قضايا وآراء

سيرة غير مروية عن الشاعرعبد الوهاب البياتي الذي إستحق (عتب) بغـداد !!

او اني اخوض في مجال لم اعُرف به سابقا، كأن الثقافة والادب في عرف هذا البعض، يافطة يرفعها المرء للتعريف بكونه (اديب او ناقد اوقارئ)!!!

لكني عزمت في مسعاي..فأقول ها هي السنوات تترى بسرعة، لتؤشر لنا (انها الذكرى العاشرة لرحيل البياتي، شاعر الحداثة والغموض والاسئلة والمواقف المتباينة ..الخ...)

 

 إذن، عقد من الزمن مضى على رحيله !!

كتب الكثير وقيل الكثير عن البياتي، مبدعا وانسانا وموقفا وتأريخا، غير انني رغم صعوبة ما سأشير اليه، اكشف الستارة، للمرة الاولى، عن اللحظات التي سبقت اعلان وفاته ..هي لحظات شابها، القلق والوجوم والترقب والخوف..كيف؟؟

الثلاثاء (3 آب 1990) تأتي مدبرة منزل الشاعر البياتي، كعادتها صباحا، لتقوم بواجبات التنظيف والطبخ، فالبياتي يعيش في فيلا جميلة، فخمة، بمنطقه المزة الراقية فى أجمل بقاع دمشق الشام، وحيدا، وفرتها له الحكومة السورية ليعيش في دعة وسكون بعد (غربة)، قضاها في اقطار جميلة اختارها بدقة مثلما يختار كلمات قصائده فتنقل في رحلات، اشبه ما تكون برحلات السندباد .. فالطير الساكن في خفايا البياتي، لم يقوى على الغناء حتى لو كان في قفص من ذهب، طير يحب ان يغرد في فضاءات متنوعة فسيحة .. تفتح المدبرة باب الفيلا .. تتقدم كعادتها الى باب الصالة الرئيسة، بخفة فالبياتي فى مثل هذا الوقت يرقد في سريره بعد سهرة او قراءة او اتصالات هاتفية او مشاهدة التلفاز، او البحث ..تتفاجأ السيدة ..بمنظر البياتي وهو مرفوع الرأس الى الاعلى، وسط مكتبه ..بلا حراك .. حتى وهي تحدث جلبة ممزوجة بالاندهاش الانساني..ووسط ذهولها تهرع الى المسؤولين عن المحيط الذي تتواجد فيه الفيلا، لتخبرهم بما شاهدته ..

 وقبل ان يأتي الجميع الى مكان تواجد البياتي، يطلب المسوؤلون عن المبنى، الاتصال بأحد الاصدقاء والمعارف المقربين من البياتي .. ولم يكن هذا الصديق سوى الكاتب الاستاذ حسن العلوي.. الذي يُصدم بالخبر، فيطلب الى ابنه (عمــر) مصاحبة المتصلين الى محل سكن البياتي ..والمشهد كما ذكرته... الشاعر الكبير رافعا رأسه كأنه يريد ان يستنشق الهواء، متكئ الى مسند كرسيه، فاقدا الروح !..

وتنسدل الستارة عن البياتي، جسدا، بعد 73 عاما، وتبقى مفتوحة عليه، شاعرا متألقا..

كان بودي، ان لا اصف ..هذه اللحظة، لحظة اكتشاف الحدث المأساوي، لكن قناعتي، بأن للراي العام الحق في الاطلاع على كل ما يهمه من امرمن تسّيد موقع الشخصيات العامة عن جدارة طيلة عقود من الزمن، وهذه هي مشيئة الله وكلنا فانون، والسعيد فينا من يتذكره الناس في موقف نبيل وابداع اصيل !!!

الباحثون، تعمقّوا كثيرا، في دراسة عبد الوهاب البياتي، شاعرا، غير ان القليل منهم تطرق الى الجوانب النفسية له .. ولي في هذه الجزئية، وقفة، أجد من المفيد إيرادها، اذ ربما يتنبه لها من يريد دراسة جوانب غير معروفة من حياة هذا الشاعر ..

في احد أعوام ثمانينات القرن الماضي، كان البياتي في زيارة لبغداد، وأقول (زيارة) وآنا عني ما آ رمي اليه، اذ ان وجوده كان في بغداد، استثناءا، ومكوثه في خارج البلاد كانت هي القاعدة !!!..بالرغم من كونه كان موظفا عراقيا، حيث كان يشغل منصبا رفيعا هو موقع الملحق الثقافي للعراق في اسبانيا، واستمر في هذه الوظيفة 15 عاما ..وهي اطول مده يقضيها موظف عراقي في الخارج .. وكان المثقفون العراقيون يتندرون على طول الفترة بقولهم (البياتى المدلل)!!

وفي اثناء تلك الزيارة، دعاه الكاتب المعروف ..عزيز السيد جاسم، الى امسية في مطعم (خان مرجان) وهو مطعم تراثي عريق اشتهر بتقديم المقام العراقي لزواره و(البستات البغدادية)..وكنت مدعوا ايضا، ومن سؤ الصدف ان مصور هذا المطعم، التقط لنا صورا عديدة، لكنه لم يكن مقدرا (تاريخية)هذه الصور، اذ اظهرت من المؤكولات والمشروبات التى احتوتها المائدة اكثر مما اظهرت الحاضرين..ومكان هذه الصوراصبح الان .. الالبومات ونشرها ربما يجعلنا في صف اهل الزندقة والفسق !!

وتعكس ذاكرتي المشهد التالي: الشاعر البياتي جلس وسط الطاولة فيما كنّا على جانيبه ..وماهي سوى دقائق حتى غيّر جلسته، ليصبح الاستاذ عزيز في الوسط..

ويبدأن الكلام، في شؤون الادب والصحافة والثقافة، مرة يتفقان، ومرات يختلفان، حتى حرّت في كيفية جعل ميزان الجلسة يميل الى التوازن، خوفا من مجهول، بنيته على معرفة الاعتداد الزائد بالنفس الذي يحس به، الداعي والمدعو، ومابينهما من ضيف، شاهد، لاحول له ولا قوه ..الا التهدئة..!

 

ويتنصف الليل ..وتقفز عقارب الساعة بسرعة الى الثانية صباحــا، لم يتبقى إلا ثلة قليلة من الرواد، ينهض الاستاذ عزيز الى دورة المياه..

وبعده بلحظات ينهض البياتي من مكانه، بغة ليصطف الى جانبي لأرى عينيه تميلان الى حمرة واضحة، وبين اصبعيه سيكارة، ربما كانت الاخيرة، اذ كنت آلاحظه شرها في التدخين، ولم يطفئ سكائره منذ ان جلس.

وبدارني بسؤال غريب: منذ متى تعرف الاستاذ (ابو خولة)؟؟ولمــاذا لم يدعو اخرين؟؟

أجبته: منذ فترة طويلة، فأسرع قائلا: هل تعتقد انه (إنزعج) مني في نقاشى معه؟؟ وهل وجدته عصبيــا؟؟ وهل تعتقد انه سيقف مني موقفا عدائيا؟؟

فبهت، ولم ادري مااقول! .

وفي هذا الحين، عاد الاستاذ عزيز السيد جاسم، فلاحظ ان البياتي غّير من جلسته .. وجلس في مكانه، وعندما اراد البياتي ان يستقر على كرسيه السابق، ربت السيد جاسم على كتفيه، طالبا منه اكمال حديثه .

وسقط بيد البياتي، وقال، مرتبكا: اي حديث، قال السيد جاسم: الحديث الذي من اجله قمت لتجلس محلي..داريت الموقف، بضحكة قائلا: كان الاستاذ البياتي يشيد بدعوتك وكرمك !!

وانتهت الدعوة ..لكن صورة البياتي، القلق، غير الواثق من نفسه، لم تزل في ذاكرتي .. وجدته غير متماسك كثير، الشك، كثير التشكي، لم يكن على موقف واضح، من ايه قضية طرحت، غمز من قناة العديد من الشعراء العراقيين المعروفين (وكلهم يكنون له الحب)لكن كل ما جرى من عصبية في تلك الدعوة، ضاع واضمحل ..

حين اخذ البياتي يشدو بقصيدة رائعة، وقد طلبت منه كتابة بعض ابياتها، ففعل ولازلت احتفظ بتلك الابيات، بخط البياتي ... وهي..

(كقطرة المطر

كنت وحيدا

اه ياحبيبتي، كقطرة المطر

لاتحزني

شأستري غدا لك القمر

ونجمة الضحى

وبستان من الزهر

غدا اذا عدت من السفر

غدا اذا اورق في ضلوعي الحجر

لكنني، اليوم، وحيد

اه يا حبيبتي

كقطرة المطر)

 

وفي اليوم التالي، كان البياتي في طريقه الى بيروت ومنها الى القاهرة..والى حيث لا ادري !!!

 

 اذا رحل البياتي، وانقضت سنين عشر على ذلك الرحيل .. في حياته كان الرجل محور نقاش مستمر، وكم كان فرحا عندما يتردد اسمه، واذا خلا اسبوع واحد دون ان تجري معه صحيفة او محطة تلفاز، حوار فأنه يشعر بالقلق، فتراه يختلق المناسبات ويصطنع الاثارة، ليكون في واجهة الحدث..

كان مشاكسا، عنيدا، في السجالات الثقافية، خالعا ثوب المشاكسة والعناد عند الضرورة وعند المصلحة الشخصية !! مواجهاته كانت تجري في العلن، واعتذاراته كانت تتم في الكواليس.!!.

سألته مره صحيفة (العلم) المغربية عن رأيه في محمد الفيتوري وفي شعره..فكانت اجابته..تنم عن نزعة فوقية بقوله.. (لي صدقاء يحملون هذا اللقب وانا لم اعرف شاعرا بهذا الاسم)!!

وعندما سئل عن رأيه بنزار قباني قال: (يعتقد بعضهم انني ضده، في حين اني ضد اساليبه وتهريجه بأسم الشعر) ويضيف (حداثة نزار جاءت متأخرة، انه يكتب دون ان يعاني، وهو لا يرتبط بهّم انساني، اما جمهوره فأمّي) !!

رأيان قاسيان للبياتي في محمد الفيتوري ونزار قباني، لكنهما بتقديري يعبّران عمّا في نفسية البياتي ومايحمله من رؤى جارحة للاخرين .. ويتفق معنا فى هذه النقطة، الدكتور رياض عصمت الذي يعتبر احد الضالعين والمتخصصين في شعر البياتي فيقول في مقالة بعنوان "مسافر بلا عودة ":

(تقلب عبد الوهاب البياتي، في كثير من الامور خلال حياته التي امتدت عبر 74 عاما، فكان يقترب من السلطة الحاكمة حينا، ويبتعد عنها احيانا .. كان يهاجم الرومانسية، ثم تراه شغوفا بالحب والتصوف والغنائية .. وكان يبدو شديدا في التطرف العقائدي، ثم تجده عاشقا محترفا وفوضويا يعشق لذائذ الحياة .. وكان زاهدا بالجاه والمركز، لكنه كان يتصلب فجأة في صفقات نشر كتبه او ظهوره الاعلامي .كان متمحورا حول ذاتة)).!

وحول ذات الموضوع، وصف الشاعر احمد عبد المعطي الحجازي البياتى في دراسته "محاوله لفهم الشاعر" (أعلم علم اليقين، ان البياتي لم يكون موضوعيا مع احد ولا حتى مع نفسه)!.

وقال قاسم حداد في موضوع عن البياتي بعنوان "البياتي على الكرسي الهزاز" (الامر الذي يستدعي الصبر مع عبد الوهاب البياتي، يتمثل في شهوة الاستحواذ على الحضور الشخصي والفردي وهي طبيعة اصبحت بفعل التقادم، واحدة من خصائص شخصيته ...)!

وايضا، قال عنه رجاء النقّاش في مقالته "سلطان الشعر" (كان البياتي، ناقدا للحياه وناقما عليها، فشعره ينبع من عدم الرضا وليس من الرضا).!

والبياتي في رأى الاستاذ محمود الريماوي الذي ثبته بمقالة عنه "هاجس التحولات الكبرى" (كان البياتي ظاهريا، يمثل البراءة، لكنه كان باستمرار يميل الى الغضب، لأبسط الاشياء، كان عدوانيا في كثير من المواقف التي لا تستدعي ذلك)!..

ان الوجه الحياتي الاخر للبياتي، يصفه الاستاذ سيف الرحبي في دراسته "لياليه المزهوة فرحـــا" بدقة فيقول (ان الوجه الذي ينضح في شعره وان لامسه من بعيد، عبر الكلمات والاقنعه، لكنه يبقى منفصلاعن جسدها الحقيقي، فمتاهة وجوده وتشظيه وعبثه وعلاقته التدميرية بالاخر..لا تتضح في عقلانية شعره ..!!!

ولد البياتي، في رصافة بغداد، قرب ضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني في عام 1926، ومن غريب الصدف ان يشهد ذلك العام، ولادة رائد الشعر الحر بدر شاكر السياب، والشاعر بلند الحيدري والكاتب جبرا ابراهيم جبرا، وقد صدر اول دواوينه (ملائكة وشياطين) عام 1950 وبعد اربع سنوات، صدر له ديوانه المهم، طير السعد، بالنسبة له (آباريق مهشمه) ثم توالت إصدارته لتصل الى 18 ديوانا، ومن المثير للدهشة عندى ومحل لاستغرابى، ان البياتي لم يختر بغداد التي احبته، وقدمته للعالم، لاصدار العدد الاكبر من دواوينه ..بل طبع في بغداد ديوانان فقط، اولهما ديوانه الاشهر (اباريق مهشمة) وديوان اخرهو (قصائد حب على بوابات العالم السبع) وهنا اتساءل ويتساءل غيري هل ان بغداد التي بشّرت بالبياتي شاعرا، من خلال اشهر دراسة نقدية ادبية كتبها، الدكتور احسان عباس 1955، تناول فيها شعر البياتي بالدراسة والتحليل وعقد مقارنة بينه وبين الشاعر العالمي (اليوت).. اظن ان السبب كون (حليب) بغداد، لم يكن (مدرارا) واصيلا، ففضل عليها عواصم اخرى.. وهنا اقول ان بغداد الحبيبة، عصية، على النكران، واكبر من الجميع.. وتبقى منارة الهدى لمن رضع من ثديها الطاهرين.

ونترك لغة الملاحظات والعواطف ونتساءل بعد مرور عشر سنوات على رحيل البياتى، حيث نام نومته الابدية، مثلما اراد الى جانب ضريح مثله الأعلى الفيسلوف الصوفي (محي الدين بن عربي) في سطح جبل قاسيون، هل ان البياتي هو مسك الختام بالنسبة لحركة الشعر الحديث ؟؟ ام ان تربة العراق والوطن العربي مازالت حية وستعطي، كما اعطت في سالف السنين، نماذج كبيره مثل البياتي والسياب والملائكة!؟

واقع الحال يقول ان في الساحة العربية الان نماذج رائعة، لكن الاعلام والمواقف السياسية، حجّمت من إٍستمرار ظهور اسماءهم .. ثم ان، المناخ الذي عاش فيه البياتي، لو توفر لشعراء مازالوا يستنشقون هواء الحياة، لبرزوا، واصبح لهم شانا في الادب العربي ..

ونحن بأنتظار الأتي من المبدعين .. وهو قادم وأراه امامي .. فلنفسح المجال لهذا القادم وهو موجود كما قلت، لكنه ضائع في لجّة العولمة وهذا الذي اتحدث عنه، ليس انسانا بعينه، انما مجمموعة كبيرة لاتعرف اللعب في سيرك الحياة وسرقة الاضواء، كما لم يتبقى من يقدم المبدعين مثلما فعل اديبنا الكــبير احسان عباس وغيره ..

خمسون عاما، صال وجال فيها البياتي، شرّق وغرّب اعطاه العراق ما يحلم به، لكنه لم يوفي العراق.. كرمه !!..

 غير ان ذلك لايعني ان البياتي الشاكي والباكي في نفس صوفي، للمختلف ضده والمتفق معه يبقى واحدا من علامات جيله..ليس اشدهم تأثيرا، لكنه من اكثرهم انتشارا .. كان ذكيا بما تقتضيه شروط الانتشار، على مستويات المرحلة وتلويناتها السياسية والرمزية والمؤسسية ..

 

اخيرا ...

في احدى فقرات حوار أجراه مع البياتي الأستاذ "محمد شعير" قبل رحيله قال الشاعر عن برنامجه اليومي (انام في الخامسة صباحا، لمدة ساعتين، افكر كثيرا ليس بسبب القلق، ولكن بسبب الشعور بأن روحي اصبحت كالفجر والشمس والليل والنهار ..اجلس ساعات طويلة في نفس مقعدي هذا، منحي الظهر لاربع ساعات او خمسة لاافكر بشيء، اذ اشعر كأني امام شاشة بيضاء)!!!

وفعلا، انتهت حياة البياتي في سيناريو يومه الاعتيادي المعاش !!

رحم الله ابا علي، الذي استوطنه اليأس، والقرف والمرض، اخر ايامه..

كان مثل الذي يقف مستلما، بأنتظار الموت الذي جاءه في هزيع الليل الاخير، فلن يحس بعد ذلك، بزائره اليومي الثقيل (الربو)، ولم يعد يكتب رسائله بأقلام (الماجك) حيث تعبت عيونه ولم يعد يميز الحروف الا بكتابتها مكبرة بعشرات ...المرات!!

 

[email protected] 

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1151 الجمعة 28/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم