قضايا وآراء

الانتقائية في الفكر المعاصر ومتاهاتها (2)

 

تهافت الفكر الغربي المعاصر تحت متاريس الانتقائية

 اذ لا نكيرفي أن ما يتخبط فيه اليوم رجالات علوم الأناسة، والأحياء والطبيعة، من ضروب البلبلة والتيه، ومن تقادم المناهج وتغازرها، وتعملق المعطيات وتزئبقها، وتضارب أدوات البحث بين الأركية وقمة تكنولوجيتها، وانفجارحجم المعارف وتجددها اليومي، قبالة التفجر الديموغرافي واستفحال الظواهرالاجتماعية المستعصية، وتهالك ملايين حالات البحث والتحليل مع غياب الحلول، أفضت الى تماوت العلوم الانسانية وشرود متعاطيها، وانحدارها، حثيثا، الى هاوية التعتيم والفوضوية المستطيرة، زادت من المعميات والغوامض التى تقض مضجع الباحثين الجادين فى مختبراتهم، ومراكز أبحاثهم، تجعلهم يحاولون اعادة النظر فى القديم بالرغم من قدمه، والشك في الحديث بالرغم من جدته، وأفضى اليقين الذي كان من سماة العلوم البحثة في أواسط القرن الماضي الى عدم اليقين بعد موات الفلسفات السابقة، فكانت الضرورة الملحة لاعادة القراءات للمناهج والأفكاربايجابياتها وسلبياتها، بجمع شتات النظريات المختلفة والمتعارضة قصد سد النواقص والهنات، حيث تسمى تارة ب الانتقائية أوالاقتطافية، والتي ما هى فى الواقع الا نوع من الترقيع، تغطية للثغرات والعجز المطلق، والشرود عن ايجاد الأجوبة، حيث يسري هذاالاصطلاح على قسم كبيرمن تلك المحاولات التى فيها نوع من التجميع أي، تجميع الفقرات المتفرقة، أورص الآراء المتقاربة، أوأحيانا تكبيل اتجاه مع اتجاه آخر،

أما عملية الربط السببي أوالمنطقي، والكشف عن مكامن الالتقاء والتوافق بين المدارس المختلفة، فقد اصطلح على تسميتها ب المدرسة التوفيقية لما فيها من محاولات مزجيه جادة في معظمها، ولمحاولة صهرالاتجاهات، وازالة التساؤلات، والتوفيق بين الاختلافات، لكونها تسلم بأن الانسان يتعلم بالتكرار، والتجربة والمحاولات والخطأ، والمراجعة

 

 التوفيقية المعاصرة وتناقضاتها

 لا بدمن التسليم بأن المدارس التي يمكن أن نطلق عليها اصطلاح التوفيقية نادرة، بل انها من النذرة بحيث يستعصي الفصل بين ما هوانتقائي بحث، أو توفيقي بحث، اذالتبس على المقتطفين بين دفتي العلم والفلسفة، أو بين العلم وسائر العلوم الانسانية، تلك الفوارق والشروخ التى تزداد فيما بينها، فكلما ازدادت العلوم البحثة أماما، كلما أصبحت أكثر استحياءوتواضعا، أمام تشعب وتعاظم الحقائق المهولة، بينما تزداد العلوم الانسانية والفلسفية ارباكا وتراجعا، وأصبح الخوض في مفاهيم كانت في عداد اليقينيات في القرن التاسع عشر، أكثر تشويشا، مما تشهده الندوات الفكرية حاليا في الصالونات المفتوحة والمغلقة في العواصم الكبرى الثقافية الغربية

 

 الانتقائية التشويشية فى الفكر العربي العاصر

اما الانتقائية عند العرب المحدثين - في مجالات كل التيارات الفكرية عموما-، فهي مجرد اضافات عشوائية، أو قراءات ذاتية انفعالية ظرفية، تتضخم تباعا دون وضوح، وأصبح لكل المواضيع والقضايا العربية عدة معاني، وعدة تعاريف وقراءات وتفسيرات، تحمل من التشويش والالتباس و التلفيق ما يبعدها عن التوفيقية الحقة، أو التطورية المثابرة، التي يمكن أن تؤدى بالفكرالى النظرة الصادقة ...تلك النظرة الكاملة الوافية فتبدو معظم أفكار ما يسمى بالنخبة أقرب الى التلفيقية والتبريرية المؤدية الى النصب الفكري والنرجسية الفارغة والتفيش الاستعلائي الفارغ.

والنتيجة: ظهورتفسيرات متفاوتة للدين والمتدين، والثقافة والمثقف، والحضارة والتحضر، والفكروالمفكر، والسياسة و السياسي، والمذهب والتمذهب، والأخلاق والتخلق والمقاومة العبثية والمقاومة العقلانية والاعتدال، والوسطية والتطرف والحياد والتهور والانفتاح، والانغلاق، والتجديد، والتقليد، والمعاصرة، والعصرنة، والظلامية، وهلم جرا...، فأصبح الفكرالعربي يسبح في بحار لجية من النسبية السينيكية (1) Cynisme والتحقيرية اللاأخلاقية، والميوعة الفكرية، بدون أي مبدأ واضح يسند هذاءاتها فتختلف رجعية وتقدما، أو ضحالة وعمقا، وفقا للتقلبات الاجتماعية والسياسية، التى يمر بها كل بلدأونظام عربي أومثقف عربي، عندما يتحول الثوري (الماركسي- اللينيني) لفترة الستينات الى مثقف ليبرالي -أكثر من الليبراليين، و متأمركا أكثرمن اليانكي الأمريكي، استجابة لأغراض حاكم، أو جماعة ضغط، أو مجردأهواء حزبية ضيقة، أو رعونة ونزقية خسيسة ذاتية، أولأغراض تكسبية وتسلقية حقيرة عابرة، مما أتاح الفرص في معظم الأحيان لادعاءات المدعين، وسيطرة المتاجرين، وصخب المتفيهقينن، وهذا ما نراه فى مؤتمراتنا، وندواتنا وتجمعاتنا، ثقافية أو سياسيسة أو دينية، فتظهرمأساتنا – نحن العرب-في هذا العصرالضنين، ليس فى لا أخلاقيتنا فحسب، بل فى غياب النزاهة والروح العلمية لدى معظم النخب والمثقفين والساسةوالزعماء

وان حشودالديماغوجيين والمهزومين والمنافقين والمرعوبين والايديولجيين القدامى، لا يزالون يدورون في فلك مصطلحات اصطخابية دوارة سيارة لا تأصيل لها أو تقعيد أوضوابط وتحديدات، مثل الحداثة، والتحديث، والتنوير، والتثويروالتغيير، والوعي، والعقل، والثقافة، والتقدمية العلمية (علما بأنه في السياسية والاجتماع والفلسفة لا يوجد ما يسمى بالنظريات العلمية الا في أذهان بقايا ديناصورات الفكر الثورانى القديم للستينيات، حيث يصبح العلم هنا منحازا)، فيمسي النقاد والسياسيون والصحافيون والمبدعون من غواة ضخ الأطنان من القص والشعارير-والعياذ بالله- أكثر امعانا في الهدر بمصطلحات نبيلة شريفة بالغة التعقيد(2)، مكثفة المعنى والمبنى، بلا مبدأ يقيم أعمدتها، ولا سند فكري أو أخلاقي أوروحي يدعمها، علما بأن الأخلاق أساسها المبدأالمتسامي علىالترهات، فيقاس الرجال بالحق ولايقاس الحق بالرجال حسب الامام علي كرم الله وجهه، ...وأما العلم، .. فمبدؤه الأصل لا الفرع، والا فسنظل نفضل الصورة على الشيء والنسخة على الأصل،

وان الأمم التى يكتب لها الخلود، لهي تلك التى ترفع مصالحها وقضاياها الحيوية الى مرتبة البديهيات والمسلمات..، أما الأمم التي كتب عليها الفناء، فهي تلك التي تبتلى بمن يفسد عليها أمرها، باسم الجدل العقيم، والبحث عن أدلة لاثبات ما تؤمن به الجماهيرقبل أن يوجد المنظرون، كما هو الشأن بالنسبة للعروبة والاسلام، عندما كان تلاحمهما من البديهيات والمسلمات، عند ذوي النوايا الحسنة والفطرية، حتى جاءت النخب السياسية و النخبوية المترنجسة فجعلوهما أعقد من ذنب الضب، بمحاولة ادخال الواقع العربي في القالب الغربي للقومية (قومية بيسمارك، وغاريبالدي، وماتزيني وهتلروموسوليني) ومحاولات الحركات السياسية التلفيقية التي اعتمدت هذه التنظيرات، كاثبات لشرعيتها بالحصول على مطابقة لأهدافها، بموجب تعريفات ونظريات الغرب البائدة، ...- وما يزلون كذلك الى ماشاء الله -، كما تشهدها الساحة الثقافية والسياسية عندنا –  وخاصة في الشرق العربي-طيلة القرن الماضي، ولم تجن الأمة من وراء تلك الأفكار التشويشية -باسم الانتقائية- الا الويلات، فغصت الساحة الفكرية عندنا بانتقائيات ترى منها وفيها عجبا، تحاول كلهاارجاع الفكر العربي الى الرعشات الأولى للوثاث وثنيات الفكر الاغريقي-الرومانى (أمهات البشرية الأولى) متناسين بأن الحضارة بمفهومها الغربي هي ظاهرة انسانية غربية محضة وأن تعريفها الأكاديمي في المعاجم الغربية هي التقاليد – اليونانية – الاغريقية – التوراتية- المسيحية) لأنها نشأت مع الاغريق، وتطورت مع السيادة الرومانية Impirum أو قانون السيادة الروماني، ولقحت بتقاليد سجع كهان التوراتية -والنصرانية الكنسية الغربية -التي هي ثوابثها- بحيث أصبح العالم كما يسميه توينبى في تفسيره للتاريخ بأنه تلك الخلفية الثقافية الحصريةالتاريخية للغرب ومادة الحضارة للجنس الأبيض، أما باقي الحضارت (خارج المنظور الغربي المركزي)، فلا مكان لها في صياغة القوانين العامة للجنس البشري (أنظر مسودات صياغات قوانين كل المنظمات الدولية منذ انشاء عصبة الأمم الفاشلة مرورا بهيئة الأمم المتحدة واليونسكو وغيرها من المنظمات الحكومية وغيرالحكومية)

فالغرب في منهجه الانتقائي، لن يتصين (من الصين ) أو يتبين (من اليابان) أو يتّأفرق أو يتعرب في يوم ما، بينما البشرية جمعاء (من المكسيك الى الصين) مطالبة بأن تتغرب اما بالعصا أو الجزرة، وستبقى الانتقائية -بالمفهوم الغربي- انتقائية تحالية تخفيضية عند قراءاتها لحضارت الآخرين وثقافاتهم ودياناتهم (وأعجب لأولائك العباقرة الذين يقترحون المضي في تطبيق أطروحات الحداثات الغربية العرجاء (فالغرب يتحدث عن الحداثة بصيغة الجمع بينما بني يعرب يحدثون عها بصيغة المفرد، لكون الحداثة –بالمفهوم الغرب الأكاديمي ليس لها أي تعريف ليكسيكي محدد) حيث ان الحداثيات الغربية تستدعيها ضرورات تسارع حاجيات الغرب الفورية والفردية ‏والخصوصية، سعيا للاجابة على تساؤلاته المستمرة وصراعاته المتواصلة مع نفسه ومع الأغيار، التى هي من مميزات كيان الغرب العام، التىلا يخرج عنها في تفاعله ‏اليومي، مع الارتجاجات التي تصيبه مع الآخر، (وحضور الآخر هاجس يقض مضجع الغربي منذ سقراط و أفلاطون ‏وهوميروس الىالعلامة فرايزر وفرويد وصولا الى سارترو هابيرماس)، وهذه من صلب طبيعة الغرب الجوهرية-لمن لا يعرفه من ‏الداخل ابيستيمولوجيا-

 وبالتالي، فان المجتمع النامي الناهض الذي يدعى أنه ينتقل من القديم الى الجديد، ومن التقليد الى التجديد، ومن التسليم و الاستسلام الى التفكيروالتحليل والتركيب و العقلنة، ومن الموروث والمتوارث الى النقد المنهجي، لفي حاجة الى التنوير أولا (الذي لايقتصرعلى المعنى الفولتيري للمصطلح، فكل الحضارات البشرية المتنوعة تملك رصيدها التراثي التاريخي لخصوصية مفهمة التنوير)، ومراجعة النفس واصلاح عيوبها، و تلمس ألاعيب وأسراردروب ومعاريج اعوجاجاتها، أكثرمما هو في حاجة الى التثوير، و بهرجات التغيير، ..فالتنوير شرط التثوير، ... والتثوير بلاتنوير واستبصار وتخلق، مجرد تغييراجتماعي فولكوري فج عابر، تستطيحي وزائف، أوانقلاب كوميدي في الأوضاع، تحدثه سلطة زائفة طارئة، أو نخبة نرجسية مسيطرة، وهذا النوع من التثوير، سرعان ما يتغيربتغيرالسلطة وأذنابها، ويدخل في لعبة النظام القائم كما عايشناها في التغييرات الثورية منذ القرن الماضي، (وخاصة في المشرق العربي) وكما شاهدنا وعاينا، بأن كل تغيير اجتماعي حدث في أي مجتمع عربي، انما كان على أسس نظريات تلفيقية ارتجالية متهورة وعجولة، لا بقاء لها الا ببقاء السلطة الضامنة لها، والنخبة المروجة لها، وبالتالي تظل التغييرات سطحية، والنتائج كارثية، بحيث لا تحدث تأثيرا جذريا فعليا، ولاتخلق وعيا، ولا يزداد بالتالي المستقبل الاعتمة وظلاما، والأمة أشد ارتكاسا وتقهقرا..

 

[email protected]

باحث مغربي في الأنثروبولوجيا بباريس

 

....................

Cynisme(1) بالفرنسية أو Cynicime بالانجيزية : مصطلح منسوب الى المدرسة الفلسفية الاغريقية القديمة المسماة بالمذهب الكلبي (ق4ق.م) التي كانت تتخذ موقف الاحتقارمن العادات والتقاليد الأخلاقية الفاضلة الأثينية، مما أدى بهم الى احتقارقواعد السلوك المتعارفعليها والى انتهاكات كل مكتسبات الفضيلة، وأطلق على هؤلاء الفلاسفة في علوم الأناسة بالكلبيين، ولقدارتبط المذهب الكلبي انتقائيا بنقص الرؤية الكاملة للانسان وهي النزعة الغالبة على مذاهب الأناسة في الفكرالغربي حيث اشتهر شوبنهور بتحقيره للشرق واعتبر انجازاته الحضارية ما كانت الا دفعا للسأم والعبث والفوضى، كما انه لم يعرف عن كبار منظري الأطروحات الفلسفية في الغرب أي المام بلغات الشرق ولا تصوراتها الكوسمولوجية-الامن بعض الاقتطافات السطحية-كما اعترف أفلاطون نفسه في حواراته،

 كما أصبح مصطلح الكلبية أو السينيكية بالمفهوم الأدبي منذ العشرينات هي سمة للشخصية التي تتميز بالاحتقار الصريح البواح للتقاليد والأعراف والأخلاقيات المتوارثة

 

 

 

 

في المثقف اليوم