمة لأن إخفاء مداخيلها الأساسية يمكنها من تسويق الأكاذيب حول وارداتها المالية حيث يظهر الربح عندها كأنه مساو لدخل دكان لبيع الحلويات .

وهذا ما يؤدي إلى تزوير جميع الحقائق الاقتصادية في العالم، ويجعل أصحاب رؤوس الأموال في حالة عوز دائم  للمال ويمكن تصويرهم بأنهم متسولون أما البنوك .

فالسرية المتبعة في العمل التجاري تخفي في مضمونها كل المعلومات عن سياسة الأرباح وتلزم جميع السياسيين والإداريين  بالتعامل الأدبي مع أصحاب الشركات لأن العلاقة بين الفريقين هي علاقة التوافق بين احتكار السلطة واحتكار الاقتصاد، وإن التفاعل بين السلطتين يضمن سلامة قواعد اللعبة، كما يؤدي إلى دمجهما مع المكونات التكنولوجية والإعلامية الجديدة وإظهار تطابقهما المتوافق مع المصالح القومية والاجتماعية للدول .

ومع التطور التكنولوجي يمكن أن يتم توزيع السلطات والمصالح بينهما وفق تخطيط معالج في برامج الكومبيوتر، بحيث يمكن صياغة القرارات والقوانين وإخراجهما من خلال البرامج الخاصة بالكمبيوترات العملاقة، أما الشركات المختصة بصناعة وتجميع الكمبيوترات وبرامجها تحرص دائماً على تحديد العناصر المكونة لنوعية البيانات التي يمكن استيعابها وتشغيلها من خلال الأجهزة المذكورة، ولا يمكن لصناع المعدات الالكترونية العملاقة أن يجعلوها تقوم بتصميم وتخطيط منظومة من المعلومات تشكل تحدياًُ لسيطرتها، فتكنولوجيا المعلومات مهما بلغت من الاتساع والإقحام في جميع المجالات الحيوية للأعمال الإنسانية لا يمكن أن تحل المشاكل الاجتماعية وأمراض العصر السلوكية بل غالباً ما تضيف مشاكل جديدة لهذا العصر .

وبمقدار القدرة على توليد وإنشاء المعلومات على نطاق واسع تتولد أساليب جديدة ودقيقة للسيطرة عليها، وهذا يعني بأن الديمقراطية الالكترونية هي مجرد وهم، فالحرية التي تخضع للمراقبة هي في حقيقتها ليست حرية، فالكمية الهائلة من المعلومات غير القابلة للتحديد لا يمكن أن يستوعبها أحد وبالتالي يجري غربلتها بناءً على خبراء ومهندسين مختصين، بحيث يم بث مجموعة من المعلومات ذات أهمية حيوية ضمن كم هائل من المعلومات السطحية يصعب انتقاء ما هو مفيد منها ويجعل المتتبعين لها في حالة ضياع.

فالطاقة المستقبلة الناتجة عن الإسهام المعرفي والتكنولوجي تحتاج إلى عقل فاعل وقادر على التفاعل معها ولا يمكن لعقلية حفظية تعيش على المفاهيم السلفية أن تطبق مفاهيمها على منظومة المعلومات الرقمية وشبكات الانترنت، فالحياة في جوهرها العام تحتاج إلى الفصل التام بين المفاهيم الأخلاقية والمعتقدات الضمنية وبين نظام البرمجيات لأنها بعيدة عن العاطفة وتتوخى الدقة في نظامها فالحياة التكنولوجية ستغير بنية الوجود الاجتماعي وتجعله مطابقاً لمضامينها الجوهرية وتعمل لتوحيد الانسجام في الذات الإنسانية وتفاعلها مع الاكتشافات القادمة بما يؤدي إلى تأمين سلامة الإنسان والطبيعة المحيطة به من أخطار الكوارث في مجال النشوء الحي .

 

حسين عجمية

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1143  الخميس 20/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم