قضايا وآراء

من سيناريوهات الإنسان "فلسفة، أدب، سينما" (1)

ومنذ أن فتح هذا الإنسان عينيه في أحضان الطبيعة الغامضة التفاصيل والشائكة المجاهيل، حينما كان في أول أطوار البدائية من قدم التاريخ. شغلته ثيمة المصير، مصيره بشكل خاص، ومصير الكائنات التي تحيطه وتحيط مجمل الوجود الكوني الرهيب، بشكل عام. وبعد أن قطعت الأقوام البشرية مراحل المسير الحياتي المليء بالمخاطر والمحاط بالصعاب، ظلت تلك الثيمة العميقة مندرجة في ساحة فكرها. التي توسعت واكتسبت خبرات ومفاهيم وعلوم إلى غيره من الأمور التي عصفت في ساحة الوعي واللاوعي الإنساني وهو على أعتاب القرن الأول بعد العشرين. وكما هو راسخ وثابت وفطري، بوجود الاختلاف الذهني الاستيعابي البشري بين فرد واخر، وبين مرحلة وأخرى- أي على صعيد التجارب الذاتية الفردية أو على صعيد الجماعية كما في التجارب " الديناميكية"-، بأن كل إنسان تختلف استجاباته لما يرده عن طريق الحس والمادة بحواسه التي يجب أن تكون سليمة بكاملها، وإلا أن تعطل أي حاسة يؤدي إلى تعطيل معين في الفهم المتأتي منها - الفهم الوارد عن طريق الحواس حصرا-، وقد قيل بشكل دقيق:"من فقد حسا فقد علما". ومؤكد أيضا أن اختلاف الاستجابة إزاء ما يرد عن طريق الحس، يولد اختلاف القراءات والنتائج المطروحة إزاء تلك القراءات. فتختلف بالتالي النتائج والأسباب -الفردية والجمعية- التي تتصدر سطح كل مرحلة جديدة وكل زمن حديث. وعلى هذا الأساس المختزل جدا، نحاول الخوض في خضم ما نسعى إلى تسليط الضوء عليه في تحليلنا المختصر هذا، لثيمة محددة من تلك الثيمات المتكاثرة . والتي تتكاثر الاختلافات أيضا حولها لان هذا مطرد في كل الأمور والأشياء . وأن كان هذا ملاحظ ومعروف في العلوم والأشياء الحسية، فأنه في الأشياء الخارجة عن نطاق الحس "الميتافيزيقيا" وما يخضع لحدودها المتناثرة، من مفاهيم مجردة وأفكار متكاثرة، تنتج من خارج ماكينات الحس والمادة ملاحظ بشكل اكثر بطبيعة الحال. وهذه طبعا لا يمكن إخضاعها لنفس آليات العلوم المادية والحسية و"تلسكوباتها" و"مشارطها"وباقي الآلات التي تخضع لها تلك العلوم. ولأن غمار هذه العلوم "الميتافيزيقيا" صعب وخطير ولا محدد ولا يمكن للحس أن ينال مراده من كشف بعض ملامحه، لأنه بحاجة إلى طاقة فكرية ليس بإمكان الأفراد الاعتياديين أن يحوزوها من جهة، ولأن الخوض في كشف مجاهلها يستند إلى أدلة وبراهين عقلية مجردة تحاول العلوم الفكرية الدقيقة من "فلسفية" و"منطقية" أن تلون بعض تجريدها من جهة أخرى . ولان الفكر الإنساني بشكل عام يميل إلى الحس منذ اقدم العصور، حيث هو - كما سبق- يستسيغ الحسي ويستأنس به- . من هنا صار من الطبيعي أن نلاحظ انحسار سوق "المناطقة" و"الفلاسفة" - اللاهوتيين والإلهيين حصرا- "الميتافيزيقيين" ورواج سوق غيرهم من الماديين و"الفيزيقيين" بشكل عام. والثيمة التي نحن بصددها هي حقل في ثيمة المصير الإنساني بشكل عام، ومرتبطة بمصير الإنسان دنيويا حصرا وتحديدا.ذلك أن المصير "الأخروي" محتكرا ومقيدا في الثقافة الدينية و "اللاهوتية" بشكل من الأشكال . أما في الثقافة "الفيزيقية" والمادية بشكل عام وبكل اتجاهاتها الشائعة والمتكاثرة، ليس من داعي إلا فرضه أصلا حيث كل تلك الثقافات المادية المختلفة المشارب، لا تعنى به ولا تحسب له أدنى حساب في ذهنها وقوانينها "التجريبية" العلمية، أو الفكرية المادية"المشيئة"، بل على الدقة أنها تحاربه وتسخر منه بشتى الوسائل كما هو ديدنها منذ عقود. ونحن بمندوحة كاملة من التعرض الى أي خلاف بين وجهات النظر وقواعد التنظير والتطبيق بين الفلسفتين "المادية" و"الروحية" أو "الفيزيقية"و"الميتافيزيقية" ذلك أن ثيمتنا تتعلق بالمصير الإنساني في الدنيا، وهو ما تشترك في الخوض فيه كل الثقافات والأفكار والاتجاهات. وهذا من فوائد البحث في الأمور والأفكار المشتركة. حيث يتسنى للخائض في هذا المضمار أن يحلل ويقارن ويفكك ويركب بين مجمل الأفكار، ولا يرتطم من ثم بأي عوائق تخص "المعتقد" أو "الأيدلوجيا" . ولا يتحيز تحت وطأة التعقيديين الأخيرين الشائكين، لأنه سيكون متحررا بعض الشيء من الجدل العقيم بين الأفكار التي تتضارب في أصولها عند الخوض فيها منفردة. وهذا المنحى لم يمارس بشكل مكثف عند الإسلاميين ولم يشكل حدوده الواضحة ألا مع أفكار المفكر والفيلسوف الإسلامي الكبير الشهيد( الصدر الأول) كما نظر أليه في اغلب كتبه خصوصا في كتابه القيم "فلسفتنا". ثم جاء بعده تلميذه المفكر والعارف والفيلسوف الشهيد(الصدر الثاني) وراح يؤصل ويعمق ذلك الاتجاه بشكل مكثف . خصوصا في مؤلفه الأخطر "موسوعة الأمام المهدي" بأجزائه الأربعة المطبوعة"1" حيث أن مؤلفها صاحب أول خطوة تنظيرية كاملة في هذا الاتجاه، وهذا واضح من الأسلوب العميق والذكي الذي اختاره الشهيد. فهو قد كتب بالأسلوب الذي أشرنا أليه سابقا. أي بالعمومية في التحليل والطرح والتساؤل من اجل التوصل من ثمة إلى قوانين منطقية مقنعة لحد ما، لكل أحد بمعزل عن مذهبه وعقيدته وفلسفته. واهم مافي هذا الأسلوب- رغم كونه مهم من كل النواحي- هو الأسلوب الذي اختاره الشهيد من اجل الولوج إلى قضية أو فكرة العدل الكامل والعام في يوم الظهور الذي يعتقده المسلمين بشكل عام، والشيعة منهم بشكل خاص. ذلك أن- كما نوهت في بداية هذا التحليل- هذا الأسلوب يستقطب كل الثقافات لعلاقته الوثيقة والمباشرة بالمصير البشري والوجودي في الدنيا تحديدا.وحسب ثقافتي وقناعتي المتأتية من متابعة الأحداث والمدارس والتيارات الفكرية الثقافية العامة. ولكوني من المنطلقين أساسا من مفهوم "العلمانية"بشكلها السليم لا المشوه، وبغض النظر عن ديانتي ومذهبي. أرى أن الشهيد الصدر في مؤلفه هذا بالذات، قطع شوطا عميق وجديد وراقي في لحمة الثقافة الدينية و"اللاهوتية" بشكل عام، والإسلامية بشكل خاص. أقول ذلك بملء فمي وقناعتي بغض النظر أيضا عن علاقتي بالشهيد سواء كنت من مؤيديه أو معارضيه لا يهم، لأني في صدد تسجيل خطوة ثقافية وفكرية إنسانية عميقة ودقيقة كان من كان منجزها ومبدعها وكما ورد في الحكمة العلوية:" لا تنظر إلى من قال بل انظر إلى ما قال" . ولأن أيما مثقف واعي ومنصف وفي أي ثقافة وتجاه يحاول احترام ذاته ومصداقيته، يتوجب عليه إذا الاعتراف بالجهد البشري الفكري الراقي، بغض النظرعن معتقده ودينه وعرقه إلى آخره من الأمور. وتأسيسا على هذا المنحى لا بد لي التناص مع هذا الفكر ومحاولة سبر بعض أغواره، وفي البدأ لابد لي من أن أضيف شيء آخر في هذا الصدد . مفاده أن الشهيد في مؤلفه السابق الذكر، اختار أن يتناص مع "الماركسية" بشكلها الأعم، بمستوى غير مسبوق أولا ودقيق العمق ثانيا. إذ حقق غرضين مزدوجين. ذلك أن الماركسية - بغض النظر عن فجواتها وهفواتها وفضائح قادتها في الجانب السياسي- فلسفة عميقة ومتكاملة التنظير الثقافي والفكري بشكل لم يكن معروف قبلها بالنسبة للفلسفة "الفيزيقية"عامة والمادية"خاصة". وهي قدمت للفكر البشري قراءة في أهم الخطوط الفكرية حيث انطلقت من محاور ثلاث. المحور التاريخي، والمحور الاقتصادي، والمحور التكويني -أي تكوين الإنسان ومبتداه-، وهذا هو الغرض الأول. وبغض النظر مجددا على كوننا نتفق أو نختلف مع تلك البداية المطروحة للمبدأ الأصلي للإنسان والكون مع "الماركسية" . الى أن ما يهمنا هنا هو انها تتفق معنا أو نحن نتفق معها في المصير البشري الدنيوي .سواء كنا من المؤمنين بالوجود"الأخروي"أو لا. وعلى ذلك كان الشهيد الصدر كما يتضح هنا ملتفت وواعي لذلك الثقل الذي تمثله تلك الفلسفة على صعيد الفكر والثقافة، وملتفت أيضا لقوتها وعمق بعض طروحاتها. وشرع للاستفادة من أحد معطياتها كونها ترسخت بالأدلة "الماركسية" عند الأعم الأغلب. وهي معطيات المستقبل السعيد للبشرية فوق الأرض. وهذه المفارقة الفريدة التي تنفرد فيها "الماركسية" أيضا، عن باقي الفلسفات "الفيزيقية" والمادية عامة. كانت مسرح الشهيد الصدر الثاني للانطلاق الى التأسيس الفكري العميق الذي عرض فيه معطيات يوم الظهور الموعود. وهو نجح تماما في ترسيخ ذلك المنحى بشكل تاريخي عام، واستدل عليه فلسفيا "ماركسيا" و"إسلاميا" . وبهذا ركز الفكرة وعمق البرهان للمستقبل السعيد واثبت أن نسبة تحققه تكاد تكون كبيرة الاحتمال - ان لم نقل يقينية الحدوث-، وهذا هو الغرض الثاني. وهذا المنحى الذي استدل عليه يمكن لأي شخص الاعتماد عليه فكريا وفلسفيا وتاريخيا، بغض النظر عن عقيدته ومذهبه. وبهذا يكون الشهيد الصدر صاحب منهج فكري ثقافي فلسفي منفتح على كل الثقافات، ومشتغلا على كل التجارب والأدلة الفكرية البشرية بشكلها الأعم. ومن هذه المقدمة البسيطة ألج الى غرضي المنشود في الخوض في ثقافة المصير الإنساني الذي افتتحت به هذا التحليل وسيكون كله منصب في مشهد من مشاهده. وطريف جدا ان يكون هذا المشهد من المشاهد "الحداثية" و"ما بعد الحداثية" من جهة. وهو مرتبط ارتباط وثيق بالعرض "الصدرائي" "الماركسي" من جهة أخرى. ذلك أني قلت في تحليلي لعمق الاختيار الذي تميز فيه العرض "الصدرائي" الراقي بأن الشهيد كان موفقا ودقيقا في تناصه مع الفكر"الماركسي". إذ ان النتيجة التي اتفقت عليها القراءتين "الصدرائية" و"الماركسية"، تخوض الآن حربا شعواء مع كل الفلسفات الأخرى من لاهوتية ميتافيزيقية و مادية فيزيقية فلا يوجد - حسب علمي- في أي من الفلسفات المتكاثرة السابقة الدينية وغيرها. ما يبشر بالمستقبل السعيد للبشرية . إذا تتفق الفلسفة الإسلامية عامة، وبالقراءة الشيعية خاصة، وبالتنظير "الصدرائي" بشكل أخص، مع الفلسفة الوحيدة من كل الفلسفات الباقية أي"الماركسية". وحتى الفلسفات الدينية غير الإسلامية لا تبدوا واضحة في نقطة المستقبل البشري السعيد فوق الأرض. وبهذا تكون الفلسفة "الإسلامية" و"الماركسية" هما المتفردتان عن كل الفلسفات الأخرى. ومن هنا سيكون منطلق تحليلنا لبيان الحرب الشعواء فكريا وثقافيا واقتصاديا . بين كل الفلسفات المادية، إذ نحن نستثني العرض الديني لأنه غير معني بالمسألة وهي غير واضحة عنده كما قلنا سابقا. فمن المنطقي ان نرى اوجه القراءات الفكرية المادية وغيرها عامة، مقابل وضد قراءة الفكر الإسلامي والماركسي، بخصوص مستقبل البشرية السعيد خاصة. وسنبدأ بيان بعض "السيناريوهات" التي كانت شائعة للمصير الإنساني عند الثقافات الأخرى، أي غير "الماركسية" و"الإسلامية". لنصل بالتالي الى خلاصة تلك السيناريوهات وزبده تلك القراءات كما هو مستحكم اليوم في عموم الثقافة "الرأسمالية" و "الليبرالية".

 

سيناريوهات المصير الإنساني في الأدب والفن.

 

يمتلأ عالمنا اليوم بالمتاحف المتنوعة والمتعددة كما وكيفا. في مختلف الحقول المعرفية والثقافية البشرية منذ التاريخ الأول وحتى الآن . ورغم ضياع حلقات عديدة من حلقات التاريخ العام على كل المستويات، إلا ان ما حفظ من جانب آخر كثير جدا ومع التقدم "التقني" و"الآلاتي" الذي يسير نحوه تاريخنا المعاصر. نكاد نحتمل بأن التاريخ الحاضر سيعوض ذلك النقص من بعض الوجوه، ان لم يكن في الإمكان التغطية علية بالكامل. واصبح واقع "الأرشفة" لأغلب المعارف والتجارب البشرية في حدود الاكتمال. ففي اكثر الدول "الأوربية" والغربية بشكل خاص، والدول الباقية بشكل عام . ثمة آلية واعية وفاعلة تتجه الى حفظ الذاكرة البشرية منذ القدم، تحقيقا لغايات متنوعة. منها اقتصادي، ومنها سياسي، ومنها علمي وفني ومعرفي، الى آخره من هذه الغايات البشرية المتكاثرة التي يتمتع ببعض خصائصها، الفرد الواحد تحقيقا لأي رغبة من الرغبات السابقة. وقطعا تتكاثر هذه الرغبات وتتنوع مع الإعمال الجماعية. ومهما كانت الغايات الفردية والجماعية فأنها أدت في النهاية الى هذا العمل الهائل من الحفظ "الذاكراتي" لحقبة بشرية طويلة من عمق التاريخ، وقد ساعدنا هذا الأرشيف الى التعرف على اغلب أحوال أسلافنا وأجدادنا الغابرين. ومن مختلف المشارب، فهناك ذاكرة فنية، وهناك أدبية، وتاريخية، وصناعية، وعلمية الى آخره من كل التفاصيل. التي ساعدت العلماء والمثقفون في هذه الأزمنة من التوصل الى نتائج مذهلة قفزت بالتطور البشري الى مستويات غير مسبوقة. وهذا من أهم فوائد التحليل والمقارنة والدراسة لمنجزات الإنسان لاستخلاص النتائج الكبيرة في النهاية ومعالجة اكثر القوانين والمشاكل الحالية، فأن البشرية وفي كل مرحلة من مراحلها لابد وان تعيش اغلب الصراعات والهموم التي يخوضها كل إنسان في أي عصر وزمان. ولابد لها بالتالي من ان تفرز تجاربها ومعارفها الفاشلة والناجحة في كل الوسائل المتاحة في كل عصر أيضا. وخلاصة القول لولا أن البشرية ومنذ زمن طويل مدفوعة بغريزة البحث وفضول المعرفة، لما تجشمت هذا العناء ولما اهتمت بحفظ تجاربها تلك. وإذا أضفنا الغايات الأخرى التي تتعلق بالغرائز الإنسانية أيضا، من نفسية، وذاتية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية الى آخره، يصبح هذا الهوس البشري في توثيق التاريخ بصورة عامة مبررا ومفهوما بوضوح. واليوم وصلت المتابعة لكل نتاج البشرية ذروتها، وزادت الدوافع السابقة تبعا لزيادة حاجة الإنسان والمجتمعات الحالية، الى متطلبات وقضايا لم تكن ملموسة ومفهومة في المجتمعات السابقة. والحقيقة ان العلوم "الاركولوجية" وغيرها في حقول "الميثولوجيا" بشكل خاص وصلت الى مرحلة عظيمة وهائلة . وافرزت علوم لم تكن تخطر في بال الإنسان في السابق. وهكذا على كل الأصعدة العلمية والمعرفية الأخرى. وبالنسبة "للتكنولوجيا" وما لف في فلكها فهي الأخرى وصلت الى مرحلة هائلة، وانبثقت منها ثورة صناعية وعلمية وتقنية فائقة. ودخلت اليوم على سطح "العولمة" المعرفية والتجارية، مكتشفات واختراعات في كل الحقول والأقسام. بدءا بالفن والأدب والتقنية"الإلكترونية" وانتهاء بكل الفتوحات المعرفية التي نبشت اليابس واليابس بعد ان نبش الأخضر منذ عقود تقريبا. واصبح هذا الواقع المعاش والمحسوس طبيعي ومشاهد في كل مكان، وما ان يطفوا شيء جديد على سطح الواقع "العولمي" المتماوج، حتى يطفوا شيء آخر بعده بمدة قصيرة، جاعلا منه شيء قديم ومستهلك. وهذا الواقع الذي يبدوا من أول وهلة وكأنه شيء جيد ومفرح، افرز أشياء خطيرة ورهيبة عند التعمق فيه من جهة أخرى. نتيجة للصراع الدولي المحموم والمتسارع دون هوادة للتسلح بكل شيء يجلب التسيد والتسلط والقوة. واندفعت كل الدول العظمى والصناعية، وحتى دول العالم الثالث. تخوض في هذا السباق المحموم والمرعب، واصبح الإنسان معتادا عن سماع مواضيع الأسلحة الذرية والنووية وغيرها من الأسلحة الفتاكة التي تهدد مصير الإنسانية والكون بشكل عام. واصبحت اكثر الأشياء خاضعة "للتعلمن" الاقتصادي و"اللوجستي" و"الدوغماتي " بشكل عام .وحتى الأمور الفنية والأدبية سواء بمنحاها "الاستتيكي" أو الفني العام خضعت "للادلجة العولمية" وفي شكلها "الليبرالي" الحديث. إذ الماكنة "الليبرالية" المرعبة لا تفلت شيء من بين أضراسها الفتاكة. وبعد ثورة الأقمار الصناعية، ومعطيات التقنية الهائلة خصوصا مع شبكة "الإنترنت العنكبوتية". صار التسلط "الأيدلوجي" مرعبا وقد يتخلل حتى في الذاكرة البشرية في السنين القادمة. ولهذا صار من الطبيعي التحدث عن نهاية التاريخ بل نهاية النهايات في خضم هذا التسارع الذي ما ان يركب ويشكل اتجاه أو فكر أو شيئا ما، حتى يعود الى تفكيكه ونسفه بعد مدة قصيرة. فما ان شهدنا "الحداثة" حتى حلت ثقافة "ما بعد الحداثة" و"ما بعد الفلسفة" وصولا الى الواقع المستحكم حاليا اعني واقع "النهايات". وأصبحت هذه "النهايات" مستساغة عند الأغلبية إذ يوجد الكثير من المؤشرات التي تدعم رواجها في العصر الحالي. ومن سنين طويلة راح الفلاسفة والأدباء والفنانين ينهلون من الغموض الذي يغلف مصير الإنسان في محاولة منهم لتحديد بعض ملامح ذلك المصير. وكما قلنا سابقا كان لكل اتجاه نظرية تختلف عن الأخرى، حيث كل فيلسوف أو أديب وفنان ينطلق من أصول ومناهج تختلف من فردا لأخر ومن اتجاه ومدرسة إلى اتجاهات ومدارس أخرى. وعليه شهدنا منذ عقود ولا نزال نشهد عشرات الآراء والنظريات المختلفة في تحديد المصير الإنساني فوق سطح الوجود العجيب. وما يهمنا هنا اختيار بعض النماذج الفلسفية والأدبية بشكل خاص وقد طرحت على نحو التخيل أو القناعة الواقعية لرؤية البعض وتحليلاتهم. ففي الفلسفة وبعد أن كان الاتجاه الإلهي سائدا وبارزا في الثقافة العالمية، عبر تنظيرات فلاسفة "اليونان" خصوصا بالثالوث الإلهي المعروف( سقراط، أفلاطون، أرسطو) الذين عمقوا الفلسفة الإلهية بشكل غير مسبوق قبلهم، ودعموا براهينهم الفلسفية والمنطقية بالاستدلال العميق . وشرعوا يوضحون مغالطات وأوهام "السفسطائيين" وهم أرباب منهج تشكيكي عرف في تلك الفترة العامرة بالفكر والفلسفة، ونجحوا في التأثير على بعض أبناء عصرهم. عبر تبنيهم مغالطات وأساليب من نوع " الشبهة" الفلسفية، أو المنطقية، أو العقدية. لكن القوة البرهانية المتمثلة في المنطق الرصين للثالوث اليوناني السابق، قد بينت وكشفت مغالطاتهم تلك بمختلف الأدلة. لكن الفلسفة العقلية الإلهية مع ذلك تعرضت وعبر سنين طويلة إلى محاربة وإقصاء وتهميش وإلغاء. ساعد عليه شيوع الفلسفة المادية بكل بهرجها، وقوتها، ومناسبتها للأعم الأغلب من بسطاء الناس حيث هي تعتمد عل الحس والحواس. وأنكرت أي وجود وراء الحواس والغت أي تجريد أو ما يسمى "بالما ورائيات" . أضف لذلك أن جيوب الإلحاد القديمة قدم الإنسان، والتي جاء كل الأنبياء والفلاسفة والحكماء من اجل دحضها . وجدت أرضها الخصبة لتبرز بقوة في خضم الصراعات الجديدة، واستغلت انحسار شمس الفلسفة والمعرفة الإلهية، واستئناس الأفراد بالحسي. وعلى أي حال ظل بعض الأفراد ينفخون في الفلسفة الإلحادية من حين لآخر، وتصدرت الفلسفة المادية عامة على واقع الصراع العالمي الحالي. ونتيجة لضراوة هذا الصراع استشف بعض الفنانين والأدباء والفلاسفة خطورة هذا الواقع المادي وسطوته. فراحوا يعبرون عن استلاب الإنسان في هذا الكون المادي واغترابه التام . وبعد صرخة "موت الله" التي أطلقها "فردريك نيتشة" وقد أسيء استغلالها إذ من الواضح انه كان ينعى الفلسفة اللاهوتية المسيحية وسطوة كهنتها الذين ادخلوا الغرب في ظلمات من الجهل الخانق . فجاءت صرخة "نيتشة" السابقة لتقول لهم بأنكم تقولون نحن حراس الإله وأمنائه واقول لكم أن الإله أي "المسيح الذي تعتقدون انه صلب" قد مات إذا ولاداعي بالتالي إلى حمايتكم . وبعد هذه الصرخة انطلقت الفلسفة نحو المادية بشكل غير مسبوق وحاربت كل ماله صلة بالإلهيات ظنا منها أن تلك الفلسفة هي السبب في الانحدار الذي آلت أليه الدول الغربية والأوربية. وفي خضم ذلك انطلقت قرءات أخرى حاولت قلب كل ما هو شائع ومعروف سابقا محاولة التشكيك في كل شيء. وما يعنينا هنا تحديدا القضايا التي نظر لها فيما سمي " البشر الإلهين" في الطوبائيات التي تبناها بعض الأدباء مثل" بشر كالآلهة" ل"هربرت جورج ويلز" وغيرها . وما لبثت هذه الطوبائية أن اصطدمت بالنتائج العنيفة التي أفرزتها الثورة الصناعية والعلمية من حين انطلاقها . ومع الحربيين العالميتين أصيب العقل الغربي بالسعار وابتدأت التنظيرات اليأسية والكتابات المتشائمة تسيطر على عقول وفكر الجيل الغربي . الذي انتج فلسفيا "هيوم" فيلسوف التشاؤم الأشهر. وأدبيا وفنيا كانت "السريالية" هي المستحكمة كردة فعل إزاء الواقع المأساوي ذاك. حتى وصلت الثقافة إلى غاية سو داويتها مع "صومائيل بيكيت" الذي استغرق في اليأس والظلام حد الغثيان. ولعل أهم ما يخص المصير الإنساني الذي نظر له، أدب وفلسفة "موت الإنسان". هو سيطرة الحيوانات على المصير الوجودي ويصبح الإنسان خاضعا لذلك المصير بأن يصير عبدا عند الحيوانات. ومن اجمل تلك القراءات بخصوص المصير الإنساني رواية" عالم العناكب" لكولن ولسون . ومع نهاية وموت الإنسان ابتدأت ثقافة النهايات والميتات وما يهمنا هنا ثقافة "نهاية التاريخ" خاصة، لأنها تدخل في عمق المصير الإنساني الذي نحن في صدد تتبع بعض جوانبه من عصور سابقة وحتى عصر النهاية هذه. ولأنها من جهة أخرى -اعني نهاية التاريخ- هي النظرية الحديثة والسائدة حاليا، منذ ان بذر بذرتها الأولى "فرانسيس فوكوياما" ولحد الآن . لا ينافسها في الطور، "الليبرالي" المطروح حاليا باعتباره آخر أطوار المسير الإنساني، سوى نظرية "صدام الحضارات" التي وضع لبناتها الأولى "صومائيل هنغتون". وهي أيضا تتفق مع نظرية "فوكوياما " السابقة، بأن الطور "الليبرالي" آخر طور من أطوار المصير البشري، لكنها تختلف معها في بعض المعطيات. وقد تم الاعتماد على نظرية"صدام الحضارات" بقوة بالنسبة لمحاور اتجاهات "الليبرالية" العامة، بينما أهملت نظرية "نهاية التاريخ" وهُمشت في الواقع. لأسباب مختلفة، سنتجاوز هنا بيانها وندع ذلك لفرصة أخرى ان سمحت الظروف. و ما نود قوله هنا، ان هذه النظرية الحاكمة والمتصدرة على ذروة الثقافة"الليبرالية" تمثل البعد الحالي لقراءة مصير الإنسانية. وتظن انها هي القراءة الأخيرة التي يجب إسدال ستار المصير البشري عليها، وهي بذلك لاترى ولا تفكر بأي نهاية مصيرية أخرى . واهم مافي هذه القراءة، انها تحدت واستبعدت القراءتين السابقتين "الإسلامية"، و"الماركسية ". لأنهما يعدان من ألد أعدائها والمعيقتين لتحكم قبضتها "الرأس مالية" و"الليبرالية"، ومن الطريف انها ضربت تلك القوتين أحدهما بالأخرى. إذ ضربت الطغيان "الشيوعي" السياسي تحديدا، وهو فكر بعيد وشاذ عن الماركسية الأصيلة وبعيد عن مؤسسها "كارل ماركس" كل البعد. بالطغيان "الطالباني" الإسلامي، وهو أيضا منحرف وبعيد كل البعد عن الإسلام السوي والصحيح. وحققت بذلك اكبر انتصار "للرأسمالية" و"الليبرالية"، لانحسار الشيوعية التي استنفذت نفسها في الحرب، وفي بعض المشاكل الكثيرة من جوانب أخرى. ولم يبقى أمامها سوى المسلمين الذين ضربت بهم الشيوعيون من جهة. واوقفت المد الإسلامي المتصاعد من "إيران" بخلقها للحروب الطائفية مع التيار " الطالباني". وحينما نجحت في ذلك جاء أوان ضرب الحلفاء القدامى. فضربت بهم ألف عصفور بنصف حجر، وبحركة بسيطة وفنية لم تكلف سوى برج "التجارة العالمي"، "والبنتاغون" لتفوز بذريعة تصفية الأصدقاء بإعلان الحرب على "خلايا القاعدة" من جهة، واعلان مصطلح "الإرهاب " الكوميدي من اجل الإسلام المنحرف، وليشمل بدوره الإسلام والمسلمين السلميين والمعتدلين . وبهذا المشهد الكوميدي الساخر صنعت "الرأسمالية" و"الليبرالية" "تراجيديا" بطولية، تحسب لها وللأمانة براءة اختراعها بامتياز وبكل جدارة. وهذه هي نتائجها العظيمة والمذهلة بدأ بالقتل والتنكيل من أقصى الشرق الى أدناه، وصعودا بالأزمات الاقتصادية الحالية المرعبة. ناهيك عن الجوع والفقر والتهديدات "اللوجستية" الأخرى التي لايمكن تصور أخطارها فضلا عن وصفها. ومع هذه الأزمات وبسخرية لاذعة، شعرت السطوة "الليبرالية" بتدهورها وامنت بلا معصوميتها، ومن المضحكات المبكيات . شهدت الفترة الأخيرة التي أعقبت الأزمة العالمية توجها منقطع النظير على الثقافة "الماركسية" وعادت تناقش في الفكر "الماركسي". وتحاول تطبيق بعض موازناته القيمة على طغيان "رأس المال" وشراسة "العولمة". أما بالنسبة الى الثقافة "الإسلامية" فقد نجحت "الليبرالية" في خنقها بقوة، بعد حشد القوة العالمية ضدها بذريعة الإرهاب . وهذه المشكلة حسب رأيي الشخصي يتحمل مسئوليتها الأساسية علماء الإسلام لقصورهم وتقصيرهم إزاء القراءة "الحداثية" وما يدور في سطح الواقع من أمور وقضايا لا يعلم عنها علماء الإسلام شيئا وبمنتهى المرارة. فأين علماء الإسلام اليوم من واقع القوة"اللوجستية"؟ وأين مكانهم بالنسبة لحسابات العولمة المتسارعة؟، وأين هم عن نتائج التقنية والمعلوماتية وثقافة "الرقمنة السينمائية" وغيرها؟ . ويتحمل مسئوليتها أيضا المثقفين الإسلاميين، الذين لا يعون شيئا مما يدور في واقعهم وفلكهم ولا يقدمون شيء يذكر. وأنا لا أتحدث عن الجانب النظري بل ما اقصده الجانب العملي. الذي يؤشر لنهاية إسلامية مرعبة . فلا هم يملكون متاحف ولا سينما ولا تقنية معلوماتية، ناهيك عن الأسلحة وباقي موازيين القوى العالمية . الا ان الثقافة الإسلامية التنظيرية لازالت فاعلة أكيد ومتحركة رغم كل التدميس والتهميش المتعمد من قبل "الليبرالية" . ونفس الحالة مع "الماركسية"، بدأت "لليبرالية" و"الرأس مالية" عموما تعود إلى الأخذ بكثير من القضايا الإسلامية وخصوصا الاقتصادية. وتطبقها بتعتيم كبير طبعا،  كما مع النظريات الاقتصادية العميقة التي وضعها السيد ( الشيرازي). وقد دخلت بعض نظرياته الى أروقة الجامعات "الأمريكية" بعد ان انبهر بها أساتذة كبار، كما يذكر بعض المثقفين. وخلاصة القول تنازلت الطغمة "الليبرالية" وابتدأت تتنازل عن اكثر ثوابتها السابقة، وتعترف بأخطاء جمة نتيجة شيوع نظرية"صدام الحضارات" وبهذا نكون قد عدنا الى افضل خريطة وقاعدة عامة بالنسبة الى المصير الإنساني . عند "الماركسية" و"الإسلام" وبات واضحا انه ما من مصير محتوم للإنسانية سوى المصير السعيد رغم صعوبة الإقرار بذلك عند الغالبية لوجود المشاكل المرعبة التي تحدثنا عنها من استحكام ورعب وبشاعة "الرأس مالية" و"الليبرالية" وعموم إرهاصات "العولمة". وعلى أي حال اخترنا فيلم "سينمائي أميركي"، انتج مؤخرا كنقد حاد ولاذع "لليبرالية"، بكلتي نظريتيها "نهاية التاريخ" و" صدام الحضارات". حيث سنشاهد من خلال تحليلنا للفيلم ان الإنسان هو الذي يحدد مصيره وان النهاية ستكون لصالح الإنسان بمختلف حضاراته . والفلم يظهر اندحار وفشل المثال "الليبرالي" المزعوم النهاية. ولابد هنا من التنويه بأن حتى المصير الإنساني السعيد عند "الماركسية" و"الإسلام" ليس مصير محتم ونهائي الى الأبد . فمن وجهة القراءة "الصدرائية" يطرح صاحب القراءة في مؤلفه السابق أطروحة محتملة مفادها عودة الخراب والطغيان بعد الأمن والسلام الذي لابد له ان يملئ الأرض.كما ان "الماركسية" تنبهت لكثير من النرجسيات التي تستبطن مستقبلها الوردي المفترض لسعادة البشرية. والخلاصة ان مسألة المصير الإنساني يصعب تحديدها بدقة كاملة، وأن كانت النهاية السعيدة تتمتع بنسبة كبيرة من القوة. لأن الإنسانية محاطة بما يشبه التعقل الجمعي رغم هياج الخبل أحيانا. ومع وجود المصلحة النفعية المشتركة عند الجميع، في العيش بسلام وهناء، و الإرادة الإنسانية التي ذللت الكثير من الصعاب. فأصبح الاحتمال كبيرا في أن تسير الإنسانية نحو المصير السعيد عاجلا أم آجلا. .. يتبع

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1143  الخميس 20/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم